الوان حسينية : اللون المسيحي
الألوان كثيرة في الطبيعة ، في الغابات والحدائق والمروج ، وحتى في الشوارع والأسواق ، في كل مكان تجذبك بسحر تناسقها ، وقد يبهرك لون واحد يطغى عليها ، فيضفي على المشهد طابع ممّيز ، غالباً ما تكون المشاهد ذات اللون الواحد كئيبة أو غير محبذة إلا ما ندر ، حتى إن أرباب الرياضة انتبهوا لهذه الميزة ، فعمدوا الى تنسيق الألوان في المباريات ، لكل فريق من الفريقين المتنافسين لون موحد وأرضية خضراء ، على أن يكون لحارس المرمى لون مغاير للون فريقه ، بهذه التشكيلة وحركتها في الميدان تحرك الجمهور وتهيجه وتحقنه بالحزن أو السعادة .
بعض الألوان بهيجة مسرة دافعة للأمل والحب والسلام كاللون الأخضر ، وبعض الألوان كئيبة مزعجة للنفس وربما مرعبة في كثير من الأحيان كاللون الأسود ، وبعض الألوان تؤدي الغرض وفقاً لما أريد منها أن تكون ، فقد تكون زاهية براقة لكن ما أريد منها تعكير صفو النفوس وتكديرها ، وبعضها قاتم وكئيب لكنها استعملت بلمسة فنية ماهرة إبداعية لتؤدي غرضاً نبيلاً .
طف كربلاء شهد لونين مغايرين في الهيئة والغرض ، لون قاتم وكئيب ، كتلة بشرية هائلة الى اليسار وإن تشتت مشاربهم وأشكالهم وعقائدهم ، إلا إنهم اتسموا بصبغة واحدة ، صبغة الظلام ، ظلام في وضح النهار ، جمعهم الدينار والدرهم ، بريقها اللماع أعمى الأبصار والبصائر ، شحذت الهمم تحت أصوات قرع الطبول ، وتقدموا … لن يوقفهم مانع ، كقطيع جائع من البهائم نفشت في مرج اخضر ، لن تتركه حتى يستحيل الى خراب .
أما اللون الثاني ، فكان على اليمين ، واقعاً لم يكن لوناً واحداً فقط ، بل عدة الوان ، رسمت بحرفية فائقة الدقة ، وبإلهام رباني ، بإسلوب فريد من نوعه ، لم يحدث قبلها ، ولن يأتي مثلها الى حد الاستحالة ، صورة مشرقة أريد بها أن تكون ناصعة على مر العصور ، منيرة لكل الأجيال ، غضة في كل زمان ، إشراقة من الإشراقات الإنسانية النادرة .
بإلهامٍ رباني ، الحسين يرسمها ويجمع خيوطها يبقى الجيد منها ويزيح الكدر عنها (اتخذوا الليل جملاً) ، فينسحب الكدر وتبقى المعادن الأصيلة ، يتوجه الى خيمة منفردة ، يترجل من جواده ويسير بخطى هادئة خفيفة الوطء على الأرض وينادي على أصحابها ، فتجيبه ام وهب ، يبادلها الكلام والسؤال عن وهب بن حباب الكلبي ، تخبره انه قد ذهب الى جلب الماء ، بهدوء وتروٍ (قولي له أن يصدق الرؤيا) ، وينصرف مع من كان معه .
وهب بن حباب الكلبي كان نصرانياً حديث عهد بالزواج من حبيبته الجميلة ، لم يكن مسلماً ولم يكن يوماً يفكر في الاسلام ، أخبرته أمه الخبر ، وابلغته إن قادماً جاء مع ثلة من أصحابه وأخبرته بما دار بينهما من حديث ومنه تلك الجملة (قولي له أن يصدق الرؤيا) ، بكى وهب فقد كان قد رأى رؤيا لم يخبر عنها أحداً قط ، فكيف عرف هذا الرجل الغريب بها طالباً منه تصديقها ، تمالك نفسه وقص على أمه فحوى رؤياه ( يا أماه لقد رأيت في المنام هذه الليلة روح الله عيسى وكان بجانبه رجال عليهم الهيبة والوقار وكأنهم الشمس بجمالها وهيبتها، فقال لي المسيح يا وهب هل أنت من أمتي قلت نعم فقال اعلم إن الذي يقف بجنبي هو محمد رسول الله وخاتم الأنبياء وأشرف الخلق وهذا الثاني هو علي بن أبي طالب وصيه وخليفته وزوج أبنته وهذا الثالث هو ريحانة رسول الله إنه الحسين بن علي . يا وهب عليك أن تنصر الحسين غدا في كربلاء واعلم بأنك معه في الجنة وأن اسمك مع الأبرار وقد ناولني صحيفة قد كتب بها اسمي ثم أفقت من النوم .الآن وأنت تخبرينني بما حدث، يا أماه الذي مر بك اليوم هو الحسين بن علي بن أبي طالب) ، عندها عزم وهب على التوجه لمقابلة الحسين “ع” فقابله وعاد مسرعاً الى خيمته مستبشراً متهللاً ، وأخبر أمه وزوجته بأنه ملتحق بركب الحسين “ع” وأنه مقتول ، حاولت عروسته منعه وثني عزيمته بقولها ( لا ترملني وانا لا اب ولا اخ لي وعروستكم منذ عشرين يوما فقط ) ، ساندتها أمه التي نهرته في البداية وأبت عليه أن لا يذهب مع الحسين “ع” فيقتل في جملة من سيقتل معه .
