بذرة فرنسا في لبنان بذر مثلها في أرض العراق

ثامر حميد

في ستينات وبداية سبعينات القرن العشرين قبل اندلاع الحرب الأهلية في لبنان في عام 1975 كنا نسمع ونحن بين عمر المراهقة الشباب أحاديث جميلة عن هذا البلد على لسان من كان يزورها من العراقيين القلائل فقد كان السفر لا يزال ترفا يختص به القلة المرفهة والمتفتحة. وكانت صورة لبنان على لسان هؤلاء وما ولده في مخيلتنا من تصورات مضافة صورة الرفاه والوفرة. ولم نكن نعرف أنه خلف تلك الصورة المبهرة تقبع صورة أخرى تعكس لمن كان يعرف وضعا مختلفا لطبقات اجتماعية واسعة منسية مفقرة. وعندما ندلعت الحرب الأهلية ذهلنا لأننا لم نجد في العراق بما في ذلك الأدبيات التي ادعت الماركسية من يعطينا صورة للبنان الآخر، لبنان الطبقات الاجتماعية المسحوقة تحت مظهر الحضارة الغربي.. لذلك عندما سألني رجل هندي كان يسافر على نفس القطار الذاهب من اسطنبول إلى صوفيا عن سبب الحرب لم أحر جوابا إذ كان كل ما عرفته من وسائل الإعلام، وأكثره رسمي، أنه حرب بين “الحركة الوطنية اللبنانية” وحليفها منطمة التحرير الفلسطينية وحزب الكتائب.وعندما لم يجد الرجل الهندي عند رجل عربي جوابا علق بالقول أنه يعتقد أنها حرب بين الطوائف. ربما قال ذلك متأثرا بتجربة بلده حيث حرب الطوائف والأديان الذي بذر بذرته البريطانيون مذ وطأت قدمهم أرض الهند كانت أمرا شائعا… أما التحليل الاجتماعي الطبقي فكان غائبا أو شحيحا عندنا فكيف يكون لمن لم يعرف تاريخ لبنان السياسي والتركيبة التي صاغها الفرنسيون وما بني عليها من نظام اجتماعي قائم على التمايز والامتيازات لفئة دون أخرى.

و يعرف عن الغرب “الحضاري” أنه يحرص على الإبقاء على درجة من توازن المصالح بين الفئات والطوائف في البلد الذي كان يستعمره بناء على فهم الضرورة الناشئة عن المتغيرات التي تحدث في البلد بفعل الزمن منطلقا من الحرص على ديمومة مصالحه وليس مراعاة العدل غير أن دخول وكلاء الولايات المتحدة الأكثر تخلفا ممثلة يالسعودية على خط المعادلات-الصراع في لبنان بما يحمله السعودي من أحقاد متأصلة قد دفع لبنان باتجاه المواجهات بدلا من المساومات والاستيعاب.

وقد يكون دخول حزب الله اللبناني الحديث نسبيا (نشأ الحزب بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982) على المعادلة اللبنانية قد أضفى عليها بعدا وزخما جديدين فذلك برأي لأن دخوله -الذي ازداد قوة مع الزمن- كان يضمر مغزى اجتماعيا-طبقيا من ناحية وآخر وطنيا شاملا من ناحية أخرى. ويتمثل البعد الاجتماعي الطبقي في ان الحزب استطاع ان يصبح الممثل الأقوى للجماهير الشيعية التي كانت لزمن طويل تحتل المرتبة الدنيا من سلم اهتامات الحكم في لبنان. وهذا وحدة كاف لخلخة توازن معادلة التمثيل والامتيازات السابقة. أما البعد الوطني فيتمثل بتصديه الناجح لإسرائيل ولجم تطلعاتها في جعل لبنان ساحة مفتوحة للعب. ثم طور الحزب قدراته إلى أبعد من ذلك بأن جعل نفسه الطرف الأقوى في ما بقي من معادلة الصراع ضد إسرائيل وبموقعه هذا أعاد للمقاومة جزءا بعدها العربي المفقود وأكسبها بعدا إسلاميا جديدا لم يرق للكثير من دول المنطقة كما وشكل عامل ردع لإسرائيل غير مسبوق. ولولا التحريض الطائفي والتضليل وشراء الذمم الذي مارسه الخليجيون (فهم لا يجيدون غيره) وانغمس به مثقفون وكتاب مرتشون ربما كان حزب الله قد أصبح محط أنظار قوى التحرر العربية التي ضعف موقعها النضالي بسبب خيانة أغلب الأحزاب الشيوعية العربية وتخليها عن كل ما هو مبدئي وعلى رأسها التصدي للنزعة العدوانية الأمريكية، وعن فلسطين وعن قضايا الفقراء واشغلت نفسها بمعارك ثانوية عندما جعلت الأحزاب حاملة الفكر الديني –رغم التمايز الحاد إلى درجة التناقض أحيانا بين بعضها البعض- عدوها الأول والأخير الأمر الذي أفقدها، مع عوامل أخرى، قدرتها على استعادة تأثيرها الذي تمتعت به يوما ما على الجماهير.

