بقلم الدكتور حسين الشهرستاني
الشهرستاني في سطور

هو السيد حسين بن إبراهيم الموسوي الشهرستاني.
ولد في كربلاء المقدسة في 3 شعبان 1631ه,الموافق 15آب سنة 1942م وتخرج من مدارسها.
حصل على شهادة الدكتوراة في الكيمياء النووية سنة 1969 من جامعة تورنتو بكندا.
كانت له نشاطات طلابية إسلامية في كل من انجلترا وكندا وكان رئيسا لاتحاد الطلبة المسلمين هناك.
عيّن في لجنة الطاقة الذرية بصفة باحث علمي في سنة 1970م.
في سنة 1971م اقترن بامرأة كندية كانت قد أسلمت قبل زواجها.
نقل في سنة 1971م إلى جامعة الموصل, ثم إلى جامعة بغداد لرفضه الانتماء لحزب السلطة.
عين في سنة 1974م رئيسا لقسم (النظائر المشعة) في لجنة الطاقة الذرية ومنح في سنة 1979م وتمكن من مغادرة السجن في سنة 1991م في اخطر عملية هروب.
يقيم في جمهورية إيران الإسلامية, حيث أسس (لجنة إغاثة اللاجئين العراقيين) التي يرأسها, وله نشاطات واسعة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان في العراق.

الإهداء
لمن ساعدني لتنفيذ قرار الحريّة
وتحديُ سجن الظالمين
السيدة أم زهراء
السيّد عماد الشهرستاني
الأخ علي عريان
و أولادي، زهراء و مريم
و محمد إبراهيم
حسين الشهرستاني
1999

 ~ الفصل الأول  ~


المنعطف

و صفحة جديدة …

لم تكن صبيحة اليوم الرابع من كانون الأول عام 1979م تختلف عن غيرها من أيام شتاء بغداد الباردة, فبعد الاستيقاظ لصلاة الفجر, وتناول الفطور مع العائلة..ودّعت زوجتي الكندية أم زهراء وابنتي الكبيرة زهراء والثانية مريم, وقبّلت الصغير محمد إبراهيم(كانت زهراء تبلغ من العمر يومذاك خمس سنوات ونصف, و مريم ثلاث سنوات ومحمد إبراهيم تسعة أشهر.) , وغادرت منزلي الكائن في مدينة المنصور التي تعد من أجمل مناطق العاصمة العراقية, متجها إلى مقر عملي في مركز البحوث النووية في التويثة – إحدى ضواحي بغداد الجميلة التي تغفو على ضفاف دجلة – وبينما كانت السيارة تنهب الطريق نهبا, أخذت الشمس ترسل أشعتها الذهبية هادئة وديعة متغنجة لتعانق صعيد العراق.

ومع خيوط الضوء التي تسلّلت عبر زجاج السيارة لتلفني بالدفء الشتوي الحاني المنبعث من الرحمة الإلهية, أخذت أمواج الأفكار والخواطر تدور في رأسي, وكما نبضات القلب المتسارعة, أخذت كلمات: الثورة, الإسلام, العراق, الإمام الخميني, التغيير, حزب السلطة, الإرهاب, الانتصار و… و… تنبض في مخيلتي وتسترجع شريط الأحداث خلال الشهور العشرة الماضية…

فمنذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران (شباط/1979م) يلف المنطقة، دويّ هائل لا يكاد يصمت, وكان الشعب العراقي من أول الشعوب التي تأثرت بهذا التغيير الكبير في المنطقة, وتفاعل معه, كما كان نظام صدام في بغداد أكثر الأنظمة إحساسا بانّ الزلزال الذي أطاح بالنظام الملكي في إيران, اخذ يقترب إليه ويهزه من الجذور..لذلك كان رد الفعل الطبيعي لهذا النظام في مواجهة الإعصار القادم هو تيارات من دماء أحرار العراق في أبشع عمليات تصفوية عرفها التاريخ المعاصر, لقد كان هاجس المطاردة والاعتقال يساور كل إسلامي يسير على خطى الرسول العظيم محمد صلى الله عليه وآله ويوالي أهل بيته الطاهرين عليهم السلام.

وهكذا, مع قيادتي للسيارة بشكل عفوي من شارع إلى شارع -لأنني كنت قد قطعت هذا الطريق مئات المرات منذ أن بدأت عملي في مركز البحوث النووية في1970م – انتقلت بي أمواج الخواطر لترسم أمامي مرة أخرى صورة حية لابن عمي الشهيد علاء الشهرستاني الذي كان احد الأباة الذين رصعوا بتضحياتهم جبين العراق بالعزة والإباء والكرامة.

وكان شريط الخواطر والأفكار يتقافز بسرعة تتسابق مع سرعة السيارة المتراكضة باتجاه التويثة, دون أن يخطر ببالي أن يوم الثلاثاء هذا, سيكون المنعطف الرهيب في حياتي.

~~~~~~

دخلت مكتبي مبكرا وبدأت عملي – كالعادة – باعتباري مستشارا علميا في منظمة الطاقة الذرية العراقية وهي أعلى رتبة علمية تمنح لأهل الاختصاص في المنظمة.

ومرت ساعات العمل في مركز البحوث النووية بشكل طبيعي ودون تطورات تذكر, رغم إن أجواء الوطن كانت مشحونة بالتوترات والمفاجئات, إذ كانت وتيرة المطاردات والاعتقالات والمحاكمات الصورية والإعدامات الجماعية وعمليات القتل والاغتيال في الشوارع قد ارتفعت خلال الشهور الأخيرة..

وعندما أشرفت دقائق الدوام على الانتهاء, وكانت من عادتي إن أتأخر يوميا بعض الوقت في المكتب ريثما يخرج جميع الموظفين والعمال, إذ دخل المكتب الزميل الدكتور جعفر ضياء جعفر(كان والده ضياء جعفر وزيرا في العهد الملكي في العراق, ولم يكن الدكتور منتميا لحزب السلطة, وكان يتمتع بثقافة غربية). وهو بدرجة مستشار علمي أيضا في المركز, وكانت زيارته طبيعية, فأخذنا نشرب الشاي معا ونتجاذب أطراف الحديث, وفجأة دخل همام عبد الخالق, المدير العام في مركز البحوث النووية, يرافقه الدكتور خالد سعيد, المسؤول عن تنفيذ المشروع الفرنسي( لم يكن المستوى العلمي للرجلين يؤهلهما لهذين المنصبين, إلا انه بسبب انتمائهما لحزب البعث العراقي فقد أنيطت بهما هاتان المسؤوليتان الإداريتان).ولم يثر دخولهما المفاجئ انتباهي كثيرا, إذ إن هذا كان متوقعا ويحدث أحيانا بحكم طبيعة العمل. ولم اعرف في وقتها إن دخول الرجلين إنما كان بالتنسيق مع ضابط أمن المركز الذي طلب منهما العمل على إلهائي بتجاذب الأحاديث المختلفة ريثما يغادر المركز جميع الموظفين والعاملين.

وفي هذه اللحظات المثقلة بعناء العمل مرّت في مخيلتي صورة أم زهراء وأطفالي الثلاثة الذين ينتظرونني الآن, ككل يوم حينما أعود من العمل فتستقبلني زوجتي الوفية, واحتضن الصغار الثلاثة الذين تطرد رؤيتهم عناء العمل وهموم الحياة.. إلا إن هذه الصورة الوردية تمزقت – على حين غفلة – بدخول ضابط الأمن وهو يقول :

اسمحوا لي.. عندي سؤال من الدكتور حسين
-: تفضل أسأل – قلت له –
أجاب الضابط :
لا.. ليس هنا, تفضل معي إلى الخارج, دقيقة وتعود.

من خلال هذه العبارة قرأت كل شيء.. فدقيقة رجال الأمن قد تعني انك لا تعود إلا بعد سنوات, وقد تعني انك لن تعود إلى اهلك أبدا.. عرفت إن الأمر هو الاعتقال, وبينما أنا اخرج بصحبة الضابط خاطبت زميلي الدكتور جعفر: أرجو أن تخبر عائلتي إذا تأخرت.

وفور خروجنا من المكتب تغيرت تصرفات الضابط المؤدب, إذ سرعان ما كشّر عن أنيابه ثم ربط يديّ من الخلف وعصّب عينيّ بعصابة سوداء لكي يرفع بذلك النقاب عن وجه نظامه الكالح وحزبه المتسلط, وهكذا قادني إلى سيارة الأمن التي كانت تنتظرني ودفع بي إلى الحوض الخلفي, ورافقني في السيارة ثلاثة عناصر مسلحون إضافة إلى السائق، احدهم جلس عن يميني والآخر عن يساري, وثالث غاص في كرسيه الأمامي في السيارة التي انطلقت مسرعة تسابق الريح, متجهة إلى مدينة الرعب والدم.

~ الرعب والدم ~


وسط عاصمة الرعب تقع (مديرية بغداد) هذا العنوان الرهيب الذي لا يعني للعراقيين غير الاعتقال .. الانقطاع .. الرعب .. الضياع .. انتزاع الاعترافات الوهمية .. وأخيرا: الموت. ويخشى العراقيون حتى النظر إلى جدرانها من بعيد، فهي تستقبل، كل يوم، أفواجا من المواطنين – رجالا ونساء – الذين لم ينتقموا منهم إلا إنهم قالوا ربنا الله ، ثم تودّعهم إلى طاحونات الموت القاسية.

~~~~~~

أدخلوني في غرفة تقع عند الباب تشبه غرفة الاستعلامات وقالوا لي:

اجلس وانتظر.

…. وانتظرت طويلا ولم يحصل شيء.. وأسلوب الانتظار الطويل هذا هو من اشهر أساليب الأجهزة القمعية لتحطيم أعصاب المعتقل وتوتيرها قبل جلسة التحقيق الأولى، وعندما لاحظت إن الشمس قد أذنت بالرحيل، ولأنني لم أكن قد صليت الظهر والعصر، فخشيت أن يفوتني الوقت فقلت لهم:

أريد أن اصلي.

أجابوا:

لا داعي للصلاة.

وجدت إن الجدال معهم غير نافع. فتركتهم وتيممت، ثم وقفت للصلاة بين يدي ربي، ولكنهم سحبوني أثناء الصلاة وقالوا:

جاء المدير.

قادوني إلى غرفة المدير، وقبل الدخول شاهدت عند الباب ضابطا معروفا يلقب بــ (جزار البصرة) واسمه: فاضل الزرقاني الذي قام بتفتيشي بحثا عن السلاح، ولما لم يجد سلاحا أدخلني إلى الغرفة، وكان فاضل البراك، مدير الأمن العام(كان يلقب بــ(بريا) سفّاح ال .K.G.B في عهد ستالين الدموي) جالسا إلى جنب مدير أمن بغداد. طلبوا مني الجلوس، فجلست متوكلا على الله سبحانه، وبدأ فاضل البراك بالتحقيق:

-: ما هي علاقتك بحزب الدعوة؟.

أنكرت أن تكون لي أية علاقة بالحزب المذكور، ولم يكن إنكاري تهربا من الاعتراف بل كان بيانا للحقيقة، إذ لم تكن لي فعلا أية علاقة تنظيمية بأي حزب إسلامي، بالرغم من نشاطاتي الإسلامية السابقة في كل من انجلترا وكندا، وبالرغم من مواقفي السياسة من موقع التزامي الديني.

سألني البراك:

ماهي علاقتك بــ ( ج . ز) ؟.
-: انه أحد معارفي.
-: لقد اعترف عليك بأن لك علاقة تنظيمية به, وانه زوّدك بالسلاح.

أجبت – منكرا هذه التهمة -:

لا تربطني أية علاقة تنظيمية به وبأي شخص آخر

فقال البراك:

هاتوا الرجل.

فجاؤوا بالرجل، وفي الحقيقة لم أتعرف عليه في الوهلة الأولى، فقد كانت ملامحه متغيرة تماما نتيجة التعذيب، وكان منهكا تماما وشبه مشلول، علما بأنه لم يكن قد مضى على اعتقاله أكثر من يومين.

وبكلمات منهكة ومتهدجة قال ) ج.ز.) أمام الحضور:

أنا أعرف الدكتور حسين، وكنت ألتقي به، وكان ينتقد النظام ويتكلم ضد الحزب والثورة وضد الرئيس صدام حسين، إلا انه أنكر تهمة العلاقة التنظيمية، وكذلك تهمة تزويدي بالسلاح.

وهنا أخذت زمام المبادرة وخاطبت البراك:

أنا لا أعرف ظروف ( ج.ز ) ولكن يبدو واضحا بأنه لا يعي كلامه، وقد يكون مرغما على الإدلاء باعترافات غير واقعية، واني أنكر ما ينسبه لي باستثناء دعواه باني كنت انتقد النظام وانتهاكه لحقوق الإنسان حيث الاعتقالات والإعدامات في صفوف الإسلاميين.

