مع زيادة التخصصات في العلوم العقلية والنقلية والتجريبية والوجدانية، تعددت الكليات والمعاهد المنبثقة عن الجامعات الكبرى في سبيل أن تستوعب الأعداد المتزايدة من الطلبة والمتعلمين، ولاسيما وأن الشهادة الجامعية كانت ولازالت من أمضى الأسلحة للمتخرج وهو يشق بقاربه عباب الحياة وأمواج المصاعب وهو في مقتبل العمر.

ويُلاحظ في مدة الدراسة وجود اختلاف من جامعة إلى أخرى ومن كلية إلى أخرى حسب نوع الاختصاصات والدراسات، فبعضها تمنح الطالب شهادة تخرج بعد سنة وبعضها بعد سنتين وأخرى بعد ثلاث سنوات ورابعة بعد أربع سنوات وخامسة بعد خمس سنوات تتبعها سنتان للتطبيق، وإذا أحب الطالب في بعض الاختصاصات المزيد من العلوم فهذا يعني المزيد من الدراسات والتطبيقات والشهادات وهو ما يكلفه المزيد من السنوات، ولعل من أهم ما يميز الاختلاف في السنوات هو نوع وطبيعة الاختصاص، فكلما كان خطيراً وعلى اتصال مباشر بالناس كانت مدة الدراسة أطول والدراسة أعمق، وهذه الدراسة لا تتأتى إلا بعد حصول طالبها على معدلات طيبة في الدراسة الثانوية والإعدادية تتيح له الحصول على مقعد في هذه الكلية أو تلك، من هنا يجهد الطالب نفسه للحصول على معدلات عليا للظفر بجامعة فضلى، لأن مستقبل حياته مرهون بما يحصل عليه من شهادة في هذا الاختصاص أو ذاك.

ومن الكليات التي تأخذ من الطالب جهداً كبيراً هي كلية القانون، وتختلف مدة الدراسة فيها من بلد إلى آخر فبعضها أربع سنوات وبعضها خمس سنوات، وبعضها يُلحق بالسنوات الخمس سنة أو سنتين للتطبيق حتى يأخذ المتخرج صفة رجل القانون أو المحامي، وبالطبع لا نعدم بعض الدول استقبالها الطلبة في كلية القانون بمعدّلات قليلة وبسنوات قليلة مما هو عليه دراسة القانون في الغرب التي تأخذ من الطالب جهداً وسنوات طويلة من الدراسة والتطبيق حتى يستطيع الوقوف على رجليه.

ولأن الدراسة في مثل هذا الاختصاص عميقة وربما معقدة، فإنها هي الأخرى تعددت فيها الجامعات والكليات، والمحامي الذي يتخرج من هذه الجامعات لا يكون مؤهَّلاً لكل جنبات القانون، فهي الأخرى لها مسيسُ الحاجة إلى دراسات تخصص، من هنا فان شركة المحاماة الناجحة هي التي تتوفر على محامين في جميع الاختصاصات بحيث يجد صاحب القضية ضالته عندها.

 

خطيرة وشريفة

ربما قد يستسهلُ البعض مهنة المحاماة، ويرى أنها لا تتطلب جهداً كبيراً كما تتطلبه الدراسة العلمية، ولكنها في المحلصة النهائية لا تقل خطورة عن دراسة الطب، فالأولى يتعامل بها المحامي مع معاناة الناس الحقوقية والنفسية والثاني يتعامل بها الطبيب مع معاناة الناس الجسدية والروحية، وحتى نعرف أهمية هذه المهنة الخطيرة يأخذ بنا الفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في كتيب “شريعة المحاماة” في رحلة معرفية عبر 84 مسألة فقهية مع تمهيد غني، أُلحقت به مقدمة علّق فيها آية الله الشيخ حسن رضا الغديري على 30 مسألة، أبانت عن رؤية فقهية من واقع الحال تجاه مهنة المحاماة، وقد صدر الكتيب حديثا (2015م) في 48 صفحة عن بيت العلم للنابهين في بيروت.