حدث ذلك بالترافق مع إنكفاء الأنظمة القومية بفعل إسائتها لاستخدام السلطة وفشلها في عملية البناء الاقتصادي والاجتماعي فانتهت تجربة عبد الناصر في مصر بأن صفي وبسهولة ملفته كل الإرث التقدمي الذي تركه وتجربة البعث في العراق بأن اصبح النظام عاجزا حتى عن إطعام شعبه أيام الحصار الذي تلى غزوه الكويت وتجربة البعث في سوريا إلى ما انتهت عليه اليوم.

وبنظرة تحليلية سريعة على خلفية التفجير في مرفأ بيروت أرى أن مسارعة الرئيس الفرنسي ماكرون لزيارة لبنان على وقع الحدث وحديثه عن عهد جديد أوميثاق جديد بين القوى اللبنانية وشمول لقاءاته بالفعاليات اللبنانية ممثلي حزب الله (التقاهم مرتين حسب الأنباء) هو محاولة للحفاظ على الخطوط العامة للصيغة الطائفية القديمة التي انبنى عليها لبنان وإكسابها مظهرا جديدا يكون شيعة لبنان فيها طرفا مهما بعد أن كان مهمشا. كما وأرى أن ما دعاه للعجالة في الذهاب إلى لبنان قد سببه تداخل ثلاثة عناصر ولدت وضعا غير مريحا للغرب:

أولا: تقوي موقع حزب الله في المنظومة السياسية الحاكمة نتيجة الانتخابات النيابية الأخيرة وتحالفه أو تقاربه مع قوى مسيحية وطنية تؤمن بأن إسرائيل لا تريد أن ترى لبنان بلدا ناجحا اقتصاديا أو ماليا أو تجاريا أو سياسيا تحت اي صيغة لأن لبنان يمكن أن يكون ليس منافسا فقط بل نقيضا حداثيا ل”لديموقراطية” إسرائيل، قائما على الانسجام الاجتماعي في مواجهة العنصرية الإسرائياية القائمة على رفض الآخر غير اليهودي.
ثانيا: الاحتجاجات الجماهيرية الواسعة ضد مؤسسة الفساد التقليدية المتحالفة مع الغرب والرجعية العربية الممثلة بدول خليجية ابرزها السعودية. لقد أقترب اللبنانيون كثيرا من رؤية نهايتها أو على الأقل إضعاف مواقعها مع تسلم رئاسة الوزراء رجل نزيه ووطني ومستقل هو حسان ذياب وشروعه بسياسة إصلاحية جذرية تهدد مؤسسة الفساد ورموزها المعروفة وبدعم من رئيس وطني قوي.

ثالثا: العقوبات الأمريكية المالية ضد لبنان. وفيما فاقمت تلك العقوبات أزمة لبنان المالية والاقتصادية فإنها كشفت للجماهير اللبنانية بشكل جلي الترابط القوي بين بارونات المال اللبنانيين ومراكز الرأسمال الغربي وبشكل أساسي في واشنطن ولندن وتحكم هذه البارونات باقتصاد لبنان وتحكم مراكز الرأسمال الغربي بهم.

لقد ادى تداخل تلك العوامل وربما عوامل أخرى لم تخطر ببالي إلى ارتفاع الأصوات التي تدعو إلى الاعتماد على النفس وإلى توجه لبنان شرقا: إلى سوريا والعراق والصين وروسيا والامتناع عن قبول وصفة صندوق النقد الدولي..ويبدو أن هذه الأصوات وجدت صدى مؤيدا لدى الجماهير ولدى الحكم الجديد الأمر الذي أقلق الغرب وقد أحس بأن العقوبات الأمريكية يمكن أن تقلب الطاولة على حلفاءه في لبنان وتنهي دورهم إلى الأبد. لذلك سارعوا لإطلاق الوعود بمساعدة لبنان كسرا للعقوبات التي فرضوها هم عليه. و يبدو لي ان الهجوم الغربي “السلمي” على لبنان إثر التفجير هو البداية لسلوك طريق جديدة لمحاصرة حزب الله اللبناني لم تتكشف جميع تفرعاتها بعد.