خاطبني البراك بلهجة أكثر جفافا وشدة:

أنا أنصحك أن تعترف، ومن الممكن حينذاك أن نتساهل معك، و إلا نضطر أن نتبع معك أساليب أخرى وننتزع منك الاعترافات التي نريدها.

إلا انه لم يجد مني غير الإصرار على موقفي
-: لا شيء عندي لكي اعترف به.

عندها صاح البراك:

خذوه.

دفعني فاضل الزرقاني خارج الغرفة، وعصّب عينيّ بعصابة أحكم شدها بحيث لم أستطع رؤية شيء أبدا، ثم ربط يدي بحبل إلى الخلف وقادني عدة أمتار ثم دفعني على سلم يؤدي إلى طابق سفلي، فتدحرجت من مرقاة لأخرى حتى وصلت إلى أسفل السلام بهذه الطريقة المبتكرة، حيث وجدت نفسي في دهليز مظلم تحت الأرض يضم العديد من غرف التعذيب الرهيبة التي تشتهر بها (مديرية الأمن(.

لغة الصنّارة


سحبني جلاوزة الأمن إلى إحدى غرف الدهليز المظلم، حيث تلخّص تلك الغرفة كل فلسفة حزب السلطة، وتمثل أفضل نموذج تطبيقي لأفكار صدام حسين وفلسفة وجوده على رأس الحزب والسلطة، كما تعكس بكل وضوح الحياة التي يعيشها الشرفاء من أبناء الوطن .. غرفة التعذيب التي تترجم كل الشعارات الوطنية (‍‍‍!) و القومية(!) لحزب البعث العراقي عبر الآلات والعضلات.. فحيث عجزت أساليبهم ومراوغاتهم الكلامية عن انتزاع أية معلومات أو اعترافات، قرروا سلوك أسلوبهم المفضل.

علقوني بصنّارة مثبتة في السقف من يديّ المربوطتين إلى الخلف – وتسمّى هذه الطريقة بــ ( الفراكونوية ) لأنها من إبداعات النظام ( الفرانكوي ) في أسبانيا _ وتركوني لعدة دقائق كانت قابلة للتحمّل في الوهلة الأولى، إلا انه بعد مرور حوالي عشر دقائق بدأت أشعر بألم رهيب في الكتفين وكأنهما تكادان تنخلعان، واخذ الألم يمتد شيئا فشيئا ليشمل كل الأعصاب المنتشرة في جسمي .. ثم اخذ الجلاوزة باستخدام العصي الكهربائية وتسمى في قاموس حزب السلطة (( الزنبور)) .. يضعونها على المناطق الحساسة من الجسم، بحيث كان التيار الكهربائي يسري في كل العروق ويهز الجسم هزا عنيفا وأنا معلق بالسقف .. ومع كل لسعة كهربائية كانت قهقهات الجلاوزة تعلو ارتياحا للخدمة التي يقدمونها لأحد أبناء الشعب .. ولكي يضمنوا انهيار السجين بشكل كامل والقضاء على معنوياته ، كانت السياط و الكيبلات الغليظة تتلوى على بدني الذي بدا متهالكا من أثر التعذيب ، وكانت السياط تلدغ كل أعضاء جسمي وتحفر عليها خطوطا دامية سرعان ما تتورم وكأنها لحوم إضافية نبتت كحبال ملتوية على كل أنحاء الجسم ينبعث منها ألم قاتل ..

كان ثلاثة أشخاص أو أربعة من الجلادين يقومون بمهمة التعذيب ، احدهم ( فاضل الزرقاني ) الذي كنت اعرفه من صوته لأنني واجهته قبل ذلك في جلسة التحقيق الأولى في غرفة مدير الأمن ، كما كان فاضل البراك موجودا في بداية التعذيب ، إلا انه ترك المهمة لزملائه وذهب لمتابعة مسؤولياته الوطنية (!) الأخرى.

الجلاوزة يلّحون عليّ بالأسئلة المتتابعة عن: التنظيم .. السلاح .. المنشورات .. التآمر .. أعضاء الخلية الحزبية و .. و .. وأنا أصر على موقف النفي والإنكار أو السكوت ..

وكلما كنت أوشك على الإغماء وفقد الإحساس ، كانوا ينزلونني من الصنارة ويرشّون علي الماء وبعد الإفاقة يعلقونني من جديد.

وكان الجلاوزة يواصلون التعذيب أثناء التعليق بمختلف الأساليب إلى أن يتصبب عرق بارد من جبين السجين، وكان هذا علامة على إن الفرد معرض للموت خلال دقائق، ربما بسبب تعرض القلب لضغط هائل واحتمال توقفه المفاجىء عن النبض، لذلك كانوا يسرعون إلى إنزال السجين من الصّنارة وتركه لفترة ريثما يستعيد أنفاسه ، ثم يعلق مرة أخرى ، وهكذا تتوالى إلى حلقات مسلسل التعذيب .. وتطبيق مبادىء ( الحزب ) و(الثورة) بحق أبناء الشعب والوطن.

وتمزقت ملابسي خلال عمليات التعذيب التي استمرت طوال الليل ، ففي قاموس السلطة لا توجد مفاهيم الحياء والكرامة ..

كانت الصرخات الوحشية المندمجة مع ضربات السياط ولسعات القضبان الكهربائية تطالبني أن أعترف:

  1. بالانتماء لتنظيم معاد للنظام الحاكم.
  2. بامتلاك السلاح لأغراض معاديه للحزب و الثورة.
  3. بأسماء الأشخاص المعادين للسيد الرئيس الذي أتعاون معهم في النشاطات المناوئة للسلطة.

ورغم كل الألم القاتل الذي كان يسري عبر كل العروق والأعصاب ، ورغم الدماء التي كانت تسيل من مختلف أعضاء بدني ، وتمسكت بالنفي والإنكار ، وتحديت كل ماكنة العذاب الصدامية بالإيمان بالله والتوكل عليه ، إلا انه – ولعلمي بانّ جلادي الأمن سيفتشون بيتي شبرا .. شبرا .. ولكي اكسب قسطا من الوقت ألتقط خلاله أنفاسي استعدادا للوجبات القادمة – قلت لهم:

أنا املك مسدسا شخصيا احتفظ به في البيت لغرض الدفاع عن النفس ضد اللصوص، كما هي عادة أكثر العراقيين، وهو مسدس قديم و صدىء ورثته من أبي، وهو الآن مدفون في حديقة المنزل ولا علاقة له بما تحقّقون حوله.

هنا كاد المحقق أن يطير من شدّة الفرح، إذا اعتبر نفسه يسجّل أول انتصار في هذا الملف وذلك بانتزاع الاعتراف بالسلاح مني فقال:

مسدس؟. سلاح؟. تمام .. هذا هو المطلوب – وأطلق ضحكة خبيثة – نحن نعرف إن العملاء والجواسيس يجلبون الأسلحة من الخارج لتعريض أمن القطر والحزب والمواطنين للخطر(!) .. هيا، نذهب ونأتي به ..

وهكذا .. ورغم إنني الضعيف الذي لا يملك أي حول أو قوة غير إيمانه وتوكله على الله عزّوجلّ والمقيد بين يدي الجلاوزة الدمويين الذين يمتلكون كل أسباب القوة المادية، سجلت أول انتصار على خدعهم الماكرة .. إذ استطعت أن أحصل على عدة ساعات من الراحة ارتّب خلالها أفكاري وخططي لمواجهة عمليات التحقيق القادمة، واستعيد بعض قواي الجسدية لمواجهة وجبات التعذيب الآتية.. إذ لولا هذا (( الاعتراف الخطير!)) لاستمر التعذيب دون أية وقفة.

~ لغة الصنّارة ~


وبسرعة خاطفة احضروا سيارة خاصة ونقلوني فيها مكبّل اليدين ومعصوب العينين إلى البيت، واخرجوا المسدس من حديقة المنزل، و فوجئوا بان المسدس فعلا قديم و صدىء، رغم إنهم كانوا يتوقعون أن يكون هذا خيطا يدلهم على مخزن للسلاح.

صاح احدهم:

ما هذا؟ انه لا يقتل قطة!.

-: قلت لكم بأنه قديم و صدىء ، ولكنّكم جعلتموها قضية.

وعادوا بي إلى الدهليز المظلم مرة أخرى، وهم يتفجرون غضبا لأنهم لم يعثروا على ما يتمسّكون به لإدانتي.