موقف مشحون بالعاطفة الجياشة ، ليس من الهين أن تترك أبنها الوحيد يقصد الموت برجله ، ولا هو موقفاً سهلاً على عروس لم يمض شهراً على زواجها من حبيبها ، مع كل ذاك ، لم يمنعه ، سار بهما ليلاً ، حتى التحق بمخيم الحسين “ع” وأتخذ له ولعائلته خيمة بينهم ، صار واحداً منهم ، منصهراً بهم ، لا فرق ولا فوارق ، إنسان في جملة الإنسانية ، المحبة تجمعهم ، والسلام مبتغاهم ، حتى كان اليوم العاشر ، يوم الطبك (الطبق) بلهجة جنوب العراق ، وهو يوم إنطباق الباطل على الحق ، تقدم أصحاب الحسين “ع” فرادى ومثاني ، تساقطوا كالأضاحي فقالت أم وهب التي كانت معترضة في البداية ( قم يا بني فانصر ابن بنت رسول اللّه “صلى الله عليه وآله”) ، وكان منه جواب الأبن البار (أفعل يا أماه ولا أقصر ) ، فبرز الى المعركة كالأبطال وبطريقة أصحاب الحسين “ع” شاهراً سيفه مرتجزاً :
إن تنكروني فأنا ابن الكلبي *** سوف تروني وترون ضربي
وحملتي وصولتي في الحرب *** أدرك ثاري بعد ثار صحبي
وأدفع الكرب أمام الكرب *** ليس جهادي في الوغى باللعب
يعرفهم بنفسه ومن يكون والى من ينتسب (إن تنكروني فأنا ابن الكلبي) ، ثم يظهر لهم مدى شجاعته وتهاونه بعددهم وعدتهم (سوف تروني وترون ضربي) ، ويشرح لهم قدراته في القتال (وحملتي وصولتي في الحرب) ، والهدف المنشود (أدرك ثاري بعد ثار صحبي) ، الاستبسال (وأدفع الكرب أمام الكرب) ، وفي النهاية البيان (ليس جهادي في الوغى باللعب) ، فقاتل قتالاً منقطع النظير ، بهمة وعزم لا يلين ، حتى قتل منهم الكثير وجرح منهم عدداً لا يستهان به ، ثم أقفل عائداً الى أمه وزوجته ، اللائي كن ينظرن الى الميدان ، فقال لأمه : يا أماه أرضيت؟ ، فتقول له أمه : ما رضيت أو تقتل بين يدي الحسين ، لكن زوجته اعترضت ولا زالت معترضة حتى هذه اللحظة : باللّه، لا تفجعني في نفسك ، أمّه تلك الطاهرة تعارض كلامها وتشحذ في أبنها الهمة : يا بني لا تقبل قولها وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت رسول اللّه، فيكون غداً في القيامة شفيعاً لك بين يدي اللّه .
تروي المصادر ، إنه رجع للقتال ، قتل تسعة عشر فارساً وأثنى عشر راجلا ، حتى قطعت يداه ، فروًى بدمه الطاهر أرض كربلاء وسقاه بعد عطش طويل ، وبعد أن سطر أروع الملاحم أتخذ له مكاناً مشرقاً بين الشهداء ، وأصبح رمزاً من رموز كربلاء ولوناً من ألوانها البهيجة .
أمه أم وهب التحقت بنساء اهل البيت العترة ، وقيل إنها نالت الشهادة ، بسبب تشابه الأسماء بينها وبين أم وهب زوجة عبدالله بن عمير الكلبي ، على أية حال ، كانت زهرة من زهور الطف .
أما زوجته ، وبعد أن شاهدت الوحشية والهمجية لدى معسكر الظلام ، قررت أن تكون من ضمن الركب الحسيني ، والتحقت بالعلويات ، لتكون ريحانة من رياحين طف كربلاء.
هذا اللون جمع بين عيسى “ع” ومحمد “صلى الله عليه واله” ، فكان منسجماً متناغماً لأنهما من مصدر واحد.
*** يتبع ان شاء الله
حيدر الحدراوي