هذه الصيغة اللبنانية التقليدية القائمة على التقاسم بين أمراء سياسة ومال يورثون زعاماتهم الطائفية والسياسية لأبناءهم مرتبطون بمراكز المال الغربية قد أسس لها في العراق عشية الاحتلال الأمريكي ابتداء من تشكيل مجلس الحكم في 2003. ورغم أن الدستور العراقي لا ينص على هكذا صيغة غير أن الممارسة التي درج عليها السياسيون العراقيون لما بعد 2003 ثبتت عرفا غير محمود يمكن ان ينبأ بل سينبأ لا محالة بصيغة مشابهة لما لدى لبنان وما يرافقها من انفجار للأزمة بين الحين والآخر ما لم تبلغ الجماهير العراقية النضج السياسي الكافي لتفكيك هذه الصيغة قبل استفحالها وتحولها غلى عنصر ثابت في السياسة العراقية.

بكلمة آخرى أن ما نراه في لبنان الآن من نظام سياسي تكون الأزمة مرافقا أو جزءا مكونا منه سوف نراه في المستقبل في العراق مع فرق هو أن الصيغة اللبنانية، بفضل قدمها، أكثر نضوجا ووضوحا من الصيغة العراقية التي لا زالت في بدايتها رغم ان التأسيس لها سار خطوات إلى الأمام. إن وجود طرف مسيحي مؤثر في لبنان لا يتوفر مثله في العراق لن يجعل المقارنة بين الوضعين أقل مشروعية فالمستعمر لديه خزين هائل من التجربة استقاها من حروبه الداخلية في القرون التي خلت ومن مستعمراته السابقة يستخدمها في بذر الخلاف حتى بين أقرب الناس لبعضهم ففي ليبيا مثلا لا يوجد تنوع ديني أو مذهبي.

ما الذي ينقص الصيغة العراقية لتصبح مشابهة للصيغة اللبنانية؟

إنه نمو طبقة بارونات مال مرتبطة بالغرب الرأسمالي وسيطرتها على الاقتصاد العراقي. من أين سيأتي هؤلاء البارونات؟ إنهم في طور التشكل من داخل الأحزاب المؤثرة ومن يرتبطون بها من مقاولين وتجار واصحاب أعمال ومسؤولين كبار اثروا من مواقعهم ومرتشين..

وإذا أردنا أن نأخذ المسألة ببعض التفصيل أستطيع القول أن العوائل الحاكمة في كردستان وبالأخص العائلة البارزانية هي و بيروقراطية الأحزاب التي تهيمن عليها قد أكملت مهمة التحول إلى طبقة من بارونات مال تتحكم باقتصاد كردستان وستشكل إن لم أكن قد شكلت مركز تأثير مالي قوي داخل العراق..وكما راينا فإن هذه الأحزاب المحكومة عائليا تمسك بقوة بزمام السلطة السياسية في كردستان كما وأحكمت سيطرتها على الطبقة العليا من البيروقراطية الحكومية (الموظفون الذين يتقاضون رواتب عالية، الضباط الكبار في البيشمركة وجهاز الأمن والمخابرات). هذه الطبقة المهيمنة يمكنها أن تفشل اي مسعى لإزاحة موقع هذه الطبقة إذا ما تسنى يوما لأحزاب كردستانية معارضة أن تصل إلى السلطة عن طريق انتخابات دون تزوير (وهذا مستبعد). هذه الطبقة تبحث عن طبقة مشابهة لها في في بغداد لتتمكن بالتعاون معها من أن تحكم قبضتها على الاقتصاد العراقي برمته ومعه السلطة السياسية. وهذا بالطبع لن يجري خارج إشراف وتوجيه الغرب خاصة الولايات المتحدة التي ستمسك بالعراق من خلال الإمساك بهؤلاء كما هو الحال في لبنان.