وبدأ مرة أخرى مسلسل التعذيب: التعليق بالصّنارة والضرب بالسياط واستخدام القضبان الكهربية. وكّلما كان العرق بارد يتصبب مني ، كانت دقائق الاستراحة .. حيث يطرحونني على الأرض مكوما على نفسي أصارع الآلام والجروح ريثما يعودوا مرة أخرى للتعليق .. وبقية مبادئ السيد الرئيس!.

~~~~~~

ولما عجزوا – بعد أيام من التعذيب – من الحصول على أية اعترافات عن السلاح والانتماء للتنظيم، اخذ المحقق يصر على كشف أسماء الأصدقاء .. وكانت بالطبع مراوغة ماكرة لاستدراجي إلى الاعتراف ولو بشئ بسيط لكي يتمسكوا به لانتزاع اعترافات متسلسلة أخرى ..

وهنا لابد من تسجيل هذه التجربة التي تؤيدها كل وجبات التعذيب وحالات الصمود أو الانهيار، التي تقول: إن الاعتراف – ولو بشيء بسيط – يجر الفرد إلى اعترافات أخرى، وبالتالي فان وجبات التعذيب وأساليبه تتضاعف وتشتد، خلافا لما قد يبدو للإنسان في الوهلة الأولى بان الاعتراف قد ينهي التعذيب أو يخفف من حدّته .. ذلك لأن الجلاّد بمجرد حصوله على أول اعتراف فانه يضاعف الضغط أكثر فأكثر لانتزاع اعترافات أخرى، ولا يقتنع أبدا بان هذا الاعتراف هو كل ما لدى السجين .. بينما الصمود والمقاومة والتمسك بموقف الإنكار والنفي يقنع الجلاد شيئا فشيئا بان السجين لا يملك شيئا يعترف به. كما إن الصمود يجعل المحقق والجلاد ينهاران نفسيا ويتراجعان في أكثر الأحيان حتى ولو كانت بايديهما أدلة مادية تدينه في الظاهر.

كان احد الجلادين يقول: إن السجين المنهار الذي يعترف يشبه الإسفنجية، نظل نعصرها باستمرار، إذ كلما عصرناها خرجت منها ولو قطرة واحدة .. بينما السجين المقاوم هو كالصخرة .. لا يمكن عصرها، فلا بد أن نلقيها بعيدا ونتخلص منها.

وبدأت المراوغة الماكرة ..

قال المحقق – الجلاد:

ثبت عندنا انه لاشيء لديك تعترف به، ولكن نريد منك أسماء أصدقائك.

هنا تظاهرت بأنه لا مانع لدي من ذلك. فأعطيتهم أسماء الزملاء والأصدقاء في العمل. قال:

ليس هذا هو المطلوب.

أعطيتهم أسماء بعض المعارف والأقرباء الذين ليست لهم أية نشاطات سياسية أو هم من المتواطئين مع النظام.

إلا إن الزرقاني، الذي كان خبيرا بالحركات الإسلامية، وكان يعرف أدق التفاصيل المرتبطة بالإسلاميين، إذ كان يتمتع بخبرة طويلة في التصدي للنشاطات الإسلامية منذ عام 1974م حيث كان مسؤولا عن ملف مجموعة الشهيد عارف البصري، قال: ليس هؤلاء الذين نريد ..

وفي إحدى وجبات التعذيب بدا لي أن أذكر اسم ( كوثر الزبيدي ) وهي منتمية لحزب صدام حسين وكانت تعمل في مركز البحوث النووية .. فارتاح الزرقاني لهذا الاسم، لأنه تصور الأمر انه سيكون بداية الخيط، إذ إن الاسم يدل على إنها شيعية، إذن فهي صيد سمين، ولكنه سرعان ما خاب أمله عندما بدأ اتصالاته بالمركز فاكتشف إن كوثر الزبيدي هي من أعضاء السلطة ولا يمكن أن تكون لها علاقة بأي نشاط إسلامي معارض.

على كل حال، كنت حريصا كل الحرص على عدم البوح باسم أي شخص من الأصدقاء الإسلاميين أو الزملاء المتدينين، لكي لا أكون سبب لتوريط احد من المؤمنين بهذه المحنة، وقد وفّقني الله عزوجل لذلك.. والحمد لله.

وبعد أيام عديدة من عمليات التعذيب المتلاحقة والتي كانت تستمر ليل نهار بالطريقة التي شرحتها ، وعندما يئسوا من الحصول على أية معلومة تنفعهم فيما يخص ملف السلاح والتنظيم الإسلامي والأصدقاء الإسلاميين المعارضين ، قرروا فتح ملف جديد ، وهو ملف العمل في مركز البحوث النووية.

~ مفاعل تموز ~


قال المحقق مراوغا:

ثبت لدينا انك مخلص ومتدين، ولكن بقي موضوع مهم أرجوك أن تحدثنا عنه وينتهي كل شيء، نريد منك أن تقول لنا من الذي نسف المعدات النووية في فرنسا ، والتي كانت على وشك أن تشحن من ميناء مرسيليا الفرنسي إلى مفاعل تموز النووي؟

وهنا برزت قضية جديدة لم أكن أتوقعها ..

فما هو مفاعل تموز؟

بدأ الروس العمل بإنشاء مفاعل نووي قبل استيلاء حزب البعث العراقي على السلطة عام 1968م، إلا أن العمل توقف فيه بسبب توتر العلاقات بين الروس والنظام العراقي جراء الأزمة مع الشيوعيين في الداخل. وفي عام 1975م بدأت المفاوضات مع الفرنسيين لبناء مفاعل نووي جديد يعمل بقدرة عالية، وفي عام1977م أبرمت إتفاقية مع الفرنسيين، وكنت مع الدكتور جعفر ضياء جعفر المسؤولين الرئيسيين لمتابعة الأمور الفنية لهذا المفاعل النووي، وكان الفرنسيون يسمون هذا المفاعل (اوزيراك) بينما كان يسمى في العراق ( مفاعل تموز). وكان المفروض استخدامه للأغراض السلمية، إلا أن صدام حسين كانت تحوم في رأسه أفكار وطموحات شيطانية أخرى لم يكشف عن حقيقتها.

وفي عام 1979م نسفت المعدات التي كانت من المفروض أن تنقل من ميناء مرسيليا الفرنسي إلى مفاعل تموز في العاصمة بغداد.

لذلك أضاف جلاوزة الأمن هذه القضية إلى ملفيّ وطلبوا مني الكشف عن العراقي المتواطئ مع الاسرائيلين لنسف هذه المعدات.

وباختصار شرحت لهم كلما اعرفه عن المشروع:

لقد سافرت إلى فرنسا للتحقيق في هذه المسألة، وقد اثبت التحقيقات التي أجريناها مع الفرنسيين عند ما كنت مسؤولا في( منظمة الطاقة الذرية ) بأن العملية تخريبية قام بها جهاز المخابرات الإسرائيلية وبالتنسيق مع بعض الفرنسيين، فنحن لم نكن نعرف تاريخ شحن المعدات، لان الفرنسيين لم يكونوا قد بلغونا بذلك، فنحن عادة نبلّغ بهذه التفاصيل بعد الشحن، وقد استبعدنا نحن والفرنسيون أي تواطؤ من داخل العراق، لأنها نسفت عندما كانت في مخازن الميناء الفرنسي قبل شحنها، فالمسألة واضحة جدا، وكل الدلائل تشير على إن تواطأ لبعض العاملين في الطاقة الذرية الفرنسية مع جهاز المخابرات الإسرائيلية كان وراء عملية التخريب.

قال المحقق في محاولة لاستدراجي إلى ما يريد:

تتوفر لدينا معلومات مؤكدة بأن الدكتور جعفر ضياء كان متواطئا معهم لأن والده كان وزيرا في العهد الملكي، وهو نشأ ودرس في انجلترا، إذن فهو الطرف الذي كان على اتصال بالمخابرات الغربية،

وكانت العبارات الأخيرة مراوغة ماكرة لاستدراجي للتعاون معهم وإدلاء أية أقوال ضد الدكتور جعفر.

أجبتهم:

أستبعد هذا الكلام ، لأن المخابرات الغربية لم تكن بحاجة للحصول على المعلومات من الدكتور جعفر ، لان المعدات وكل المعلومات المتعلقة بالمشروع كانت عندهم وليس عندنا.

ولما عجز المحقق عن تحقيق هدفه دخل من باب المساومة:

نحن سوف نطلق سراحك، ولكن شرط أن تقول لنا بأن الدكتور جعفر هو عميل متواطئ ونؤكد لك بأننا سنغلق ملفك فيما يرتبط بالتنظيم الإسلامي، والسلاح، و … و …

إلا أن موقفي لم يكن غير الإصرار على جوابي:

-: أنا لا أستطيع أن أنسب للدكتور جعفر مثل هذه التهمة ، صحيح إن الرجل ليس ملتزما دينيا ولكن من المستبعد جدا أن ينسق مع المخابرات الأجنبية.

وهنا تغيّرت لهجة المحقق وراح يقسو في أساليب التعذيب وهو يسأل مرة أخرى عن علاقاتي التنظيمية، وارتباطي بإيران و … عشرات التهم السياسية الخطيرة الأخرى ، تصحبها وجبات دسمة أخرى من التعذيب الرهيب والتعليق بالصنّارة و … و …

لقد عجز الجلادون عن انتزاع أية معلومات حول ما يريدون ، وباءت كل أساليبهم القاسية والمراوغة بالفشل.

وفي الحقيقة كانت الـ 22 يوما التي قضيتها في غرفة التعذيب .. بكل ما تحمل من إرهاب و قساوة و دموية، وبكل ما يمارس جلاوزة الطاغية فيها من أساليب شيطانية لتحطيم معنويات الإنسان وكسر مقاومته، وإخضاعه لما يريد الجلاد وسلب إرادته وحريته أمام ماكنة العذاب التي تبدع السلطة الصدامية كل يوم في تطويرها وإضافة أساليب جديدة إليها في التنكيل والقمع .. كانت هذه الأيام فترة اختبار صعبة وفّقني الله تعالى للصمود والمقاومة وتحدي كل الضغوط والخروج منها مرفوع الجبين.

وأخيرا .. قرر الجلاوزة نقلي من غرفة التعذيب إلى الممر المظلم الفاصل بين مجموعتين من الزنزانات الدموية .. وخلال فترة وجودي في الممر لم يتصل بي احد، أو يكلمني أي شخص حتى الشرطة أنفسهم وأنا معصوب العينين ومكبل اليدين، وكان أسلوبا ماكرا لإدخال المزيد من الرهبة والوحشة والإحساس بالوحدة لدى السجين لتحطيم معنوياته. وبعد فترة الممر، نقلوني إلى غرفة خاصة يطلق عليها عنوان ( غرفة القيادة ) بسبب أهمية الأفراد المسجونين فيها.

~~~~~~

وأشير هنا إلى إن أساليب التعذيب التي تستخدمها أجهزة الأمن ضد المعتقلين لا تنحصر في الصنّارة والسياط والقضبان الكهربائية التي استخدمت معي، بل هناك عشرات الأساليب الأخرى المبتكرة بواسطة جلاوزة حزب السلطة أو المستوردة من الأجهزة الأجنبية المماثلة .. ونذكر كمثال:

المثقب الكهربائي لثقب العظام.
المنشار الكهربائي لقطع الأصابع أو اليد أو الرجل.
شعلة النار الغازية التي تسلط على بعض أعضاء الإنسان .
سائل التيزاب لاستخدامه في تذويب أصابع اليدين أو الرجلين ، وأحيانا لإعدام الشخص بإلقائه في حوض التيزاب.
المكواة الكهربائية لحرق مواضع خاصة من البدن كالظهر أو البطن أو الفخذين.

ولكنهم لم يستخدموا هذه الأساليب ضدّي، ذلك لان هذه الأساليب تترك آثارا ظاهرة على الجسم، وكان مركز الأبحاث النووية – كما عرفت فيما بعد – قد طلب من جهاز الأمن إعادتي إلى العمل إذا لم تثبت التهم الموجهة الي، لذلك فإنهم كانوا حريصين على تعذيبي بأساليب لا تترك آثارا طويلة الأمد على جسدي لكي لا تشكل أي إحراج للسلطة فيما لو قررت إعادتي إلى العمل و الاستفادة من خبراتي العلمية.

~ غرفة القيادة ~


بعد فترة التعذيب والتحقيق التي استمرت 22 يوما ( أي من 4 إلى 26 كانون الأول 1979م) وضعوني في هذه الغرفة و يداي مشلولتان تماما بسبب التعليق بالصّنارة، وقواي البدنية منهكة بحيث لم استطع حراكا. وكانت هذه الغرفة تضم عددا من قيادات حزب الدعوة، منهم عبد الأمير المنصوري ( من محافظة البصرة) احد مسؤلي الحزب.

وكان المعتقلون في هذه الغرفة يقضون معظم أوقاتهم بالصلاة والدعاء والتضرع إلى الله عزوجل، بينما كان رجال الأمن يراقبونهم ويمنعونهم من التحدث فيما بينهم.

أما وضعي الصحي فكان متدهورا للغاية، إذ لم أكن من – شدة آثار التعذيب – استطع القيام من مكاني، بل لم يكن بمقدوري تحريك يدي وأصابعي، حديث كنت اشعر بان أعصاب الكتفين واليدين متقطعتين تماما بسبب التعليق الطويل ولعشرات المرات بالسقف، إلا إنني كنت بفضل الله تعالى استعيد قواي شيئا فشيئا وبشكل تدريجي .. وكان الأخوة المؤمنون في الغرفة يساعدونني في القيام بشؤوني، وكانت العلاقات بيننا علاقات ود وتعاون وتعاضد.

~~~~~~

في هذه الغرفة سألني عبد الأمير المنصوري الذي كنت التقي به لأول مرة في حياتي:

هل ذكرت اسما من الإسلاميين المعارضين؟.

فأجبته بالنفي. وكان عبد الأمير يعرفني عن طريق صديقي ( ص.ف.) الذي كان المنصوري مسؤوله التنظيمي بينما لم أكن أعرف بذلك.

~~~~~~

وفي احد الأيام دخل الجلاد فاضل الزرقاني الغرفة وخاطبني:

كيف حالك؟

-: قلت له:

الحمد لله.

-: لقد عثرنا على صاحبك الذي أعطاك المنشور وقد اعترف عليك بكل شيء.

وكان عناصر الأمن قد عثروا أثناء تفتيش البيت على منشور كان قد جلبه لي شخص من انجلترا، وكان المنشور يحتوي على أسماء مجموعة من المعدومين كان منهم المهندس علاء الشهرستاني ( ابن عمي ). وفي التحقيق الدموي كنت قد أنكرت معرفتي باسم الشخص الذي جلب المنشور ، وكان هذا هو الحقيقة ، إذ إن الشخص المعني لم يكن يعرفني ولذلك فقد أوصل المنشور الي عن طريق صديق مشترك هو ( ح. ر.)

وتحت إصرار المحقق لاعترافي باسم الشخص الذي أعطاني المنشور قلت له:

أتذكر إن اسمه مركب من كلمة (عبد) ثم اسم من أسماء الله الحسنى إلا إنني نسيته وهو من أهالي البصرة.

فبادرني المحقق وكأنه حصل على ما يريد:

اسمه عبد الرزاق؟. هنا توقعت بأن عبد الرزاق شخص معتقل ، وقد اعترف بأنه هو الذي جلب المنشور لي ، لذلك اعتبرت الإنكار لا يفيد طالما أنّ المنشور عثر عليه في بيتي وأنّ الذي جلبه من انجلترا اعترف على نفسه.

فأخذني المحقق إلى غرفته، وقال لي:

اعترف.

-: بماذا أعترف ، إنّ عبد الرزاق هو عندكم وقد اعترف بكلّ شيء.

-: ما اسم والده؟

هنا أدركت بأنهم لم يعتقلوا الشخص الذي جلب المنشور لأنهم لو اعتقلوه لعرفوا أسم والده، وكان هذا من غباء المحقق حيث جعلني اكتشف الحقيقة التي انطلت علي في الوهلة الأولى، فأنكرت معرفة اسم والده.

سأل المحقق:

في أي دائرة يعمل؟

-: إما بالميناء ، أو السكك ، أو البتر وكيماويات.

فاشتاط المحقق غضبا وصفعني وهو يصرخ:

هل تركت أحدا بالبصرة؟

ثم قاموا بتعذيبي من جديد. بالعصي الكهربائية … ، بالفلقة… ، بالكيبل… ، غيرها ، وفي الوقت نفسه شنّوا حملة اعتقالات واسعة بالبصرة على كل من أسمه عبد الرزاق.

ومن المهازل السخيفة التي تثير السخرية والاشمئزاز في آن واحد من تصرفات السلطة الجنونية هو إنهم جاؤوا بشخص من البصرة اسمه عبد الرزاق، وكان بدينا، ثم جاؤوا بي إليه ورفعوا العصابة عن عيني وقالوا لي:

هل هذا هو الذي أعطاك المنشور؟

بينما كان المسكين يبكي ويقول:

والله إنّ هذا جسمي كلّه من الويسكي، وأنا لا أصوم ولا اصليّ، ثم أخذ يكرر عبارات الكفر بالله عزوجل لكي يثبت أن لا علاقة له بالإسلاميين، ففكرت في نفسي: رغم إن هذا الرجل غير مؤمن ولا قيم له إلا أن الله لا يرضي أن أغبنه، لذلك فقد أنكرت معرفتي بالرجل، فأطلق سراحه.

