شرع الإسلام – منذ أربعة عشر قرنا ونيف – جملة من حقوق الإنسان في شمول وعمق، وهي حقوق أبدية لا تقبل التعديل أو التعطيل، وأحاطها بضمانات كافية لحمايتها، وصاغ مجتمعه على أصول ومبادئ تمكن هذه الحقوق وتدعمها كحق الحياة، وحق الحرية، وحق العدل، وحق المساواة، وحق الحماية وغيرها. وأضحى إقرار هذه الحقوق في المفهوم الإسلامي هو المدخل الصحيح لإقامة مجتمع إسلامي راشد يقوم على الحرية والعدالة الاجتماعية.

 لكن.. ذكرى استشهاد الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه في واقعة الطف في اليوم العاشر من شهر محرم الحرام قبل أكثر 14 قرنا، وما صاحب هذه الواقعة من انتهاكات جسيمة ضد أهل بيت النبي محمد (ص) لاسيما النساء والأطفال، وما خلفته هذه الانتهاكات من آثار جسيمة ليس على الذين انتهكت حقوقهم في تلك الواقعة بل على المجتمع الإسلامي منذ ذلك التاريخ وإلى الآن، وبذلك علينا أن نراجع بدقة مدى التزام المسلمون بتطبيق تلك الحقوق؟ وما هي النتائج الوخيمة التي أصابت الإنسانية منذ تلك الفترة وحتى تاريخنا المعاصر جراء الجرم الكبير الذي وقع على حقوق الفئة المصلحة في كربلاء آنذاك؟.

 نحاول من خلال هذا المقال أن نقارن بين الحقوق والحريات التي تشكل أساس المبادئ والقيم الإسلامية، وبين تطبيقاتها في واقعة كربلاء، وهل تصلح هذه المعركة لتكون منطلقا لتأكيد حقوق الإنسان في الإسلام من جهة خصوصا وأن الطرف الذي انتهكت حقوقه هو الإمام الحسين (عليه السلام) الذي يعد من أئمة دعاة مبادئ حقوق الإنسان وصيانتها من الانتهاك؟ وهل تصلح هذه الواقعة للتعريف بالانتهاكات الجسيمة التي ارتكبت من قبل جيش بني أمية من جهة ثانية؟.

 ونود أن نستعرض ثلاثة أنواع من الانتهاكات في واقعة كربلاء، وهي:

– انتهاك حق التعبير عن الرأي.

– انتهاك حق الحرية الشخصية وما ترتب عليه مع عمليات احتجاز وتعسف واعتقالات.

– انتهاك الحق في الحياة وما ترتب عليه من عمليات قتل وسلب ونهب وسبي للمدنيين بما فيهم الأطفال والنساء.

 أولا: انتهاك حق التعبير عن الرأي: طلبت السلطة الأموية في زمن يزيد بن معاوية من بعض أشراف العرب أن يبايعوا الخليفة الجديدة رغما عنهم؛ ومن لم يبايع فمصيره الموت. إذ “أَرْسَلَ يَزِيدُ بْنُ مُعاوِيَةَ رِسالَتَهُ إِلَى والي المدينة، بَعْدَ مَوْتِ مُعاوِيَةَ، وَفِيها: “إِذا أَتاكَ كِتابِي هَذا، فَأَحْضِرِ الحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَخُذْهُما بِالبَيْعَةِ لِي، فَإِنِ امْتَنَعا، فَاضْرِبْ عُنْقَيْهِما، وَابْعَثْ إِلَيَّ بِرَأْسَيْهِما، وَخُذِ النَّاسَ بِالبَيْعَةِ، فَمَنِ امْتَنَعَ، فَأَنْفِذْ فِيهِ الحُكْم”.

 إلا أن الإمام الحسين “ع” لم يقبل ببيعة الحاكم الجديد، ولم يكن يرى في يزيد أهلا للخلافة”.. إنَّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فَتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل شَاربُ الخُمورِ، وقاتلُ النفس المحرَّمة، مُعلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أيّنا أحَقّ بالخلافة”. وبالتالي قرر الإمام الحسين الخروج من المدينة بمعية أهله وبعض أصحابه خشية القتل أو الاغتيال.

 هذا السلوك لخلافة بني أمية وحكامها في إجبار الآخرين على طاعتهم دون رضاهم، كان يمثل انتهاكا فاضحا لمنظومة حقوق الإنسان في الإسلام، لا سيما حق التعبير عن الرأي، والاعتراف بالآخر، والتعايش معه، وعدم إقصائه أو إلغائه.