والسؤال المهم الآن: من هم المرشحون ليصبحوا بارونات المال والسلطة في بغداد من بين السنة والشيعة؟

لا شك أن التسميات تجلب معها مخاطر لقائلها لذلك سأكتفي بالعموميات..
من الطرف السني هناك تنافس بين مركزي الأنبار والموصل كممثلين للسنة ويبدو لي أن الكفة تذهب باتجاه ترجيح موقع الأنبار وهذا برأي له اسبابه.
أولا: أن كثيرين ممن مثلوا السنة في الموصل في فترة سابقة قد فقدوا ثقة أهل الموصل بسبب تماهيهم مع التنظيمات الإرهابية التي دمرت الموصل تلك المدينة العريقة ذات السمعة الحسنة والتاريخ المشهود له. ومما يؤسف له أن وطنيي الموصل مثل عبد الرحمن اللويزي وغيره لم يتمكنوا من الوصول إلى مجلس النواب كممثلين عن المدينة في انتخابات 2018 و لا يمكن تفسير ذلك دون الحديث عن حدوث تزوير استهدفهم.

ثانيا: أن جزء كبير من أهل الأنبار قد انخرط في القتال ضد داعش ولعبوا دورا مؤثرا في هزيمتها وكانوا قبل ذلك قد دحروا تنظيم القاعدة عندما شكل الشهيد عبد الستار ابو ريشة الصحوات قبل أن يركب عليها الأمريكيون ويحرفوها عن مسارها لمنعها من أن تتطور باتجاه مشروع سني وطني يقف مع حكومة بغداد في وقت كان فيه الأمريكيون يحرصون على إبقاء بغداد ضعيفة وكانوا لايزالون يعولون على حصول حرب مذهبية.

وهناك أخرون كان مركزهم العاصمة الأردنية عمان دخلوا على معادلة التمثيل السني في الأنبار في الانتخابات الأخيرة وهؤلاء يملكون اموالا كثيرة حتى قبل أن ينخرطوا بالعمل السياسي وهم بوضعهم هذا مرشحون اقوياء على قائمة البارونات.
وبناء على هذا التفسير فإن أقوى بارونات المال والسلطة من أهل السنة يرجح أن يكون معظمهم من أهل الأنبار وجزء أقل من الموصل. ويمكن ملاحظة ن التمثل السياسي في الأنبار قد بدأ ينحصر في مزيج من عوائل أو عشائر أو مدن معينة.

ماذا عن الشيعة؟

بما أن المخاطر هنا لا تقل عن هناك نكتفي بالقول أن المرشح ليصبح بارون مال هو الحزب أو الشخص الذي أثرى أكثر من غيره من المال العام وهذا لا يشمل شخصيات حزبية فقط بل أيضا، كما قلت سابقا، مقاولين وموظفين كبار برتب مختلفة..
وعندما تكتمل عملية تشكل هذه الطبقة من بارونات المال والسلطة من الأطراف الثلاثة التي ذكرت فسوف تتمكن من التحكم باقتصاد العراق وبالسلطة السياسية وتتمسك بصيغة القسمة أو التقاسم لأمد طويل مدعومة من مراكز المال في الغرب.
تلك هي صورة لبنان الآن وهذه صورة العراق في المستقبل، نسختان متطابقتان.

في العراق كاد انفجار الغضب الجماهيري على الفساد وسوء الخدمات وقلة التوظيف أن يقوض صيغة التقاسم غير أن ضعف الوعي السياسي لدى هذه الجماهير وافتقادها إلى قيادة طليعية وتدخل عصابات مرتبطة بأطراف داخلية وخارجية حرفتها باتجاه التخريب لمنع تطورها باتجاه بروز قيادة يلتف حولها المحتجون كل ذلك نتج عنه أن المطالب المحقة للجماهير لم تبلغ ما كان يمكن أن تبلغه لو توفرت لها الشروط المذكورة. أما الأحزاب التي دابت على نقد صيغة التقاسم فيقف على رأسها الحزب الشيوعي وكذلك حزب الدعوة الذي دعى زعيمه نوري المالكي عشية انتخابات 2013 إلى صيغة الغالبية السياسية في محاولة للخروج من صيغة التقاسم فتواطأت جميع الأطراف لمنعه واستبدلته بالعبادي. هذان الحزبان كانا يجران بأذيالهما وراء الجماهير ولم تستطع أن تكون قائدة لها فقد كان الحزب الشيوعي بنظر الجماهير يتبع سياسة ذيلية (“ينتظرون أوامر السيد” هكذا عبر عنها أحد المحتجين) وحزب الدعوة بأنه لم يفعل الكثير من أجل إلغاءها ليكون محل ثقة الجماهير. واعتقد أن ضعف وتدني نوعية السياسة الإعلامية لحزب الدعوة وكذلك تدني مستوى خطاب ممثليه كانت سببا مهما في ضعف موقفه.