~ أخوة الزنزانة ~


في زنزانات مديرية الأمن، حيث التحقيق المطعم بوجبات التعذيب الرهيبة، مقدمة للمحاكمات الصورية، صاحبت الكثير من المؤمنين الذين كان الواحد منهم أسطورة في الجهاد والمقاومة والتحدي.. ووفاء لعهد الصحبة والأخوة كنت أود أن اذكرهم جميعا هنا، إلا أن المجال لا يسع، لذا فإنني أشير إلى عدد منهم لتعميم الاستفادة من تجاربهم:

الدكتور حسن محمد رجاء

كان مستشارا في وزارة النفط، من محافظة كربلاء، وكان من أعز أصدقائي، وأقربهم إلى نفسي، وكنا نتزاور دائما.

لقد عذبوا الدكتور حسن تعذيبا قاسيا بحيث تهرّأ جسمه، وبرزت عظام رجليه، وبعد ذلك أودعوه في سجن أبو غريب، ثم أوخذ مع (( الوجبات)). * ( الوجبات مصطلح أطلق على مجاميع السجناء الذين أخذوا من سجن أبو غريب على شكل وجبات يتراوح عدد منها بين 30 و60 سجينا يربطون سوية بسلك طويل ويقادون خارج السجن، ولم يحصل على اثر لأي سجين أخذ في هذه الوجبات، وأكثر الظن إن نظام السفاح قد أعدمهم ودفنهم في مقابر جماعية. وشملت هذه الوجبات بالإضافة إلى سجناء أبو غريب بقية المعتقلين في مديريات الأمن في بغداد والمحافظات ويقدر عددهم حوالي 000/ 300معتقل)

الدكتور رياض زيني

وهو طبيب من أهالي مدينة الكاظمية في ضواحي بغداد، وكان مسجونا في زنزانة قريبة من القاعة التي كنت فيها، وكان رجال الأمن لا يسمحون باختلاط السجناء أو التحدّث فيما بينهم.

وفي إحدى المرات خرجت مجموعة الدكتور رياض إلى المرافق الصحية، ولكنّه تأخر بعد أن رجعت مجموعته لأنّه كان في وضع متعب للغاية، ويصارع جروحه الدامية، غير قادر على التحرك بسرعة. وقد اعتقد الحارس رجوعه مع المجموعة، وحينما خرجت إلى المرافق – وكنت اخرج لوحدي – رأيت الدكتور رياض وهو في حالة منهكة، ولم أكن اعرفه قبل ذلك، فقلت له:

أخي ! يعز عليّ أنّ أراك بهذه الحالة، ولا أعرف من الذي يسبق الآخر للشهادة، ولكن إذا كنت تحب أن توصيني بشيء فأنا بالخدمة.

نظر الدكتور رياض الي وقال:

دكتور* ( كان الدكتور رياض يعرفني بالاسم لأنه كان قد سمع بوجودي في السجن مثلما سمع بقية السجناء) وصيّتي لإخواني أن لا يطأطئوا رؤوسهم لهذا الطاغية، ولا أملك غير هذه الوصية.

لقد كان الدكتور رياض صامدا كالجبل، ولم يدل بأي اعتراف. أما ما هي قصة اعتقاله؟. وما هي تهمته؟.

كان أحد المعتقلين من أهالي مدينة الثورة في بغداد واسمه عبد الرزاق قد انهار نتيجة التعذيب واعترف اعترافات خطيرة على المجاهدين من أبناء مدينته فقد اعترف على أكثر من ( 300 ) شخص، وفي إحدى المرات التقى بالدكتور رياض فقال له الدكتور:

إنك عشت مسلما وستموت كافرا. انظر لسوء العاقبة كيف تكون، وقارن نفسك بـ (( الحر بن يزيد ))، الذي خرج لقتال (( الحسين عليه السلام)) ولكنّه دخل الجنّة بتغيير موقفه عندما اكتشف الحقيقة ، أما أنت فقد كنت من أهل الجنّة ، وسوف تدخل النار لأنك تعاونت مع الظلمة.

حينما سمع عبد الرزاق هذا الكلام رفع تقريرا إلى فاضل الزرقاني وأخبره بكلام الدكتور رياض، فتمّ استدعاؤه، وأخذوه إلى غرفة التعذيب وكسروا قنينة زجاجية وأدخلوها في مقعده فتمزق مقعده، وتمزقت أمعاؤه، وأصبح في وضع يتمنى الشهادة بأسرع وقت، ويعتبر هذا الأسلوب الوحشي من أكثر أساليب التعذيب قساوة وألما.

وبعد سنوات التقيت بوالد الدكتور رياض في طهران فقلت له:

(( إن رياض )) استشهد كبطل.

لقد تمّ إعدام الدكتور رياض فيما بعد، وأما الخائن عبد الرزاق فقد أطلق سراحه لفترة، إلا أنه لم ينج من الإعدام أيضا وباء بسوء العاقبة في الدارين.

النقيب حميد

وهو من أهالي مدينة الناصرية، وهو ابن شيخ قبيلته، تمّ اعتقاله مع مجموعة من ضباط الجيش منهم:

النقيب سعيد المالكي من أهالي مدينة ميسان
النقيب هشام الّلامي من أهالي مدينة الديوانية
النقيب غالب.
النقيب عاصم.

كان النقيب حميد رجلا أسمر طويلا شجاعا.

عندما جاؤوا به رأيته مزهوا بشجاعته وبنشأته العسكرية، وكان مصمما على عدم الاعتراف، وقبل أن يأخذوه للتعذيب قلت له:

أخي أنا لا أعرفك، ولا ادري إذا ما كنت تعرفني أم لا؟
ولكني أوصيك أن تتحمل ولا تعترف على أحد ولا تجعل دم مؤمن في رقبتك ،

فقال لي وقد عرفني:

دكتور حسين ! تكرم … لا تخف علي.

ثم جاء المحقق فاضل الزرقاني مع ضابط الأمن وأخذا النقيب حميد، ومارسوا معه تعذيبا رهيبا لأنهم كانوا يخشون من وجود تنظيم عسكري تابع لحزب الدعوة الإسلامية حيث كانوا قد اكتشفوا قبل ذلك تنظيما عسكريا واعتقلوا عدّة ضبّاط.

لقد ثقبوا عظام يديه بالمثقاب, وحرقوا جسمه بالتيزاب حرقا شديدا, ولمّا عادوا به كان جثّة ممزقة, وعظاما مهشمة بحيث لا تكاد تعرفه بأنه ذلك البطل المعتد بنفسه, الواثق من شجاعته, لقد تم إعدامه فيما بعد هو وبقية أخوته النقباء.

السيد عبد الرحيم الياسري

كان السيد عبد الرحيم الياسري عالما دينيا وكان وكيلا للسيد الخوئي( قدس سره) في ديالى, كما كان أحد المسؤولين في (( حزب الدعوة )) وكان ضعيف البنية وعذبوه عذابا رهيبا, لذلك قرر الانتحار بواسطة سلك الكهرباء الموجود في المرافق, إلا إن محاولته فشلت, ثم كرر المحاولة في اليوم الثاني لكنها أيضا فشلت, وقد حدثني – فيما بعد -عن محاولتيه وقال:

لقد عذبوني عذابا شديدا حتى شعرت بأني لم اعد أتحمل التعذيب, وخشيت الانهيار والإدلاء باعترافات تؤدي بالعشرات من المؤمنين إلى الإعدام, فقررت الانتحار لأني رأيت بان الانتحار ليس جائزا فقط, بل واجبا علي, كي احمي المؤمنين وخصوصا الشيخ (( حسن معن))*

(أحد قيادي (( حزب الدعوة )) وهو من الأفذاذ وقد ضغط رجال الأمن على السيد الياسري ليدلهم على مكانه فلم يتمكنوا من الحصول على اعتراف). وقد شرح المحاولتين كالتالي:

عندما أخذوني إلى المرافق أخذت السلك الكهربائي بيدي فرجتني الكهرباء رجة قوية ورمتني بعيدا, وكنت أنتظر بأن أسقط في أحضان الحور العين لكني وجدت نفسي مرميا على الأرض.

ويضيف السيد الياسري:

جئت وحكيت القصة لشخص أثق به, وقلت له بان الكهرباء لم تقتلني فما هو السبب؟.

فقال لي :

يجب أن تكون هنالك رطوبة تحت قدميك حتى يكون جريان التيار الكهربائي قويا.

وفي اليوم الثاني حينما أخذوني إلي المرافق, خلعت نعلي وسكبت الماء على الأرض ووقفت عليها أخذت السلك الكهربائي بيدي فرجتني الكهرباء أيضا رجة قوية ورمتني, إلا إنها لم تقتلني في هذه المرة أيضا. وفي اليوم الثالث اخذوا مني وللأسف اعترافا على الشيخ حسين معن, وكانت كل الخطوط التنظيمية تنتهي به.

وروى لي السيد الياسري هذه الواقعة. قال:

كنت وكيلا للمرجع الديني الكبير السيد الخوئي في ديالى, وذهبت في إحدى المرات إليه وطلبت منه أن يعفيني من الوكالة لأنني وكما شرحت له – أصبحت مقلدا للسيد محمد باقر الصدر بعد ثبوت اعلمتيه لدي

. قال السيد الخوئي:

عليك بتقليد السيد الصدر بعد ثبوت اعلميته لديك. ولكنني أريدك أن تبقى وكيلا لي كذلك في ديالى.

وقد حكم على السيد الياسري بالسجن لسبع سنوات, وسجن في قسم الأحكام الخاصة في سجن أبو غريب, وفيما بعد اخذ ضمن صفوف ( الوجبات ) ولا يعرف مصيره حتى الآن.

عبد الأمير المنصوري

وهو أحد قيّادي حزب الدعوة, وكان شجاعا ومقداما بدرجة كبيرة, ومن ابرز قصصه المعروفة انه حينما اعتقل الشهيد الشيخ عارف البصري والمجموعات التي اعتقلت معه عام1974م, فان عبد الأمير المنصوري ذهب إلى(أمن الديوانية) حيث كان يجري التحقيق هناك ولبس نظارة سوداء, وكانت شواربه مثل شوارب البعثيين(8شباط)*(وهي شوارب متدلية من الجانبين على شكل رقم8, وهذا التاريخ- أي 8شباط -يمثل تاريخ انقلابهم العسكري الدموي سنة 1963م ضد حكومة ((عبد الكريم قاسم)).وانتحل صفة رفيق حزبي ودخل على الضابط المسؤول عن الملف, والمحقق فاضل الزرقاني وسلم عليه, وقال له:

إن مدير أمن البصرة(فلانا) يسلم عليك ويريد مني أن أحدثك بحديث خاص.

فأخرج الزرقاني الموجودين في الغرفة, ثم تحدث عبد الأمير المنصوري فقال:

هناك بعض الأشخاص(( من حزب الدعوة)) في البصرة وقد اعتقلناهم, وأنا رفيق حزبي, ويوجد أحد الأشخاص من عائلتنا اسمه (فلان) معتقل فإذا كان موجودا عنكم فأرجو تسليمه لي لكي أعدمه.

فقال الزرقاني:

نعم إنه موجود عندنا, وإعدامه لا يجوز الآن, ولكن تحدث معه وانصحه بأن يعترف.

فاستدعى المحقق ذلك الشخص فصفعه المنصوري صفعتين وشتمه وقال له:

لقد أخزيت عائلتنا, من الذي أتى بك إلى هؤلاء,

ثم قال للمحقق:

اسمح لي بأن أختلي به وأنصحه,

فاختلى به, وبشكل سريع عرف سير الاعترافات, ثم وجهه كيف يربط الخطوط كي لا تسري الاعترافات إلى الآخرين, وقال له:

هل فهمت؟

فقال المعتقل:

نعم

ثم صفعه وخرج, وأتى المحقق وقال له:

رفيق إنه وافق على الاعتراف.

وفعلا تحدث المعتقل بمثل ما وجهه به, واستطاع قفل الخطوط..

إن هذا الموقف يعتبر أسطوريا, إذ يدخل شخص في فم الأسد ويخرج منه بلا خوف أو تردد.

ويعتبر عبد الأمير المنصوري من المؤسسين للاتحاد الوطني لطلبة العراق*(منظمة طلابية, تمثل حزب البعث العراقي, في جامعات ومدارس العراق!!), إلا انه كان يحمل بعض الآراء القومية, وكان منشقا على قيادة حزب الدعوة يجب أن تكون عربية, وكان منشقا على قيادة حزب الدعوة في الكويت حيث كان من أعلامها الشيخ محمد مهدي الآصفي, وحينما اكتشف أمره وتم اعتقاله – أي عبد الأمير المنصوري- قال لهم:

ماذا تريدون… أنا أعترف لكم, فأنا أساسا مختلف مع قيادة((حزب الدعوة)) لأنها قيادة غير عربية, صحيح إننا إسلاميون ولكن لا نستطيع أن نتفاهم معكم طالما أنتم ضد أمريكا وإسرائيل(!).

