ازدهرتْ صناعة النسيج خلال العهد السومري واستخدم فيها خيوط الصوف والكتان وكان الكهنة خلال فصل الربيع يرتدون الملابس البيضاء بشكل يغطيهم من الرأس حتى القدمين. وان بعض هؤلاء الكهنة يضعون على رؤوسهم وفوق القماش الابيض شبكة سوداء مصنوعة من صوف الاغنام كشبكة صيد السمك لترمز الى موسم الخير والتكاثر.
وتشير الى مطالبة الناس بحصة المعبد من الثروة السمكية الكثيرة في منطقة الاهوار جنوب العراق وربما كان لهذه الشبكة مفاهيم خاصة تتعلق بطرد الارواح الشريرة ومعالجة بعض الامراض النفسية. ومهما يكن من أسباب وضع هذه الشبكة فوق رؤوس الكهنة فانها مع مرور الزمن صارت ملاصقة لليشماغ حتى يومنا هذا فصارت أرضية بيضاء وينسج فوقه شبكة الصياد لتصبح قطعة واحدة، ويبدو ان ما أضاف اليها نساجوا ذلك الزمان من خطوط وزعانف الاسماك وأصدافها لتؤكد ماله علاقة وارتباط بطرد الارواح الشريرة من لابسيها خاصة ان شكل الاسماك كان أحد المعتقدات الراسخة في هذا الجانب الاسطوري منذ عهد السومريين في العراق.
ويظهر من التماثيل العديدة للحاكم السومري كوديا (2146-2122 ق.م) والمحفوظة في متحف اللوفر وكوبنهاكن انه اول حاكم ارتدى اليشماغ قطعة واحدة. وتتفق معظم المصادر على اختلاف مشاربها بوصف كوديا الذي اكتفى بمنصب حاكم باتشي بأنه عادل ومتدين ويحب السلام ويسعى لاسعاد شعبه ويحب مدينته الامر الذي يجعلنا نعتقد بأنه جاء الى الحكم ليضع حداً لتسلط بعض الكهنة وتجاوزهم لحدود صلاحياتهم فاستطاع السيطرة على جميع ايرادات المعابر خدمة للمصلحة العامة. ومهما اختلف علماء الآثار وفلاسفة الفن حول أسباب تصويره مرة حليق الرأس ومرة اخرى لابس اليشماغ فان لبس اليشماغ كان له شأن عظيم في ذلك الزمان حيث جمع لابسه بين السلطة الدينية والدنيوية وخضع له الجميع وصار لباساً للامراء وكبار الكهنة في العصر الذهبي السومري (2122-214 ق.م) .
وهكذا انتقل لبس اليشماغ تدريجياً من لباس النخبة الحاكمة والمقدسة الى اللبس الشعبي الاكثر رواجاً في أرض الرافدين وما حولها. ولو ألقينا نظرة فاحصة على بعض قواميس اللغة المسمارية لوجدنا ان أصل كلمة يشماغ مكونة من مقطعين في اللغة السومرية من (آش ماخ) وتعني غطاء رأس عظيم أو (آش ساخ) أي غطاء الكاهن العظيم. وما هو جدير بالذكر هنا ان الدكتور حسين علي محفوظ عَدَّ اليشماغ من الالفاظ التركية في اللهجة العراقية وهذا في رأي يتعارض مع البعد التاريخي لليشماغ في بلاد وادي الرافدين. ومن المؤكد ان الاتراك قد اخذوه عن الاسم السومري العراقي القديم ونقلوه الى لغتهم بعد سيطرتهم على العراق. ليطلقوا عليه اسم (ياشمق) ليكون معناه غطاء الوجه عند النساء ويراد به البرقع الخفيف.
وهذا ما اشار اليه (القاموس التركي) الوحيد الذي وصفه العالم التركي ش. سامي عام 1898م علماً ان معظم قواميس اللغة التركية التي هي أقدم منه والاحدث لم تشر اليه. كما انه لم يكن جزءاً من ملابسهم الشعبية في تاريخهم. وعلى اية حال فأن اليشماغ الحالي هو امتداد لليشماغ السومري اذ صار قطعة واحدة ومازالت شبكة الصياد وخطوط وأهداف الاسماك تزينه (لتطرد الافكار الشريرة عن لابسيه) وتعددت أوضاعه على الرأس منهم من لبس فوقه العقال ومنهم من لفه على الرأس بأشكال مختلفة لا تختلف كثيراً عن لفة الحاكم السومري كوديا وأول شركة أجنبية قامت بصنعه على نطاق تجاري هي شركة نسيج بريطانية في لندن وعرف بين الناس بـ (اليشماغ اللندني). واخذت شركة الهند الشرقية البريطانية تتاجر به لانتشار لبسه في مناطق شبه الجزيرة العربية والخليج العربي وبلاد الشام.
وسارعت الشركات اليابانية والصينية والكورية على صنعه وأخذت تكتب اسمه بحروف لاتينية وصار على أنواع متعددة لا تختلف كثيراً عن اصوله العراقية العريقة .
وتوجد في العراق الآن أربعة معامل رئيسة لانتاج اليشماغ أحدها في بغداد واثنان في كربلاء وواحد في نينوى وتمتاز هذه المعامل بانتاجها الجيد والمميز والذي يضاهي الانتاج الاجنبي.
اليشماغ العراقي.. ابتكره السومريون ونقوشه السود تعويذة
Related Posts
كتاب: احمد الجلبي في ذكراه السنوية الاولى: تأملات ما بين الرجل، والظاهرة
تاب صدر بمناسبة الذكرى السنوية لوفاة الدكتور احمد الجلبي. تم توزيع بعض النسخ الورقية من الكتاب في ذكرى التأبين الذي اقيم البارحة في بغداد. الكتاب يتضمن سلسلة من المقالات التي…
ذكريات البغدادي: الحاج محمد الخشالي صاحب مقهى الشابندر
لقاء اجراه زين النقشبندييعتبر الحاج محمد الخشالي صاحب مقهى الشابندر في شارع المتنبي من أقدم من سكن وعمل في هذه المنطقة ، فهو من مواليد (1932) ، وقد كنا نلتقي…