لم يتردد الجواهري ذات يوم من الاعلان- بوضوح لا ينافس، وبصوت هادر- عن مواقفه، وترسيخ رؤاه في الإباء والشموخ والفداء، وذلك في فرائد عديدة، وقصيد زاخر بالابداع… وإذا ما اختلفت في الصورة والاستعارة، فهي متشابكة في المفاهيم ومباشرة في المقاصد… وفي مقابل ذلك تماماً، لم يجامل الشاعر العظيم أو يهادن في هجو الخنوع والانحناء، كما وأولئك المقيمين على الذل، بل وحتى من يتوسط “كاللبن الخاثر” وغيرهم من اللاجئين “لأدبار الحلول فسميت وسطاً، وسميّ أهلها، وسطاء”..
ولربما نجتهد، ونصيب، فنرى في قصيدة “آمنت بالحسين” المنشورة عام 1947 مجمعاً للشواهد والأدلة الأبرز عن تلكم المفاهيم الجواهرية المتميزة… فالمطولة ذات الاكثرمن ستين بيتاً ، تفيض من مطلعها، وحتى ختامها، بآراء ومقاييس بالغة الرفعة في تبجيل “الواهبين النفس” فداءً للمبادىء التي يؤمنون بها، وتلكم بلا شك التضحية الأضخم للدفاع عن القيم والذود عنها… كما يرى صاحب “آمنت بالحسين” فيقول:
فـداء لمثـواك من مضـجـع … تـنـوّر بـالابلــج الأروع ِ
ورعياً ليومـك يوم “الطفـوف” … وسـقياً لأرضك من مصرع ِ
تعـاليت من مُفـزع ٍ للحتـوف … وبـورك قبـرك مـن مَفزع ِ
وهكذا، وبدءاً من بيتها الأول يحدد الجواهري الاتجاه الذي يريد قوله في تضحيات الحسين الثائر و”نهجه النير” الذي بات “عظة الطامحين العظام” لاولئك “اللاهين عن غدهم” والقنوعين دون احتجاج وتمرد أو ثورة… كما يفيض عديد آخر من أبيات القصيدة بعواطف ومشاعر انسانية فائقة التعبير في تقديس الثبات والصمود لرجل يوم “الطفوف” و”الملهم المبدع” الثابت أمام “سنابك خيل الطغاة” دون خوف أو رهبة، وبهدف أن يندحرَ “جديب الضمير بآخر معشوشب ممرع”…
شممتُ ثـراك فهب النسيم … نسيم الكرامـة من بَلقـع ِ
وطفت بقبرك طوفَ الخيال … بصومعـة المُلهـم المبدع ِ
تعـاليت من صاعق يلتظي … فـان تـدجُ داجية ُ يلمـع ِ
وفي مقاطع أخرى من القصيدة يتمثل الشاعر مأثرة الحسين التاريخية، ويمحص الأمر دون أن يرتهب من “الرواة”، أو يخدع بما ينقلون، هادفاً للحقيقة لا غيرها، وبدون تزويق أو مبالغات… وبعد ذلك فقط، يجد الجواهري أن في فداء الحسين دفاعاً عن مبادئه، وقائع لا أعظم منها، وفي سبيلها ” يطعم الموت خير البنين، من الكهلين الى الرضّع”…
ثم تعود القصيدة لتجدد في الختام تقديس ذلك الصمود والعطاء الذي “نوّر” ايمان الجواهري، وفلسفته في الإباء والفداء والتي تجسدت، كما سبق القول، في الكثير من قصائده ومن بينها “بور سعيد 1956″ و”كردستان … موطن الأبطال 1962” و”فلسطين الفداء والدم 1970″، فضلاً عن قصــائد الوثبـة، الشـهيـرة، عــام 1948… ومما جاء في ختام “آمنت بالحسين”:
تمثلـتُ يومـك في خاطـري … ورددت “صـوتك” في مسـمعي
ومحصـت أمـرك لم “ارتهب” … بنقـل “الرواة” ولـم أخــدع ِ
ولما ازحـت طـلاء “القرون” … وسـتر الخـداع عن المخـدع ِ
وجدتـك في صـورة لـم أُرعْ … بـأعـظــمَ منهـا ولا أروع
وللاستزادة، نقول أن القصيدة نشرت في جميع طبعات ديوان الجواهري، ومنذ العام 1951، وقد خُط خمسة عشر بيتاً منها بالذهب على الباب الرئيس للرواق الحسيني في كربلاء، كما أُنشدت، وتنشد، منذ عقود والى اليوم في مختلف المجالس والمناسبات الاحيائية لواقعة “الطف” التي تصادف كما هو معروف في الأيام العشرة الأولى من شهر محرم، كل سنة.