والمحاماة قضية خطيرة فهي وكالة لدفع باطل واسترداد حق، ويحضرني هنا أن شقيقي الأكبر الأستاذ عبد الإله رشيد الخزرجي، عندما أنهى دراسة القانون من كلية المستنصرية ببغداد عزف عن العمل بشهادته وفضّل مواصلة العمل في دائرة الطرق والجسور كمراقب عمل إلى جانب دراسته الفقه والأصول في حوزة كربلاء المقدسة، وقد سألته عن ذلك، فقال إن المحاماة مسألة خطيرة وأخشى أن أقع في مغريات الحياة وأُبطل حقاً وأُحقّ باطلاً وإذا مارست ذلك فإن الأجر الذي أستوفيه يدخل في باب المال السحت الحرام، ولكنه وظّف دراسة القانون فيما بعد عندما أصبح أستاذا للفقه في حوزة طهران عند هجرته القسرية الى سوريا ثم إيران، من هنا فإن الفقيه الكرباسي في التمهيد يؤكد: (إنَّ للمحامي دوراً عظيماً وشأناً خطيراً، فلا يجب أن يطرق أبواب المحاماة مَن هم من ضعاف النفوس، والقاصرين في فهم القوانين وقليلي الخبرة في هذا المجال)، وخطورة المهنة تأتي من المسؤولية التي يتحملها المحامي كوكيل عن صاحب الدعوة أو المدعى عليه، ولهذا يؤكد الفقيه الغديري في المقدمة حقيقة مهمة كون: (للمحاماة آثار كثيرة ومتعددة في المجتمع الانساني، مادية ومعنوية، عينيّة وحقوقية، نوعية وشخصية، علمية وعملية، والمحامي يتحمل مسؤولية الدفاع عن الموكِّل وهو أمر خطير جداً وليس بسهل، لكونه أميناً على ما وُكِّل، وأداء الأمانة والوفاء بالعهد والعقد مما استقل به العقل قبل النقل، والاعتبار قبل الشرع).

والمحاماة بشكل عام كما يشير اليها الفقيه الكرباسي: (عملية الدفاع عن حقوق الآخر، وفي الاصطلاح: هو القيام مقام صاحب الحق بإذنه، سواء بأجر أو من دون أجر، والمحامي هو الوكيل الذي يقوم بالدفاع عن الذي وكَّله)، وبتعبير آخر: (المحاماة: هي عملية الدفاع عبر القانون السائد، والمحامي: هو الذي يدافع عن الآخر بالسبل القانونية)، وعليه فإن المحاماة تقوم أركانها على سبع: المحامي، الموكل عنه، العقد، الأجرة، الموضوع ، والقانون.

ولأن المهنة خطيرة فيها تنظيم الحقوق فهي شريفة، ويؤكد الفقيه الكرباسي: (إن هذه المهنة لابد وأن تبقى شريفة ولا تُستغل فيما فيه الفساد، أو معاونة الظالم، ولا تكون مورداً لكسب المال فقط دون النظر إلى تحقيق العدل الذي هو نواة هذه المهنة)، من هنا فإنه: (يجب أن يكون المحامي قوي الشخصية بحيث لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يُبتز بل ولا يهتز بالتهديدات والمثبطات لأنه يجب أن يعلم أن هذه المهنة خطيرة وشريفة).

 ومقتضى الأمر أن على المحامي أن يدرك التالي:

أولا: إن المهنة شُرعت للدفاع عن الحق.

ثانيا: إن المحامي يدافع عن موكله، وهذا يعني: (أن يبحث عن قانون أو حكم شرعي يمكنه من مساعدة موكله وإخراجه من ورطته من دون المساس بالأحكام العادلة أو الأحكام الشرعية).

ثالثا: على المحامي كما يشير الفقيه الكرباسي: (أن لا يرتشي أو يعمل لأجل المال، فمن دفع له الأكثر قلب الموازين لصالحه وعمل على مخالفة الأحكام الشرعية أو القوانين العادلة، وقد ورد عن الإمام الصادق(ع): الرشى في الحكم هو الكفر بالله). والمحامي المرتشي خارج من رحمة الله ودخل فيمن لعنهم رسول الله وهم: من نظر إلى فرج امرأة لا تحل له، ورجلاً خان أخاه في امرأته، ورجلاً احتاج الناس إلى تفقُّه فسألهم الرشوة.

رابعاً: أن لا يكون شاهد زور، فيدعوه الفقيه الكرباسي: (أن لا يستند إلى ما يعلم أنه غير صحيح لإعطاء الحق لموكِّله).

