طوال العقود الأربعة التي تجاوزتها بإمتياز من عمري لم ألحظ من صورة اليمن سوى القتامة والحزن كما هو حال العديد من البلدان العربية التي مزقتها الحروب والحصارات والحماقات، بإستثناء بعض تلك التي نشأت مع النفط، ولاصلة لها بالحضارات القديمة، بل هي نتاج حضارة البترول وستزول معه حتما.
قيل عن اليمن، إنه السعيد، وكلما سمعت بالسعيد رأيت التعيس، ولكني فهمت فيما بعد إن السعادة نوع من الإستهلاك، وخدر يصيب الدماغ مؤقتا بتأثير القات الذي أقضمه عند كل ظهيرة منذ عودني أجدادي عليه، فليس من سعادة، ونسبة البطالة ترتفع، والدخل السنوي يهبط رويدا، والمياه تنضب، والمنابع تجف، والأمطار تقل، والمساحات الخضراء تتقلص، والحكومات المتوالية تتملص من إلتزاماتها البسيطة! فكيف بتلك التي فيها قدر من التعقيد، ولايعود من وسيلة للتخلص من ضغوطات الناس العاديين المطالبين بالخبز والحرية والعمل والكرامة سوى الإحتيال والإفلات من المساءلة والصراخ.
وحتى مع الثورة في شارع ستين، أو سبعين، وبرغم حراك الجنوب، وصمود الشمال في مقابل المطالب الكثيرة، وضياع الوسط، ونمو القاعدة وداعش، والتظاهرات التي أطاحت برئيس مضى، وغياب رئيس حاضر في الصورة، غائب في الميدان فإن شيئا لم يتغير، ولم يتبدل، ولم يتحول، واليمن هو هو ما بين حروب الجوار، ونزاع الأخوة الأعداء، وأحلام الإستقلال، وإستراتيجيات الدول الخائفة من شعب خائف من حاضره ومستقبله، ويبحث عن الهدوء والسكينة.
الشعب اليمني يواجه صراعا مريرا بين إرادات إقليمية ودولية، وصراعات محلية تتقاذفه يمنة ويسرة، ولايعرف السبيل الى الخلاص منها، وتكاد مطالب الجوار تكون أكبر من طاقته على التحمل وعلى تلبيتها حتى، ثم إن الصراع بين الأفرقاء في الداخل يسحب المناطق والقبائل الى زوايا ضيقة لتكون وسيلة وأداة صراع، وضحية له في ذات الوقت، فالحرب المستمرة منذ أشهر دمرت كل شئ هناك، بينما المجاعة تضرب أنحاء البلاد، والمرض ينهش الأجساد والأرواح، ولايبدو من تردد ولارحمة، أو تفكير بعذابات الضحايا وجوعهم ومرضهم، مع إصرار غريب من الجميع على دوام الحرب وإستمرار مجازرها، وغياب أفق الحل حيث يتوقف كل شئ على عتبات الموت اليومي والمجاني.
أي تعاسة تلك التي تطبع حياة الناس وتداهمهم في بيوتهم، وهم لايرون في النهار سوى الطائرات تحوم لتقذف الموت، بينما يدلهم الليل بلانور، ولاكهرباء، وليس سوى أصوات تلك القاذفات تعود من ساعة لأخرى لترمي قنابلها على البيوت والمعسكرات والمستشفيات، وكل شئ تتوفر فيه الحركة.
إنه اليمن الأكثر تعاسة.