ما حدث في أنقرة واسطنبول وبقية مدن الدولة التركية إزاء الانقلاب الأخير، اثبت إن تلك الثقافة قد انتهت بفعل وعي أهالي تلك الدولة الذين يحاولون إغلاق أبوابهم أمام أي نزعة انفعالية لمجاميع من العسكر تغامر بتغيير نظام الحكم والاستيلاء على السلطة بقوة الدبابات والطائرات، كما حصل عبر تاريخ هذه الدولة وشقيقاتها من دول الشرق الأوسط ومنها الدولة العراقية منذ صبيحة 14 تموز 1958م حيث قامت مجموعة من الضباط والجنود وأعداد من الدبابات والمدرعات في آخر الليل، بالاستحواذ على السلطة وإسقاط النظام الملكي الدستوري، في انقلاب أباد العائلة المالكة وألغى البرلمان وأوقف الدستور، وبشر الأهالي بيوم ومستقبل جديد على أنقاض حكم ( رجعي عميل متخلف ) كما تم توصيفه يومذاك، وبعيدا عن شخصنة الأمور، فان سكان العراق لم يتمتعوا بعد ذلك بيوم سعيد تحت سطوة الانقلابات التي أنتجت بحورا من الدماء والدموع والحروب، وآخرها مطحنة داعش والميليشيات.
– في تركيا ارث ثقيل من الانقلابات الحمقاء، حالها حال السودان والعراق واليمن وسوريا وإيران، وبقية دول التخلف السياسي في العالم من أسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، والتي أضاعت شعوبها فرصا خيالية للتقدم والازدهار، لولا تلك المغامرات التي قادتها مجاميع انفعالية من العسكر والحرامية.
– في مصر ربما كان الانقلاب الأخير فيه بعض من دواء لمعالجة مرض اجتماعي وفكري حاول التسيد على السلطة، لكي يحيلها إلى منبر من منابر مساجد القرى وخطبائها، لكنه كان صيغة مقلوبة عما حصل في تركيا مؤخرا حيث اعتمد الانقلابين على عشرات الملايين من السكان الرافضين لحكم الإسلام السياسي.
– في إيران أيضا وقبل ما يقرب من أربعين عاما، ضرب الأهالي نمطا من الالتحام بالانقلاب الخميني لا مثيل له في الشرق قبل ذلك، إلا اللهم ما حصل في ثورة أكتوبر الشيوعية في روسيا، فقد اندفع سكان طهران وبقية المدن أمام دبابات الشاهنشاه وعسكره، كما فعل الأتراك في انقلاب العسكر الأخير، وأحالوه إلى أضحوكة وربما إلى خاتمة لتلك الثقافة السلوكية اللصوصية المقيتة.
لقد دفعت معظم شعوب آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا ثمنا باهظا لتلك الممارسات في اغتصاب السلطة، التي استغفلت الشعوب بشعارات غرائزية تداعب أوتار الطبقات الفقيرة والعامة من السكان، خاصة في بياناتها الأولى التي تبشر بغد جميل ومستقبل زاهر، بينما أنتجت على الأرض في العراق وسوريا واليمن ومصر وتركيا وايران والسلفادور وشيلي والعديد من أعضاء نادي دول التخلف الاجتماعي والسياسي في العالم، مشاهد مأساوية وحمامات دماء، ما تزال عالقة في ذاكرة الشعوب.
وبعيدا عن من يؤيد النظام السياسي الحالي في تركيا أو يعارضه، وهم كثر بطبيعة النظام الديمقراطي فيها، وإصرار رجال الدولة على إكمال تجربتهم الرائدة في بناء مجتمع مدني، رغم فشلها لحد الآن في حل مشكلة المكونات القومية التي تشكل واحدة من اخطر التحديات أمام تقدمها، إلا وهي القضية الكوردية والارمنية في تركيا، حيث لا تزال هذه الدولة ممنوعة من ولوج العالم المتحضر بسبب صيغة تعاملها مع القضيتين، ورغم ذلك فان أغلبية السكان الذين خرجوا لنصرة الديمقراطية ورفض الانقلاب كانوا من الكورد ومن الأرمن ومن بقية الأعراق في اسطنبول وأنقرة وبقية مدن أسيا الصغرى، وبالتأكيد جلهم من غير أعضاء حزب اردوغان، وهذا يعني إصرارهم على الخيار الديمقراطي وتمسكهم به مع وجود شوائب مقارنة بأي نظام انقلابي متهور.
لم أكن أتمنى أن أرى الرعاع ثانية يستخدمون غرائزيتهم في الانتقام كما حصل في انقلاب تموز الأول في العراق، أو في مقتل القذافي في ليبيا، أو ما حصل في بقية دول التخلف السياسي الأخرى، كتلك المشاهد المؤذية التي رأيناها، وهي تجلد جنود الدولة التركية المأمورين بتنفيذ أوامر قادتهم اللصوص، وباستثناء تلك المشاهد فإننا حقيقة نرفع القبعة لشعوب الدولة التركية، التي كانت تسمى ( آسيا الصغرى ) بمختلف أعراقهم وأديانهم وتوجهاتهم السياسية، حيث شهدنا رفضهم لثقافة الانقلاب وإلغائه تماما من قاموس الحكم في هذه الدولة التي تعمل ليل نهار لتنافس شرقيا أنظمة أوربا المتمدنة حضاريا.
وباستثناء احتمال الإفراط في الانتقام وتحويل الانتصار على الانقلابيين إلى تصفية الرأي الآخر تحت سقف مقاومة الانقلاب مما سيغير الخارطة برمتها، فان الأمور الآن تؤكد انهيار هيكل الانقلابيين، وعلى المؤسسات الدستورية والديمقراطية تعزيز النهج الإنساني المتحضر بالتعاطي مع تداعيات الانقلاب بعيدا عن ثقافة الانتقام والتصفية.
فعلا كما قال سياسي كوردستاني إن أسوء نظام ديمقراطي أفضل من أي حكم دكتاتوري مهما كان، وقد أثبتت شعوب تركيا في ديار بكر واسطنبول وأنقرة وبقية المدن صحة هذا الخيار الشعبي المتمدن.