كان عبد الأمير المنصوري يريد أن يستغل السلطة ويستدرجهم للعفو عن المعتقلين, فكان يضحيّ ببعض الخطوط في سبيل أن ينقذ بعض الخطوط الأخرى حسب اعتقاده, فمثلا اعترف على (قاسم عبود) وهو مسؤول تنظيم مدينة الثورة في بغداد لأنه كان يعتقد بأن قاسم عبود سيصمد ولا يعترف, ولكنه في الوقت نفسه كان يريد أن يثبت حسن النية للسلطة لإنجاح مشروعه!!

وعرف قاسم عبود بأن عبد الأمير المنصوري اعترف عليه, لذلك قال للمحقق:

نعم, إن عندي تنظيم,

وأعطاهم تنظيما وهميا, ولم يكشف عن التنظيم الحقيقي. لقد حكم على قاسم عبود بالإعدام, وقبل تنفيذ الحكم فيه، قال:

يكفيني فخرا أن أذهب للقاء ربي وثوبي ناصع أبيض إذ لم أعترف على أحد.

إن هذه الكلمات أربكت سلطات الأمن, لذلك أصدروا الأوامر- فيما بعد – بعدم تنفيذ حكم الإعدام بمن يدلي بمعلومات جديدة حتى تستكمل المعلومات, فإذا استكملت نفذوا الحكم فيه.

مضى الشهيد قاسم عبود إلى ربه بطلا واستطاع أن يحفظ بذكائه وصموده ثلاثمائة من المؤمنين المرتبطين به تنظيما في مدينة الثورة ببغداد.

وحينما جاء خبر إعدام الشهيد قاسم عبود,انهار عبد الأمير المنصوري ولم يستطع أن ينام تلك الليلة, لأنه شعر بأن خطته فشلت, وهذا أول مؤمن يعدم بسببه, لأن قاسم عبود لم يكن مطلوبا من السلطة وإنما اعترف عليه المنصوري في سبيل أن يثبت للأمن حسن النية كي تنجح خطته (مشروع المصالحة), لأن الأمن خدعوه, وقالوا له:

لقد أوقفنا الإعدامات وإذا اعترفت على أحد فإننا لا نعدمه وسننظر بمشروع المصالحة.

مشروع المنصوري:

لقد اقترح عليهم مشروع مصالحة بين الإسلاميين في العراق وبين السلطة, وذلك بأن ترسل السلطة عبد الرحيم الياسري الذي كان معتقلا عندهم إلى السيد محمد باقر الصدر باعتباره وكيلا له ويعرفه السيد الصدر ويثق به, ويزود برسالة من صدام حسين!!
تتضمن العفو عن المعتقلين الإسلاميين, وبعد إطلاق سراحهم, يرسل السيد محمد باقر الصدر رسالة شكر إلى صدام حسين.

كان عبد الأمير المنصوري يعتقد بأنه بهذا المشروع يستغفل رجال الأمن, ويستطيع أن ينقذ المعتقلين, ويؤجل الصراع إلى مرحلة قادمة خصوصا وأن التنظيم قد انكشفت معظم خطوطه. وقد حدثني المنصوري عن مشروعه, فقلت له:

عبد الأمير! إنك مخطئ, هذا خيال, هؤلاء قتلة, هؤلاء ليسوا طلاب إصلاح, إن خطتك تعني إيقاف أي عمل جهادي ضد السلطة الحاكمة في بغداد, وإن السيد الصدر لما سار في هذا الطريق فإنه لن يتراجع.

وكان المنصوري يثق بي لأن فاضل الزرقاني كان قد قال له في إحدى اللقاءات:

إن جماعتكم أقسام, قسم مثل الإسفنجة كلما تعصرها يخرج منها الماء, ونحن نبقى نعصرها, وقسم مثل الصخرة لا يخرج منها شئ وإذا عصرتها لا تؤذي إلا يدك, وهذا القسم نقطع رقبته ونتخلص منه, وإن حسين الشهرستاني من هذا القسم.

وكانت مثل هذه الحوارات تجري بين عبد الأمير المنصوري ومدير الأمن العام فاضل البراك, والمحقق فاضل الزرقاني, بينما كان المنصوري يشرب معهم الشاي.