وأرى أن الجماهير غيرالمنظمة والفاقدة للقيادة ارتكبت خطأ تكتيكيا كبيرا إذ كان عليها وقد رأت صراعا بين رئيس الحكومة آنذاك عادل عبد المهدي ومجلس النواب أن تدعم عبدالمهدي ضد مجلس يكبل يده ويفرض عليه وزراءه ويقوض سعيه نحو اختيار الوزير الكفوء والنزيه وهي تجربة عانى منها جميع رؤساء الوزرات السابقين. وقد ظهر مجلس النواب والكتل الرئيسية الممثله فيه في ذروة الاحتجاجات أنهم الطرف الضعيف في مواجهة الحكومة قبل أن تجبر الجماهير (أو جزء ارتفع صوته عاليا) عبد المهدي على الإستقالته الأمر الذي أفقده القدرة على مواصلة طريق تحرير يد رئيس الوزراء من قبضة الكتل المهيمنة على مجلس النواب إذ كان يظن أن الضغط الجماهيري كان سندا له في سعيه الإصلاحي قبل أن تخذله الجماهير في معركته.
ويعتبر كثيرون أن عبد المهدي كان دوما جزءا من هذه الكتل ومن صيغة التقاسم ولم يكن حاسما في محاسبة المفسدين وبذلك فهو لم يكن مؤهلا للقيام بدور المصلح. هذا قول صحيح غير أن لحظة الاختيار مع من تقف في لحظة حرجة وحاسمة مهم جدا. بمعنى أنه كان على الجماهير أن تدعم عبد المهدي الضعيف (لا يملك كتلة تقف وراءه) في مواجهة المجلس القوي لينتزع من المجلس، في لحظة ضعفه، تنازلات تتعلق بحق رئيس الوزراء بأن يختار فريقه الوزراي وبذلك تكون قد حققت نصرا على الكتل السياسية مجتمعة لجهة إصلاح خلل خطير في التقليد السياسي الذي الذي تمثل في فرض الكتل السياسية مرشحيها للمناصب الوزرارية والوظيفية العليا حتى لو كانوا غير اكفاء وغير نزيهين. و لو قدر لهذا السعي أن يتحقق، لكانت الجماهير قد خطت خطوة كبيرة إلى الأمام نحو هدم صيغة التقاسم.

الخطأ الثاني هو أن الجماهير لم تولي أهمية كافية لمسألة إصلاح الخلل البنيوي في الدستور والذي سمح باستفحال صيغة التقاسم-التوافق ولم تتابع أطروحات المختصين في القانون الدستوري الذي سلطوا الضوء على هذا الخلل وأخص منهم الدكتور مصدق عادل من أجل أن يجعلوا الإصلاح الدستوري جزءا مهما من مطالبهم.

والخطأ الثالث يتمثل في أن المحتجين وقفوا موقف المتفرج في تنافس أو صراع الكتل على من يكون مرشحا بديلا لعبد المهدي المستقيل وسمحت لكتل أو بالأحرى كتلة معينة واصوات من الشارع بافشال ترشيح شخصيات لم يكن في تاريخها ما يعاب عليه من ناحية النزاهة أو الكفاءة مثال ذلك قصي السهيل.

لم تكن أخطاء هينة ولكنها لم تكن قاتلة إذ أن الاحتجاجات الجماهيرية تعلم الجماهير الكثير رغم غياب قوة سياسية تقف إلى جانب الجماهير تدرس مزاجها و تجربتها وتخرج باستنتاجات ودروس للمستقبل. وقد لاحظت في برنامج تلفزيوني يستظيف شبابا أن طرحهم السياسي أصبح أكثر نضجا بكثير عما كان عليه أثناء الاحتجاجات.