خامسا: وزيادة في الأمانة كما يؤكد الفقيه الكرباسي: (إذا بان عنده الحق، لا يحق له أن يحجب عن الحق أبداً، فعليه إما أن يترك أمر الدفاع عن موكِّله أو ينطق بالحق الذي توصل إليه)، ومن مقتضيات المهنة: (أن يتراجع المحامي عن أمر إذ أخطأ، والاعتراف بالخطأ فضيلة ما دونها فضيلة).

 

النزاهة قبل الدين

ربما يفهم من خطورة المهنة وشرافتها أنها تتطلب محامياً يحمل صفات العدالة كاملة حتى يخوض غمارها لاسيما في المحاكم الإسلامية وربما هو ما يتبادر إلى الذهن، لكن الشيخ الكرباسي يميز بين شخصية المحامي كإنسان يعيش في وسط اجتماعي وشخصيته وهو يمارس عمله، فلا ينبغي أن تؤثر شخصيته الذاتية على مسار عمله بما يؤدي إلى الإجحاف بحق موكله، ولهذا فالأهم كما يؤكد الفقيه الكرباسي: (أن يكون شخصاً أميناً يحافظ على مصلحة موكله) والأمانة والإخلاص في العمل لا تتطلب العدالة الفقهية وإن كانت هي مطلوبة ومحبوبة بذاتها، ولكن والقول للشيخ الكرباسي: (نريد القول بأن المحامي لا يُشترط فيه أن يكون عادلاً بالمعنى الفقهي بل يكفي بأن يكون أميناً ليكسب ثقة الناس ويكون تمثيله مناسباً، وإذا ما كان صادقاً مع نفسه وربّه وموكِّله حين تلبُّسه بالعمل، فإن هذا يكفيه حتى وإن كان خارج عمله لا يتورع من تناول ما هو محرّم أو عمل ما هو محرّم)، وزيادة على ذلك كما يؤكد الفقيه الكرباسي في التمهيد: (لا يشترط في المحامي والوكيل أن يكون مسلماً ويجوز أن يكون المحامي غير مسلم حتى في الأمور التي لها ارتباط بالقوانين الإسلامية كالإرث والوصية إذا كان عارفاً بها، وذلك لأن المهنية هي الأهم وهي المقصودة في هذا العمل، وهذه تسمى أخلاقية المهنة).

وزيادة في التفاصيل في هذه المسألة التي قد يراها البعض خلافاً للعدالة الإسلامية، يؤكد الفقيه الكرباسي أنه: (يجوز أن يكون المحامي (الوكيل) غير مسلم من أهل الكتاب أو من الكفار أو المشركين أو الملحدين) لكن الفقيه الغديري في تعليقه على المسألة  يشترط: (أن لا يكون مورد المحاماة أو الوكالة من الأمور الشرعية بمعناها الخاص أو من الحقوق الدينية بمفهومها الإسلامي، وذلك لإمكان الغدر والخداع أو الشبهة). وزيادة أكثر كما يرى الكرباسي: (يجوز أن يكون المحامي مرتدّاً، سواء كان مرتداً فطرياً أو ملِّياً)، والجواز جار كذلك: (إذا غيّر المحامي عقيدته، فلا يضر بوكالته ما لم يؤثر في مجرى القضية)، ولكن: (إذا لوحظت العقيدة شرطاً، فيجب الوفاء حسبه) كما يضيف الفقيه الغديري في تعليقه.

في الواقع أن المحاماة كأية مهنة شريفة وخطيرة في الوقت نفسه، تعرضت هي الأخرى في بعض البلدان لتقلبات الزمان، فصار المحامي الناجح هو الذي يتلاعب ببنود القانون كالعجينة يطوعها لما يرغب وإن جانب الحق والحقيقة، وصار البعض يبحث عن المحامي الذي يملك علاقة طيبة مع قاضي القضية لا المحامي الذي يمسك مقود القضية ضمن سياقات قانونية يبحث عن مخرج سليم لموكله، لاعتقاد هذا البعض أن الحالة الأولى أقرب الطرق إلى تحقيق المراد وإن خالفت العدالة بخاصة إذا مالت سارية القاضي إلى ناحية خذلان القانون نفسه وخيانة أمانة القسم، وأعتقد أنَّ كتيب “شريعة المحاماة” إضافة فقهية مفيدة تضع أصحاب الشأن في الاتجاه السليم.