لقد ظهر عبد الأمير المنصوري على شاشة التلفزيون, ولم يضرب ضربة واحدة, وكانت القيادات المعتقلة من (( حزب الدعوة)) تتوجس منه وتشكك فيه ولا تتعامل معه.

~~~~~~

وحول قضية عبد الأمير المنصوري حدثني الشيخ حسين معن فقال:

أن مشكلة المنصوري تكمن في قضيتين:

الأولى: أنه يعتقد بأن وجود عناصر من أصول إيرانية على رأس حزب الدعوة أمثال الشيخ الآصفي هي ظاهرة غير مطلوبة, وأن قيادة حزب الدعوة يجب أن تكون عربية.

وأضاف الشيخ:

إن هذا انحراف خطير, لأن مسألة القومية غير مطروحة في منهج الحزب.

الثانية: ظاهرة الإعتداد الشديد بالنفس حتى تصل إلى درجة الغرور.
وكان الشيخ يحاول عدم الاصطدام به كي لا يدفعه في أحضان السلطة, وكان قبل الاعتقال يحاول استلام المسؤولية منه بالتدريج.

الحاج عدنان سلمان.

وهو أحد القياديين الكبار في حزب الدعوة, وكان معتقلا في سنة1974م ضمن الخطوط التي اعتقلت مع الشهيد الشيخ عارف البصري رحمه الله وكان رأيه – قبل الاعتقال- في عبد الأمير المنصوري بأنه صاحب فكر منحرف, وخطر على حزب الدعوة, ويجب حماية المؤمنين منه. وقد أصدر أمرا بفصله عن الحزب, إلا أن عبد الأمير المنصوري كان يعرف كوادر الحزب القيادية والتشكيلات وخطوط الارتباط..

وعندما اعتقل عدنان سلمان عاهد ربه بان لا يعترف على أحد, وان لا يكلم الجلاوزة حول الاتهامات التي تنسب إليه بكلمة, لذلك حينما سأله المحقق عن التنظيم, وطلب منه اعترافا, قال له:

أنا عدنان سلمان. وأنا المسؤول الأول بالدعوة. وأنا المسؤول عن كل الخطوط, وهذا آخر كلام تسمعونه مني, وجربوا ما بدا لكم من أساليب, فلن انطق بكلمة واحدة ضد أحد.

فقال المحقق:

سأجعلك تتمنى الموت.

وفعلا استخدموا معه أساليب رهيبة في التعذيب, لكنه صمد صمودا أسطوريا, ولما اشرف على الموت احضروا له ثلاثة أطباء لعلاجه لكي يبقى على قيد الحياة لينتزع منه الاعتراف, وقال لهم المحقق:

إذا مات عدنان فسوف نعدمكم.

وكان عدنان عند وعده, شان الصادقين, ولم يتكلم بكلمة واحدة إطلاقا, وحينما اقتادوه إلى المحكمة كان عدنان في الرمق الأخير وفي سويعات الخلاص, لقد سطر درسا بدأه, ياسر, و ميثم, ورشيد وقد صافحت كفه أكفهم, وسيبقى رمزا للبطولة تذكره الأجيال.

الشيخ حسين معن ..

ويعتبر الشيخ حسين معن ظاهرة فريدة في الحالة الإسلامية من ناحية علمه وتقواه, ومن ناحية شجاعته وقدراته التنظيمية, وكان ظاهرة فريدة أيضا من حيث الاعتقال وسير التحقيق معه, حيث كان مطلوبا للسلطة منذ عام1974م, ولكنها لم تعثر عليه رغم كل المحاولات, وكان رحمه الله أحد القياديين البارزين في حزب الدعوة, ولما علم بان قيادات الحزب إما غادرت العراق أو اعتقلت من قبل السلطة الصدامية – وكان الحزب يعاني من غياب عناصر قيادية مسؤولة وفعالة – فانه تقدم وتحمل المسؤولية.

وقد حاول الشيخ احتواء عبد الأمير المنصوري, لأنه إذا تم اعتقاله والحديث قبل الاعتقال سيكون كارثة على الحزب لمعلوماته الكثيرة عن تشكيلات الحزب وخطوطه, ولاجتهاداته الخاصة به.

~ قصة الاعتقال ~


إن من جملة الخطوط التي لم تكن مكشوفة بعد, هو خط ((الكوفة والنجف)) وكان مسؤول النجف في نهاية 1979م هو عبد السادة الكعبي*( وهو معلم من (( ميسان)) وكان يدرس في (( الكوفة)).), وقد كلف الشيخ حسين معن أن يستلم هذا الخط منه, فكانت طريقة اعتقاله كما رواها لي كالتالي:

قال:

إني لم أكن اعرف عبد السادة الكعبي, ولم التق به قبل ذلك الوقت, وقد أعطيت شفرة بان اذهب في يوم معين وفي ساعة معينه إلى موقف سيارات نقل الركاب بين الكوفة والنجف, وسوف أجد هناك شخصا تحت المظلة يلبس نظارة سوداء ويحمل في يده اليمنى كيس نايلون احمر, واسأله: هل هذه السيارة تذهب إلى الكوفة؟ فيكون الجواب لا, في حين أنها تذهب إلى الكوفة.

ذهبت على دراجة ووصلت الموقف في الموعد المحدد, ورأيت شخصا يلبس نظارة سوداء, وبيده كيس نايلون احمر, وسألته خط السيارة فأجابني بالجواب الخطأ, فعلمت بأنه الشخص المطلوب فتعانقنا, و أخذنا نسير باتجاه النجف ودراجتي بيدي وكنا نتحدث عن الحركة الإسلامية وعن الاعتقالات, حتى وصلنا (( ساحة الميدان)) التي تقع قبل سوق النجف الكبير. إلا إنني فوجئت بان الوضع غير عادي, وأحسست بان المكان مطوق, وفعلا اعتقلوني وأنا أصيح بان هؤلاء حرامية.

لقد ظهر لي بعدئذ أن عبد السادة الكعبي كان قد اعتقل خلال اليومين, بين الاتفاق معه على الشفرة وبين موعد الاتصال به, ووجدوا الشفرة عنده, لذا أرسلوا شخصا تقمص شخصية الكعبي, وهكذا وقعت في الفخ واعتقلوني, وأخذوني إلى دائرة أمن النجف, إلا إنني كنت احمل بطاقة شخصية باسم (فاروق عبد الله الدليمي) المهنة: معلم في البصرة.

سألني المحقق, ما اسمك؟ ومن أي منطقة؟ و ماهي مهنتك, وما هو تنظيمك؟

قلت له:

أنا(فاروق عبد الله الدليمي) معلم في محافظة البصرة, وأنا سني جئت في إجازة من البصرة إلى بغداد, وكان معي في القطار رجل يبدو عليه إنه إنسان طيب, واخذ يحدثني في أمور كثيرة, وحدثني عن فضائل علي بن أبى طالب عليه السلام وحثني أن أزوره واطلب حاجتي, والواقع أنا لم أكن مقتنعا بمثل هذه الأمور, فقلت للرجل, أنا لا اعرف أحدا في النجف, كما إني لم أزر(( النجف)) سابقا,

فقال لي:

لا تقلق أنا سأكتب لك رسالة وأعرفك لأهلي وهم يستضيفونك, واذهب إلى المكان الفلاني ستجد شخصا, فسلم عليه, وقل له:

أنا من طرف فلان. وفعلا جئت في الموعد والمكان المحددين وحدث ما حدث.

الواقع إن رجال الأمن لم تنطل عليهم هذه المسرحية, لأنهم كانوا قد اكتشفوا الشفرة والتفاصيل المتعلقة بها من خلال اعتقال الكعبي, وكانوا مقتنعين بان الشخص المعتقل مرتبط بالتنظيم, إلا إنهم لم يكونوا يعرفون*(لان عبد السادة الكعبي لم يذكر في اعترافاته اسم الشيخ حسين معن). بأن هذا الشخص هو الصيد الأثمن, لان هويته كانت تعرف بغير شخصه, لقد مارسوا معه أبشع أنواع التعذيب من ضرب بالكيبلات وبالعصي الكهربائية, وبالهراوات والفلقة والصنارة بالسقف, وكانوا يأخذون المردان الأحمر- وهي حشرة تتواجد في المناطق الرطبة, والمرافق الصحية – ويضعونها في فمه, حتى أن المحقق اخذ يتقيا, ولكن الشيخ حسين معن كان يقول:

احتسب ذلك عند الله.

كان الشيخ رحمه الله ظاهرة فريدة في انتحال الشخصية, وظاهرة فريدة في صموده البطولي.

~ البرزخ ~


لما يئس الجلادون من انتزاع أي اعتراف منه، وفشلت آلاتهم الإرهابية أمام عظمة الصمود وسمو الروح وعزة النفس وأمانة الطريق، لذلك رموه في غرفة صغيرة مظلمة حالكة وهو فاقد الوعي – وكان ذلك ليلا – وفجأة دخل عليه رجلان يرتديان ملابس سوداء، وأقنعة تغطي الوجه، ولا يبدو منهما إلا عيون تلمع، وكان أحدهما يحمل سيفا والآخر يحمل حربة، فصاح الأول أنا منكر … وصاح الآخر أنا نكير ، وهما يمثلان حالة استجواب الميت في قبره ، وكانا بذلك يوحيان للمعتقل بأنه ميت ويواجه الملكين في عالم البرزخ!.

يقول الشيخ حسين معن:

مارست اللعبة معهما، فجلست في زاوية الغرفة، وأخذت أصيح:

أماه أنا في القبر … لقد حل يوم القيامة … لقد جاءني منكر ونكير … سأتكلم الحقيقة … إن رب العالمين لا تخفى عليه خافية.

فسأله منكر ونكير!! عن اسمه، وشغله، وتنظيمه … نفس أسئلة التحقيق، فأجابهم بمثل ما أجاب به المحققين, فيئس منكر ونكير منه وتركاه ولم يضرباه.

وعندما يئس(أمن النجف) من انتزاع أي اعتراف منه، نقلوه إلى (مديرية أمن بغداد) وقام بالتحقيق معه فاضل الزرقاني، ولا يعني التحقيق بالطبع غير الضرب بالكيبلات الكهربائية، وبالعصي الغليظة، والصعق بالكهرباء، والكي بالكاوية الكهربائية والحرق بالتيزاب، والفلقة، والتعليق بالصنارة.

~ كرسي الاعتراف ~


وهو عبارة عن كرسي بسيط من صنع محلي، يجلس المعتقل عليه ويربطون على عنقه وعلى معصميه وعلى رجليه أطواقا حديدية، وأمامه أضواء ساطعة متعددة الألوان، ومكبرات صوت متعددة وإشارات ضوئية وهاجة، ويجلس المحقق في غرفة أخرى، ويتكلم من خلال سماعة بصوت معدني، يشبه صوت الإنسان الآلي الذي يظهر على شاشات التلفزيون، وعندما لم تنفع مع الشيخ مختلف الأساليب السابقة جاؤوا به إلى هذه الغرفة، وقالوا له:

إن هذا الجهاز احضر من أمريكا ولا يمكن أن تنطلي عليه كذبة، لأنه جهاز إلكتروني، والكومبيوتر يكشف الكذب من الصدق،

يقول الشيخ:

لقد ارتبكت وخفت على المؤمنين لا على نفسي، لأنه قد تكون هنالك أساليب الكترونية متطورة تكشف الحقيقة.

جلست على كرسي الاعتراف ووضعوا الأطواق الحديدية وجاءني الصوت المعدني من السماعة,

ما اسمك؟

فقلت:

فاروق عبد الله الدليمي.

فأجابني الجهاز: (صح)، واشتعلت الأضواء الخضراء الساطعة.

وهكذا اكتشفت منذ اللحظات الأولى بان هذا الجهاز لا يستطيع أن يكشف شيئا، فتبددت مخاوفي وزالت هواجسي، ثم جاءني الصوت،

كم عمرك؟

فقلت:

25سنة.

فأجابني الجهاز (صح) ،

واشتعلت الأضواء الخضراء.

ثم جاءني الصوت،

هل أنت عضو في حزب الدعوة؟

فقلت:

لا.

فأجابني الجهاز: (كذب)، وبدأت الرجة الكهربائية، واشتعلت الأضواء الحمراء الساطعة وأصوات وضجة متداخلة ومخيفة في نفس الوقت.

الواقع إن الشيخ حسين معن كشف هذا النوع من التحقيق وأبطل مفعوله، واثبت بأنه غير فعال وغير مجد في انتزاع الاعترافات من المعتقلين، ولم نسمع بأنه استخدم مع غيره من المؤمنين.

~ السجن ~


وعندما لم تنفع أساليب التعذيب المختلفة، والمسرحيات المراوغة في الحصول على معلومات واعترافات من الشيخ معن، أخذوه إلى محكمة صورية حكمت عليه بالسجن المؤبد، فنقلوه إلى سجن أبو غريب، قسم الأحكام الخاصة، باسم(فاروق عبد الله الدليمي).

وكان الشيخ يحذر ويتحاشى أي حديث أو حوار مع السجناء الذين هم إخوته في الدين والعقيدة، كي لا تعرف حقيقة شخصيته وينكشف أمره، وقد يوشي عليه احد المنافقين، أو يعرف من ملفات تحقيق تفتح من جديد.

وكان الشيخ يمثل دورا على السلطة والآن اخذ يمثل دورا على المؤمنين، وذلك بالتظاهر بأنه رجل سني ولا علاقة له بقضية الحركة الإسلامية، وكان السجناء يعرفون الشيخ، ويسمعون عنه خارج السجن، إلا إنهم لم يكونوا يعرفون صورته لأنه كان يعيش متنكرا منذ سنة 1974م.

~ هفوة وثمن ~


-: أين الشيخ حسين معن؟.

كان السؤال الأهم الذي يوجه للسيد عبد الرحيم الياسري بعد اعتقاله.

ففي إحدى وجبات التعذيب وبعد فشل محاولتيه الانتحار، قال لهم:

انه عندكم!!

وكان الشيخ في سجن أبو غريب، لكنهم لم يهتدوا إلى أن الشيخ حسين معن هو نفسه فاروق عبد الله الدليمي، وفي أحد الأيام احضر المحقق فاضل الزرقاني صورة وسأل الياسري:

هل هذه صورة حسين معن؟!

فقال:

نعم.

وهكذا أدركوا بان فاروق عبد الله الدليمي هو نفسه الشيخ حسين معن فاحضروه من سجن أبو غريب، إلى نفس الزنزانة التي كنت فيها في مديرية أمن بغداد، وإنني لم أكن قد تعرفت عليه من ذي قبل.

حينما رجع الشيخ من سجن أبو غريب رجع باسمه الحقيقي: حسين معن ، لقد كان همه الرئيسي الآن هو أن يطوق الاعترافات ، ولما كان السجناء موزعين في زنزانات متفرقة ومقطوعين عن الاتصال ، لذا كان يستغل فترة الخروج للمرافق ، وفترة الأكل ، للاتصال الخاطف بمن تيسر من السجناء فيحفظ أسماءهم ، وكان يتمتع بحافظة قوية، وفي الليل كان يربط الخطوط ويثبت الأسماء بحيث يكون فلان مسؤول فلان ، ويجعل الأمور تنتهي به ، كي لا يسري لهيب الاعترافات إلى أشخاص خارج السجن ، وبذا يطوق الحريق الذي تشعله الاعترافات العشوائية غير المنسقة ، ويحفظ المؤمنين الذين لم يلق القبض عليهم.

وعند الخروج للمرافق في اليوم التالي كان يوجه المؤمنين بما رتبه في الليلة الفائتة.

~ المطبعة ~