ويبقى بنظري السبب الأساسي الذي سبب فشل التحرك الجماهيري بالخروج بنتائج مرضية هو غياب برنامج سياسي واضح يرسم الطريق للخروج من الخلل البنيوي في النظام السياسي الذي تاسس بعد 2003. وبغياب أحزاب مناضلة من اجل الإصلاح كان بإمكانها ان تلعب دور القائد والموجه للجماهير فشلت النخب المثقفة والمختصة هي ايضا في أن تلعب دور الموجه رغم ان بعض الشخصيات الأكاديمية لجأ إلى أسلوب الاستعراض بأن انضم إلى المحتجين دون أن يترك اثرا يذكر خاصة من بعض الذين فعلوا ذلك بعد أن سمعوا أن الجماهير نادت بتعيين أستاذ جامعة أو رجل تكنوقراط بمنصب رئيس الوزراء. وقد بينت تجربة الحراك الشعبي في لبنان أن اختيار رجل بهذه المواصفات ليس كافيا بحد ذاته لتحقيق النجاح لأن الأمر يتطلب أكثر من أن يكون الرجل نزيها ومقتدرا فرئيس الوزراء اللبناني حسان ذياب كان يتمتع بهذه الصفات غير ان قوة بارونات المال والسياسة والدعم القوي الذي تحظى به من الخارج- والتي بنظري هي من تقف وراء تفجير مرفأ بيروت- قد افشل مسعى ذياب.

وليست الانتخابات المبكرة في العراق حلا لأزمة النظام السياسي القائم على التقاسم إذ ليست هناك قوة سياسية قائدة تطرح إصلاحا جذريا للنظام السياسي يبتدأ بتغيير ما هو غير ديموقراطي في بنود الدستور وينتهي بالقضاء على صيغة التقاسم لذا فنحن مقبلون على إعادة انتاج للأزمة بوجه آخر وسوف يستمر هذا الحال إلى زمن لا يعرف مداه أحد فالصيغة اللبنانية ظلت قائمة طوال عقود وصمدت بوجه محاولات الخروج منها وربما كانت إحتجاجات الجماهير اللبنانية التي حصلت مؤخرا أكبر تحد لها فجاء تكالب الغرب لاستيعاب هذا التحدي.

وأود أن اقول كلمة للحالمين هو أن الولايات المتحدة والغرب عموما لن تسمح بتطور صيغة ديموقراطية جامعة لأن صيغة كهذه تعني نهاية الولاءات المذهبية والقومية وتعزز الولاء الوطني بما يعني أن الأجنبي لن يجد موظأ قدم في النظام السياسي ذلك أن الصراع الداخلي في البلدان الهشة هو العنصر الأساسي في توفير الفرصة له للتدخل تحت مسميات مختلفة ومبتدعة يزخر بها قاموس الاستعمار الغربي.

وأعتقد أن عوامل الهوية الوطنية مودجودة في العراق و لم يكن المذهب-المعتقد سوى ثقافة وليس هوية قبل أن يؤسس التقليد السياسي العراقي الجديد بعد 2003 الرامي إلى جعل المذهب هوية. هذا التقليد لا يزال في بدايته و هو يتقوى بشكل مضطرد، كما أسلفت، مع ترسخ طبقة سياسية-مالية وبيروقراطية صاحبة امتيازات تجد ديمومة مصالحها في تواصل تقليد التقاسم. وهذا هو بنظري السبب الرئيسي في فشل محاولات محاربة الفساد رغم توفر النيات الصادقة للبعض. والفساد مؤسسة محكمة ترتبط بشبكة من الخيوط في الداخل والخارج وقد تحولت في في بلدان عديدة إلى إخطبوط قادر على التهام من يقف في وجهه ونسج علاقات حتى مع عصابات المافيا كما راينا في فترة ما في إيطاليا حيث دفع الكثير من القضاة حياتهم ثمنا لأنهم تصدوا لها ومع كارتلات المخدرات في أمريكا اللاتينية ومع تجار سلاح في دول أخرى. وقد نرى شيئا مشابها يحدث في العراق إذا لم ينشأ تحالف جديد بين قوى واحزاب لا تزال تمتلك بعض المصداقية لدى الجماهير.

إن شرط نجاح هذه الأحزاب في اجتذاب الجماهير رهن بعوامل عديدة أجد أهمها أن لا تخضع لابتزاز الأطراف السياسية المذهبية والقومية سواء تلك التي تهدد بتشكيل إقليم أو تلك التي تهدد بالانفصال فلا الانفصال له فرصة في البقاء في محيط معاد وفقد دعاته ثقة الجماهير و لا الإقليم الذي يرفضه أهله أصلا.