 فقد أمر الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أن يترك لخصومه الحرية في عبادة غير الله، لأن الحساب لا يمكن أن يكون عادلا دون حرية واختيار، قال تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} الزمر/13-14، كما خصص القرآن سورة كاملة لتقرير حرية العبادة وهي سورة الكافرون. ونصوص القرآن الكريم تؤكد شرعية الحوار مع الآخر، فالإنسان في القرآن الكريم حر في اختيار دينه وعقيدته، قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ..} الكهف/ 29.

 وقد ضمن الإسلام لكل فرد الحق في حمايته من تعسف السلطات معه، ولا يجوز مطالبته بتقديم تفسير لعمل من أعماله أو وضع من أوضاعه، ولا توجيه اتهام له إلا بناء على قرائن قوية، تدل على تورطه فيما يُوجه إليه “والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا ” [سورة النور، الآية 58].

 وإذا كان الإسلام قد جعل حرية التعبير حقا طبيعيا وأساسيا لكل المسلمين، وإحدى الدعائم الجوهرية للمجتمع الإسلامي الراشد، فان منظومة الحقوق الإنسانية جاءت لتؤكد ما أكده الإسلام من حق الإنسان في التعبير عن رأيه، فالحق في حرية الرأي والتعبير حق أساسي يظهر في عدد من الاتفاقيات الدولية والإقليمية. حيث تنص المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الإطار الدولي الأساسي الذي يقنن هذا الحق على ما يلي: 1. لكل إنسان حق في اعتناق آراء دون مضايقة؛2. لكل إنسان حق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها.

 ثانيا: انتهاك الحق في الحرية الشخصية: لما أنتقل الإمام الحسين “ع” وأهل بيته وأصحابه من المدينة ثم إلى مكة باتجاه الكوفة في العراق، أرسل والي الكوفة عبيد الله بن زياد القائد الحر بن يزيد الرياحي مع ألف فارس، لِصَدِّ الإمام الحسين (عليه السلام) عن الدخول إلى الكوفة. “أمّا بعدُ: فجعجع بالحسين يبلغك كتابي، ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلاّ بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء، وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتيني بإنفادك أمري والسلام”. وأمام إصرار الحر بن يزيد الرياحي بالنزول في المكان الذي وصله كتاب عبيد الله بن زياد، اضطر الإمام إلى النزول في ذلك المكان لأن رفضه كان يعني الحرب التي لا يريدها.

 إن تصرف السلطة الأموية هذا مع الحسين وأهل بيته يعد انتهاكا للحرية الشخصية المصانة في القانون الإسلامي. والمقصود بها أن يكون الإنسان قادراً على التصرف في شئون نفسه، وفي كل ما يتعلق بذاته، آمناً من الاعتداء عليه، في نفسه وعرضه وماله، حيث عنى الإسلام بتقرير كرامة الإنسان، وعلو منزلته، فأوصى باحترامه وعدم امتهانه واحتقاره، قال تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم) ونص على ضمان سلامة الفرد وأمنه في نفسه وعرضه وماله، فلا يجوز التعرض له بقتل أو جرح، أو أي شكل من أشكال الاعتداء، سواء كان على البدن كالضرب والسجن ونحوه، أو على النفس والضمير كالسب أو الشتم و الازدراء والانتقاص وسوء الظن و نحوه، مضافا إلى يكون الإنسان حراً في السفر والتنقل داخل بلده وخارجه دون عوائق تمنعه. ففي الكتاب قوله تعالى: “هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور”

 وقد عززت مواثيق حقوق الإنسان الحديثة هذا المعنى من الحرية الشخصية، كما نصت المادة الثالثة من الإعلان على أنه: «لكل فرد حق في الحياة والحرية وفى الأمان على شخصه»، وجاء في الفقرتين الأولى والثانية من المادة الرابعة عشر من الميثاق العربي لحقوق الإنسان «لكل شخص الحق في الحرية وفي الأمان على شخصه، ولا يجوز توقيفه أو تفتيشه أو اعتقاله تعسفا وبغير سند قانوني ولا يجوز حرمان أي شخص من حريته إلا للأسباب والأحوال التي ينص عليها القانون سلفاً وطبقاً للإجراء المقرر فيه». ويقول الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لكل فرد حق في الحياة والحرية وفى الأمان على شخصه (م3) ويقول: لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو الحاطة بالكرامة (م5).

 ثالثا: انتهاك الحق في الحياة: في يوم العاشر من محرم من سنة 61 هجرية الموافق 10 أكتوبر سنة 680 ميلادية، أمرت حكومة بني أمية جيشها أن يخير الحسين بن علي “ع” بين اثنين: إما يبايع يزيد بن معاوية وإما يقتل هو ومن معه من أهل بيته وأصحابه إلا أن الإمام طلب من جيش بني أموية أن يتركوه بقوله “أيها الناس إذا كرهتموني فدعوني انصرف عنكم إلى مأمن من الأرض” فلما أصروا؛ قال عليه السلام “لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد”.