كان الشيخ حسين معن مسؤولا عن مطبعة سرية في النجف لطبع النشرات السرية، وكان قد وضعها في سرداب استأجره لهذا الغرض، وفي أحد الأيام تعطلت المطبعة، فاستعان بشخص لتصليحها هو ((ف. د))، وكان هذا الشخص مسؤول ورشة فنية، ولما تم اعتقال الشيخ بقيت المطبعة عاطلة ، ولم يلاحظ ((ف. د)) بأن المكان مراقب، كما لم يأت أحد لتفتيشه وهو واثق من صمود حسين معن وانه لن يعترف، لذلك فكر في نفسه:

لم تبق المطبعة عاطلة من دون الاستفادة منها؟! سوف اذهب لتصليحها.

هذا ما كان من ((ف. د))، وأما ما كان من الشيخ فانه بعد أن أعادوه من سجن أبو غريب إلى مديرية أمن بغداد ، اعترف بعض السجناء بان ((حسين معن)) هو مسؤول مطبعة النجف ، فقدر الشيخ:

  1. إبان المطبعة عاطلة ولا تفيد الحزب.
  2. وان مكانها سري وغير معروف.
  3. يوحي لرجال الأمن بأنه متعاون معهم، فيضحي بالمطبعة كي يطمئنوا به، ولا يلحوا عليه ويحفظ أمورا غير مكشوفة.

وبعد اعتراف الشيخ على مكان المطبعة أخذوه إلى النجف ليدلهم على مكانها، وصادف وصوله في الوقت الذي كان ((ف. د)) يقوم بتصليحها فالقي القبض عليه.

كان التحقيق مع (ف. د) اقل قسوة من غيره، ولكن بسبب بدانته فقد انخلع كتفه حينما علق بالصنارة، وكان اعترافه حسب توجيه الشيخ حسين كالتالي:

لقد خدعني هذا الشيخ، وأنا مجرد فني جئت لتصليح المطبعة.

وكان (ف. د) مؤمنا حقا وكانت ثقته بالله عالية ، فمثلا: كان المؤمنون يصلون صلاة الليل ، وكان بعضهم يطلب من الله أن يكون حكمه بالسجن مؤبد ، لان الحكم الغالب كان الإعدام ، وكان السجن المؤبد يعتبر فرجا ورحمة بينما كان ( ف. د) يقول لهم:

لماذا تطلبوا من الله ذلك …؟ لماذا لا تطلبون الفرج …؟ أنا حتى لو وضعوا الحبل في عنقي، فإنني اعتقد بقدرة الله على تغيير الوضع في آخر لحظة.

كان الشيخ حسين معن يصلي ويدعو في صلاته لعبد السادة الكعبي، وكان الشيخ يعتبر نفسه تلميذا صغيرا له، وكان عبد السادة مثالا للصمود، ولم يعترف على اخوة الطريق، وكان من القياديين المطلعين على تفاصيل واسعة في الحزب.

~ الدرس ~


وهكذا تعرفت على الشيخ حسين معن بشخصيته الحقيقية في زنزانة (أمن بغداد) ونشأ بيننا نوع من الألفة حتى صرنا متلازمين نقضي أكثر أوقاتنا إما بالعبادة، و إما بمناقشة شؤون الحركة الإسلامية، وان هذه المحنة كيف جرت…؟ وان أزمة الاعتقالات والانهيارات في صفوف الحركة الإسلامية يجب أن تستفيد منها الأجيال القادمة وان لا تفوتها هذه المحنة دون اخذ العبر، وهل كان من الممكن تلافيها …؟ و كيف يجب على الإخوة الموجودين في خارج العراق، والجيل الإسلامي الذي يأتي بعدنا أن يتعلموا الدروس والعبر من هذه القضية، كي لا تتكرر المأساة. وأذكر أنى قلت له في إحدى المرات:

أنا أستغرب، لماذا لم تهئ قيادة حزب الدعوة كوادرها بالشكل المطلوب، لقد كان واضحا بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران أن حزب البعث العراقي سيشن هجمة شرسة من الاعتقالات في صفوف الإسلاميين، فكان من المفروض أن تعرف الكوادر أساليب الاعتقال… أساليب التحقيق … أساليب التعذيب … كيفية الصمود والتمويه… وتطويق الاعترافات، لا أن تسلسل الاعتقالات دون أية احتياطات في صفوف الحزب.

وضربت له مثالا على ذلك:

في فترة تحقيقي احضروا غلاما عمره(14) سنة، وكان هذا الغلام مرتبكا جدا وخائفا ويبكي، وقد نال فصلا مشبعا من التعذيب، لان رجال الأمن داهموا بيتهم لإلقاء القبض على أخيه الضابط في الجيش العراقي، ولكنهم لم يجدوه فالقوا القبض على هذا الصغير ليدلهم على مكان أخيه، وليخبرهم بأسماء أصدقاء أخيه، وقد أراد هذا الصغير أن يلعب دورا بطوليا، وان لا يذكر أسماء أصدقاء أخيه، إذ كان فخورا بأخيه ويحبه لأنه أحد ضباط الحركة الإسلامية، ولكنه لم يكن يعرف ماذا سيفعلون به، أو كيف يناور ويراوغ المحقق، وقد كان مرتبكا جدا، فهدأت روعه، وقلت له:

سيأخذونك إلى زنزانة، ويعصبون عينيك، ويشدون يديك إلى الخلف، ويعلقونك في صنارة مثبتة بالسقف، وسوف تشعر بألم رهيب في مفاصل كتفك، حتى تشعر بأنك لن تستطيع تحمله، ثم يستخدمون معك القضبان الكهربائية على المناطق الحساسة من الجسم، وكذلك على الأعضاء التناسلية، وهذه لا تؤذي أكثر مما هي لسعة نحل، ثم تشعر بأنك سوف تنهار ولا يمكن أن تتحمل هذا الألم، فهنا عليك أن تتحمل هذه المرحلة وان تتجاوزها، وبعد ذلك تشعر بخدر في جسمك، ولا يؤثر فيك التعذيب، سوى ألم الكتف، ثم ينزل عرق بارد من جسمك بحيث تشعر بأنك ترتجف.
في هذه الحالة سوف ينزلونك من الصنارة ويتركونك على الأرض لفترة، وتسمى مرحلة نزول العرق البارد عند الأمن بالعلامة ، ثم يستدعونك مرة ثانية ، وبعدها يتركونك ، ويقولون ما عنده شيء.

لقد هيأت الطفل نفسيا وشرحت له أساليبهم، وفعلا تم استدعاءه وفعلوا به مثلما قلت له، ورجع وهو مشلول اليدين دون أن ينتزعوا منه اعترافا، وقبلني وقال:

جزاك الله خير الجزاء.

وفي لقاء آخر مع الشيخ معن تحدثت معه حول مسالة أخرى وهي ضرورة أن يكون لكل خط تنظيمي واقعي خط وهمي، ففي بعض الحالات يرى المعتقل نفسه مجبرا على الاعتراف، لوجود أدلة ثبوتيّة عليه، ففي هذه الحالة يعترف على الخط الوهمي ويحمي الخط الحقيقي كما فعل ذلك الشهيد قاسم عبود, ثم أضفت:

إذا كانت قيادة الحزب لم تخطط بعد للصدام مع السلطة في هذه المرحلة, كان عليها أن تهيئ أفرادها لتوقي الضربة.

فقال الشيخ:

دكتور حسين, لم يكن لنا من ينبهنا إلى هذه المسائل, إن هذا درس, والحركة الإسلامية يجب أن تدرسه بعمق, وان أزمة الاعتقالات والانهيارات في صفوف الحزب يجب أن تستفيد منها الأجيال القادمة وان لا تفوتها هذه المحنة دون اخذ العبر.

~ الإعداد العائلي ~


كان الشيخ يعد ولده الصغير ((سجاد)) للمستقبل, وكان يعلمه دائما:

إذا سالك رجال الأمن عني، وقالوا لك:

هل هذا هو أبوك؟

فقل لهم:

لا, أصر على ذلك.

وكان رجال الأمن يشكون بشخصية فاروق عبد الله، ويعرفون عائلة حسين معن، لذلك احضروا زوجة الشيخ وطفله سجاد، وقف الطفل الذي لم ير والده منذ شهور وقف أمام والده، ولم يرم بنفسه في حضنه، وقف وكأنه لم يعرفه، وسأله المحقق فاضل الزرقاني:

سجاد! هل هذا أبوك؟

فقال:

لا, أصر على ذلك.

ولكن حينما عاد الشيخ من أبو غريب باسمه الحقيقي وأتضح بأنه حسين معن، احضروا سجاد و أوقفوه أمامه، لكن الطفل لم يرم بنفسه في حضن والده، ووقف وكأنه لم يعرفه، ولما سأله المحقق:

هل هذا أبوك؟

أجابه:

لا, أصر على ذلك.

فتألم الشيخ لمحنة الطفل، وقال له:

تعال يا ولدي، قل لهم، أنا أبوك.

فحينما سمع الطفل من والده ذلك وافق على أن يقول لهم:

انه والدي.

~ الوصية ~


وقبل صدور حكم الإعدام بحقه بليلة أو ليلتين، قال لي الشيخ:

أنا أتوقع أن يحكموني بالإعدام، وأحب أن أوصيك وصيتي وأنت أمين عليها، وصيتي هي:

أن تبلغ المؤمنين والدعاة من بعدي باني سوف اذهب إلى لقاء الله ونفسي لم تشبع من ثلاثة أشياء في هذه الدنيا:

أ- لم اشبع من عبادة الله عز وجل.
ب- لم اشبع من مجاهدة الظالمين التي تعطيني لذة ما بعدها لذة.
ج- لم اشبع من خدمة إخواني المؤمنين, والفقراء.

~ الإعدام بالجملة ~


هنالك أربعة خطوط من الحركة الإسلامية سيقت إلى المحكمة التي كانت تعقد في الأسبوع مرتين أو ثلاث مرات، قبل محاكمتي، وهي:

أ-خط الأطباء

منهم:

  1. الدكتور رياض زيني.
  2. الدكتور طاهر.
  3. الدكتور غازي الحريري. وآخرون.

وكان بعض هؤلاء الأطباء يعمل في مستشفى الكرامة في بغداد، وكانت عندهم قنابل يدوية(رمانات)، وفي تلك الفترة كان صدام حسين يقوم بزيارة المستشفيات في بغداد للاستهلاك الإعلامي، وكان قرار هؤلاء الأطباء هو اغتيال راس السلطة الطاغية عن طريق تفجير القنابل.

لقد حكم على هؤلاء الأطباء بالإعدام.

ب-خط الضباط

منهم:

  1. النقيب سعيد المالكي.
  2. النقيب هشام اللامي.
  3. النقيب غالب.
  4. النقيب عاصم.
  5. النقيب حميد.وآخرون.

وكان هؤلاء الضباط من وحدات مختلفة، كما اعتقل جلاوزة الأمن ضابطين من وحدات صواريخ أرض – أرض الكائنة في معسكر المحاويل* (موقع عسكري في منطقة تابعة لمحافظة بابل)., وكان هذان الضابطان مسؤولين عن هذه الكتيبة، وكانت عندهم خطة لضرب القصر الجمهوري بهذه الصواريخ.

لقد حكم على هؤلاء الضباط أيضا بالإعدام.

ج-نواب الضباط

وكان عددهم يتراوح مابين35-45نائب ضابط ، وكانوا يعملون في قاعدة كركوك الجوية. لقد حكم على جميع هؤلاء بالإعدام باستثناء اثنين حكما بالسجن المؤبد.

د-خط الكوكبة اللامعة

وهم:

  1. الشيخ حسين معن.
  2. السيد عبد الرحيم الياسري.
  3. الأستاذ((ف. د)).

وعندما اقتادوا هؤلاء الثلاثة إلى المحكمة اتفقت مع الشيخ حسين على شفرة معينة تخبرني نوعية الأحكام الصادرة بحقهم, وكانت الشفرة كالتالي:

إذا حكم الشيخ مع السيد الياسري بالإعدام، فان السيد يقول للحارس، سلم لي على الدكتور حسين.

وإذا حكم الثلاثة بالإعدام، فان(ف. د) يقول للحارس، سلم لي على الدكتور حسين. وهكذا تم الاتفاق مع الشيخ على هذه الشفرة.

وحينما ذهبت هذه الكوكبة إلى المحكمة, وعاد الحرس فإنه وقف بباب الزنزانة وناداني فجئت وراء ا لشباك الصغير بباب الزنزانة, فقال الحارس:

دكتور! الشيخ حسين معن يسلم عليك.

فعندها علمت بان الشيخ حكم عليه بالإعدام وان صاحبيه حكما بالسجن, وهكذا ذهب إلى ملكوت السماء صابرا محتسبا تتحدث عن صموده الأجيال.

ثم أنى سألت الحارس:

ماذا قال الشيخ…؟ ماذا فعل…؟

فالتفت الحارس يمينا وشمالا, ثم قال:

يا أخي اقسم بشرفي, هذا بطل لا يأتي العراق بمثله.

وبعد أن حكمت على المحكمة بالسجن المؤبد واقتادوني إلى سجن أبو غريب وجدت هناك السيد الياسري و(ف. د) فتأكدت من سلامة الشفرة التي اتفقت عليها مع الشيخ الشهيد, ثم سألتهما عما جرى في المحكمة, فقالا:

لقد كان الشيخ بشوشا طوال فترة المحاكمة, وقال للحاكم مسلم هادي الجبوري – وهو يبتسم على عادته:

لماذا تضيعون وقتكم مع هؤلاء … أنا مسؤول العراق … أنا مسؤول هؤلاء … أنا المسؤول عن جميع القضايا.

وكان الشيخ متفقا مع صاحبيه أن يقولا للحاكم:

كل شيء مسؤوله الشيخ حسين معن.

وحينما سأل حاكم( ف. د) عن التنظيم وعن المطبعة, أجابه:

إن المعلومات أخذت مني بالقوة، ولو قالوا لي من الذي رمى القنبلة الذرية على ((هيروشيما)) لقلت لهم أنا، لقد وقعت على ورقة وأنا معصوب العينين لا ادري ما كتب فيها.

لقد خدعني هذا الشيخ حينما طلب مني تصليح المطبعة، أنا سني ولا اعرف هذه الأمور.

فقال الحاكم:

(( حقك ابني حقك, أنت ما عنك شيء، إن هذا لم يخدعك فقط، بل خدع الدولة.))

لقد حكم ((ف. د)) سبع سنين، والسبع سنين معناه إفراج, إلا أن طاحونة الإعدام فاغرة فاها لا يكل!! وقد طحنته فيما بعد عن طريق (( الوجبات)).

~ الوجبات ~


حينما تسلم صدام حسين السلطة في 1979م، قام بحملة اعتقالات شرسة ضد المعارضة الإسلامية، فكان قسم منهم تتم تصفيتهم في دوائر التحقيق، والقسم الآخر يؤخذ إلى محاكم صورية فيحكم عليه بالإعدام أو السجن، ولكن حينما صدر قرار إعدام كوادر الحركة الإسلامية وجماهيرها في 21/ شباط /1980م فان رجال الأمن قاموا بعمليات تصفية كوادر وجماهير الحركة الإسلامية بطريقة (( الوجبات)) أو ما يسمى (( بالمصير المجهول)) حيث يؤخذون من سجن أبو غريب ومن دوائر الأمن في بغداد والمحافظات الأخرى إلى أماكن مجهولة، و بعد أن تعصب عيونهم وتربط أيديهم إلى الخلف بجامعات حديدية، مرتبطة بسلك، وقد بلغ عدد الأشخاص الذين اخذوا ( وجبات) حوالي (000/300) شخص، وبقي السؤال عن مصائر هؤلاء من دون جواب جازم، ولكن هنالك شواهد وقرائن ترجح إعدامهم واليك بعض هذه الشواهد:

~ لشاهد الأول ~