 وبدأت المعركة؛ وقتل أصحاب الحسين جميعا وتلاهم بنو هاشم أجمعهم. وبقي الحسين (عليه السلام) وحيداً فجاءت إليه أخته زينب بنت علي (عليها السلام) قائله له: خذ رضيعك هذا وأطلب له الماء وجاء الحسين (عليه السلام) بالطفل الرضيع إلى القوم وقال لهم: إن كان لي جرماً عندكم فما ذنب هذا الطفل فخذوه واسقوه بأنفسكم فرموه بسهم وقتلوه على يد أبـيه! ثم ما لبثوا أن قتلوا الحسين ومثّلوا بجسده، وسلبوا ونهبوا رحله، ونكّلوا بعياله، وسحقت الخيل صدره وظهره، ثم احتز رأسه الشريف وحمل على رمح طويل، وسبي ما تبقى من عياله!!

 وإذا ما عرضنا هذا السلوك العدواني للسلطة الأموية وجيشها على الشريعة الإسلامية، نجد أن الحق في الحياة هو من الحقوق المقدسة لكل إنسان والحق الأول للإنسان، وبه تبدأ سائر الحقوق، وعند وجوده تطبق بقية الحدود وعند انتهائه تنعدم الحقوق. ويعتبر حق الحياة مكفولاً بالشريعة لكل إنسان، ويجب على سائر الأفراد أولاً والمجتمع ثانياً والدولة ثالثاً حماية هذا الحق من كل اعتداء، مع وجوب تهيئة الوسائل اللازمة لتأمينه من الغذاء والدواء والأمن من الانحراف وينبني على ذلك أحكام منها تحريم قتل الإنسان: قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ} بل لا يجوز لأحد أن يعتدي عليها: “من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا” (المائدة: 32). ولا تسلب هذه القدسية إلا بسلطان الشريعة وبالإجراءات التي تقرها. ليس هذا فحسب بل ضمن الإسلام الاحترام للإنسان بعد موته فضلا عن حياته.

 لذا فان الاعتداء على حرية التعبير والحرية الشخصية وحق الحياة للحسين وأهل بيته كان خروجا على كل الحقوق التي جاء بها الإسلام، ويمثل انتهاكا للقيم الإنسانية التي أقرت فيما بعد ضمن المواثيق الدولية. وفي الموضوع ذاته يقول انطوان بارا: إن التعذيب والقتل والتمثيل تعتبر جرائم ثلاث في عرف القانون، فإذا نظرنا بهذا المنظار القانوني إلى مقتل الحسين، وكيف عذب قبل الذبح، ثم ذبح ومثل بجسده الطاهر أشنع تمثيل وأشده مهانة، فالقتل يستجلب لعنة الله؛ وقد جاء النهي عنه في التوراة والإنجيل والقرآن على قدر خطورته الدينية والاجتماعية والإنسانية، لأن الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله وقتله معناه تغييب لصورة الله ومثاله فيه، وإزهاق لوديعة غالية أودعها في هيكله البشري فكيف إذا أن المقتول قبساً من النبوة وبضعة من الرسولية وجزءاً كبيراً من محبة الله للإنسان”

وبناء عليه نوصي بالآتي:

1- استثمار ظاهرة إحياء واقعة كربلاء في كل عام في تأكيد حقوق الإنسان في الإسلام، وأن الإسلام في واقعه مجموعة من الحقوق والواجبات التي إذا ما التزم بها فإنها ستكون سببا في سعادة المجتمع وأساسا في إقامة العدالة الاجتماعية.

2- إن هذا الفرز بين قيم المعسكرين يلقي ضوء ساطعا على ما يتميز به المسلم الحقيقي من قيم تحترم حقوق الإنسان وحرياته العامة وتجعل كل ما يخالفها بعيدا عن الإسلام وان ادعى انتسابه إليه وصام وصلى وقرأ القرآن من أمثال بني أمية.

3- جعل واقعة كربلاء عنوانا إنسانيا دوليا، يعكس ذلك الحدث التاريخي المعبر عن وجود مجموعة من البشر على رأسهم الامام الحسين بن علي (عليه السلام) كانوا مثالا للدعوة لحقوق الإنسان وحرياته، ومجموع أخرى على رأسهم يزيد بن معاوية كانوا مثالا للانتهاك حقوق الإنسان وحرياته.