حينما فتحت الأقسام المغلقة للسجناء في أواخر سنة 1989م وسمح للسجناء بمواجهة عوائلهم استطعت أن التقي بعدد من السجناء وقد جاءني أحدهم في احد اللقاءات وقال لي:

إن أحد أقربائي جاء لزيارتي وعنده موضوع خاص يريد أن يتحدث حوله مع إحدى الشخصيات الإسلامية المرموقة ، بحيث لا يتسرب الخبر.

فقلت له:

جئني به.

وجاءني ذلك الشخص وقال لي:

أنا ضابط أمن، وكانوا يأمرونني أن أخذ مجاميع كبيرة للإعدام وكان ذلك خلال عامي 1982,1981توجد ثلاث مقابر جماعية أستطيع أن أدلكم عليها، تقع في جهة الاعظمية بعد (جسر الأئمة) في بغداد, وبالتحديد في منطقة(سبع أبكار) ، حيث كانت تحفر حفرة كبيرة ، وكنا نأتي بكل مائة شخص مربوطين سوية ونطلق عليهم الرصاص ونرميهم بالحفرة.

~ شاهد الثاني ~


ذكر احد السجناء وقد كتب الله له النجاة كي يروي لنا المصير المجهول للكثير من المؤمنين – وهو من محافظة كربلاء -, ذكر خبرا حيث قال:

لقد تم اعتقالي في سنة 1982م ضمن الاعتقالات الواسعة التي تجري في المناطق الشيعية، حيث نقلوني إلى ( أمن كربلاء) وبقيت هناك عدة أيام.

وفي إحدى الليالي ربطوا عيني وشدوا يدي إلى الخلف وفعلوا بعدد أخر من السجناء مثلما فعلوا بي ونقلونا إلى(( منطقة الأخيضر))* (منطقة في بادية ((كربلاء)) يقع بها ((قصر الأخيضر)) الأثري واسمه في التاريخ (( قصر بني مقاتل)) )، إلا أن السائق ضل الطريق وبقينا حتى الفجر فرجع السائق إلى (أمن كربلاء)، وقد علمنا – فيما بعد بأن هنالك ساحة إعدام وشفلات للحفر وغيرها.

~ لشاهد الثالث ~


جاءت إحدى العوائل – هي من (( منطقة عفك)) – لتزور سجينا لها في سجن أبو غريب, وسمعتُ منهم قولهم:

نحن فلاحون وعندنا ارض في منطقة (عفك), وقمنا بكربها, فظهرت عباءة امرأة, وحفرنا المنطقة فظهر عدد كبير من جثث النساء مع عباءاتهن وتبين أنها مقبرة جماعية.

الفصل الثاني .. العدالة

~ المحكمة ~


تتلخص عدالة القضاء العراقي في (محكمة الثورة) وهي محكمة عسكرية صورية، لان الأحكام التي تصدرها مطبوخة ومعدة سلفا في دوائر التحقيق والتعذيب، والحاكم الحقيقي هو الجلاد الذي يتعامل مع السجناء بلغة الصنارة، والقضبان الكهربائية، والمكواة والمثقب الكهربائي، والمنشار الآلي و .. و ..

وتعد الأحكام لمحكمة الثورة بالطريقة التالية:

بعد عدة أيام وأسابيع أو شهور يقضيها السجين تحت ماكنة التعذيب التي تهرسه تماما، يصدر المحقق(النزيه!) حكمه بناء على قناعته التي اكتسبها من خلال تعامله مع السجين ، ثم يرفع الحكم ضمن تقرير إلى لجنة خماسية تسمى( لجنة الأمن القومي) تابعة لرئاسة الجمهورية ومقرها في القصر الجمهوري. تتكون اللجنة من خمسة أعضاء كلهم رفاق منتمون إلى حزب السلطة وهم:

مستشار الأمن القومي، من القصر الجمهوري.

رئيس محكمة الثورة.
مدير المخابرات.
مدير الاستخبارات.
مدير الأمن العام.

ويكتب كل عضو من أعضاء هذه اللجنة كلمة ((موافق)) تحت قرار المحقق، ثم يعطى لرئيس المحكمة لإبلاغ المتهم به في قاعة المحكمة.
وأما المحكمة فكانت تتكون من:

رئيس المحكمة: مسلم هادي الجبوري، عضو اللجنة الخماسية.
مستشارين عسكريين بدرجة عقيد، يجلس أحدهما عن يمين الحاكم، والآخر عن شماله.
المحامي، وكان في ذلك الوقت: محمد حسن الحديثي.

وكل هؤلاء ينتمون إلى الحزب الحاكم ..

وتقع محكمة الثورة على الطريق العام الموصل إلى سجن أبو غريب، ويقاد المتهمون من سجونهم معصوبي العيون، ومكبلي الأيدي إلى سرداب يقع بالقرب من قاعة المحكمة، وهناك ينتظرون ريثما يصل لهم الدور، ثم يصعدون السلم المؤدي إلى القاعة التي تجلس هيئة المحكمة في صدرها، وأمامهم قفص الاتهام الذي يوضع فيه المتهمون في مواجهة رئيس المحكمة.

أما محامي الدفاع فهو شخص واحد تعينه السلطة دون أن يلتقي بالمتهم أو يعرف شيئا عن قضيته، وهو غالبا ما يساعد المدعي العام في الهجوم اللاذع ضد المتهم بدل الدفاع عنه.

~ القضاء ~


في كثير من الأحيان تصدر القرارات والمتهمون لم يرافعوا وحتى لم يدخلوا قاعة المحكمة، بل يستلمون أحكامهم وهم في جلوس في قاعة الانتظار، أحيانا يرافع أربعون أو خمسون متهما خلال عشر دقائق أو خلال خمس عشرة دقيقة، ويطالب المدعي العام بأقسى العقوبات، و الكليشة المكتوبة والمكررة: إن هؤلاء عملاء الصهيونية، وعملاء الريح الصفراء، أعداء الحزب والثورة والسيد الرئيس… وهكذا.

وأما المحامي الذي توكله المحكمة فإن موقفه كما أشرنا لا يختلف عن موقف المدعي العام بل أحيانا يكون اشد، ويعترض على تساهل المدعي العام… !! ويخاطب الحاكم ويقول له:

سيدي، إن المدعي العام لم يعط هؤلاء الخونة حقهم، لقد اعتدى هؤلاء على أمن وسلامة البلد، وتعرضوا للسيد القائد …

وهكذا، والمحامي لم يقرا إفادة المتهم، ولم يلتق به مطلقا، وإنما يسمع كليشة المدعي العام ويؤيدها في مسرحية ساخرة.

~ المرافعة ~


في يوم 12شباط 1980م أخذوني مع مجموعة من المتهمين من مديرية أمن بغداد في سيارة مغلقة إلى محكمة الثورة، وكانت عيوننا معصبة والجامعات الحديدية بأيدينا، وكانت المجموعة تتألف بالإضافة إلى حيث كان اسمي الأول في القائمة من:

  1. الدكتور حسن محمد رجاء ، كان مستشارا في وزارة النفط.
  2. المهندس ماجستير محمد صالح فخري، كان مسؤول الآلة الحاسبة في وزارة النقل والمواصلات.
  3. عبد الخالق، كان مهندسا في محافظة البصرة، برأته المحكمة!!

بالإضافة إلى شخص آخر لم اعد أتذكر اسمه، كما كان معنا شخص سادس واسمه المهندس عبد الكريم جواد(مهندس في وزارة النفط) أطلق سراحه من مديرية أمن بغداد، وقبل المثول أمام المحكمة.

واستمرت المحكمة عدة ساعات، وهذا أمر استثنائي في العدالة الصدامية، ذلك لان المحاكمات لا تتجاوز الدقائق، ولعل ما حدث هو بسبب الثقل العلمي والشهرة الدولية التي كانت تحظى بها قضيتنا باعتبار موقعي في منظمة الطاقة الذرية ومساهمتي الواسعة في المؤتمرات الدولية وكتابة البحوث العلمية في المجلات ذات العلاقة.

~ سير المرافعة ~


دفع الجلاوزة بنا إلى قفص المحكمة وقد رفعوا العصابات عن عيوننا، ولكن أيدينا بقيت مقيدة بالجامعات الحديدية.

سألنا الحاكم عن أسمائنا واحدا واحدا، ثم بدا يتهجم علينا ويستخدم كلمات بذيئة وألفاظا سوقية، فحاولت أن أرده، فقال لي:

اسكت، سيتكلم المدعي العام وبعدها أنت تتكلم.

كان للمدعي العام قوالب معدة سلفا يقراها في كل مرة وعلى أي مجموعة تصعد إلى المحكمة، لا علاقة لها بقضية الاعتقال أو التحقيق وإنما يذكر فيها:

إن هؤلاء عملاء الصهيونية … عملاء الاستعمار … ضد الحزب والثورة … ضد السيد الرئيس … يريدون من الريح الصفراء تكتسح الوطن الحبيب … إن هؤلاء منتمون إلى ((حزب الدعوة )) … أطالب بمحاكمتهم وفق المواد… كذا ، وكذا.

لم يطل الادعاء أكثر من دقائق قليلة، ثم بدا رئيس المحكمة بالسباب!! واستخدام الكلمات البذيئة، ومما قاله:

أنتم العجم ما يصير لكم گارة *( أي انتم غير العرب لا ينفع معكم أي حل, وكلمة (گارة ) تعني (الحل) وهي بالمناسبة كلمة فارسية وليست عربية!) … أنتم ، كم تفضل البلد عليكم؟ …
ثم خاطبني من بين المجموعة: أنت عيّنوك بأعلى منصب علمي بالبلد … لقد تفضل عليك السيد الرئيس … ولكن يبقى العرق العجمي دساس عنكم … دائما تخونون وطنكم … انتم عملاء للأجنبي …

وهكذا استمر رئيس المحكمة في إلقاء التهم التي كانت أشبه بالسباب والشتائم التي لا تليق بمن يتبوء مجلس القضاء
لما سمعت ذلك منه تأثرت كثيرا بهذه المهزلة وقلت له بصوت مرتفع ودون مراعاة الآداب المتداولة في المحاكم:

انظر مسلم الجبوري.

وهو لم يكن يتوقع أن أجابهه بهذا الأسلوب فانتبه مستغربا، وأما العقيدان اللذان كانا على جانبيه، واللذان كانا يغطان في نوم عميق ربما بسبب السكر الليلي، انتبها أيضا مستغربين من أن يتحدث المتهم بهذه الصورة.

قلت له:

انظر مسلم الجبوري!

إنك تنسب العمالة والخيانة لهذا الوطن, وأنّا لسنا من ترابه, لذا فإني أحب أن أقول لك:

إن من جملة الأوراق التي أخذها عناصر الأمن من البيت هي شجرة انتساب العائلة, فنحن يعود نسبنا إلى الإمام موسى بن جعفر عليه السلام, ونسب الإمام يرجع إلى النبي(صلى الله عليه واله وسلم), ونسب النبي(ص) يرجع إلى إبراهيم الخليل عليه السلام وان إبراهيم عليه السلام ولد في (اُور) بالعراق سنة 1850 قيل الميلاد, فتاريخ شجرتي وعائلتي يرجع إلى هذا الوطن, أتحداك أنت ومن يدعي الوطنية مثلك, أن يعرف تاريخ عائلته في هذا الوطن, فاترك عنك ترديد عبارات ( عجم وعرب ) فإذا وجد لب للعروبة فهو نحن, فنحن سادة العرب واصل العراق, ثم انك تنسب لي الخيانة لهذا البلد, فأحب أن أقول لك: إن هذه الدولة التي تحكمون بها انتم الآن شارك في تأسيسها والدي وعمي فهم كانوا من قيادات ثورة العشرين وهم الذين حرروا الوطن من الإنجليز, فمثلنا لا يخون هذا الوطن.

وهنا تساءل مسلم الجبوري:

ومن هو أبوك, وعمك؟

فأجبته:

السيد إبراهيم الشهرستاني, والسيد هبة الدين الشهرستاني, فهز رأسه موافقا واعترف بان السيد هبة الدين الشهرستاني كانت له مواقف معروفة ومشرفة في ثورة العشرين.

ثم واصلت كلامي:

إنك تنسب لنا العمالة للصهيونية والاستعمار فبإمكانك أن تراجع الأوراق التي أخذها عناصر الأمن من البيت لكي تعرف باني لما كنت طالبا في جامعة ( تورنتو ) في كندا حدثت نكسة حزيران سنة 1967م وفي حينها كنت رئيسا للجمعية العربية الفلسطينية, فتحدثت في وسائل الإعلام, وفي الصحف والمجلات, كما في الإذاعات ومراكز التلفزيون … تحدثت عن الحق الفلسطيني وعن الحق العربي في فلسطين… وقد أرسلت إلى عشرات رسائل التهديد من المؤسسات الصهيونية تهددني بالقتل, والطرد من كندا, والفصل من الجامعة … وهذه كلها موجودة عنكم ضمن الأوراق والوثائق المصادرة من البيت, فقد كنت أحارب الاستعمار والصهيونية وأنا في عقر دارهم والآن, أنت تتهمني بالعمالة لإسرائيل والتجسس للأجانب, إن هذه التهم لا تلصق بنا.

ولما لم يجد مسلم الجبوري جوابا منطقيا لردودي على الاتهامات, ولأنه لم يكن يتوقع أن يقف متهم في هذه القاعة في وجهه ويجرؤ على مناقشته ورد الاتهامات, كان جوابه:

(( والله لو تبقون ليس 1850سنة قبل الميلاد, لو تبقون 4000سنة تبقون عجم ما يصير لكم گارة))!

ثم قال:

صحيح إن هبة الدين الشهرستاني كان من قيادات ثورة العشرين ولكن لم خنتم وطنكم ووضعتم يدكم بيد الأجنبي؟

فقلت له:

نحن لم نضع يدنا بيد الأجنبي, ولكن لنا وجهة نظر أنتم ترونها غير مناسبة للحكم.

وهكذا استمر الجو المشحون بيني وبينه, ولم يتم التطرق إلى التهم المنسوبة لي.

وأما الآخرون, فانه سأل كل واحد منهم:

أنت مذنب أم بريء؟

فكان الجواب:

أنا بريء.

وبعد ذلك قرأ الأحكام علينا, فكان حكمي بالسجن المؤبد, وحكم على كل من الدكتور حسن محمد رجاء وحمد صالح فخري بالسجن سبع سنوات, والرابع خمس سنوات ونصف, وأما عبد الخالق فقد أفرج عنه.

ومرة أخرى: عصبوا عيوننا, وكانت الجامعات الحديدية لا تزال تكبل أيدينا, ثم نقلونا إلى سجن أبو غريب, وأودعونا في قسم الأحكام الخاصة.

~ هذه العدالة ~


يسمع العراقيون خارج السجون الكثير عن مهازل القضاء, وصور العدالة على طريقة حزب البعث العراقي, وقد يتصور البعض إن فيها شيء من المبالغات الإعلامية, إلا إن من يدخل دهاليز العدالة الصدامية, ويشاهد صور القضاء العراقي من الداخل يعرف تماما أن ما يتناقله أبناء الشعب خارج السجون ليس لا صورة باهتة عما يجري وراء القضبان..

وبمناسبة الحديث عن المحاكمة والقضاء في عراق صدام، اروي للقارئ الكريم قصة واحدة من عشرات القصص الحقيقية التي لمستها بنفسي داخل السجن عن عدالة القضاء العراقي .

حدثني رجل تركماني تجاوز عمره الستين عاما, من أهالي ( طوزخورماتو ) التابعة لمحافظة كركوك عن قضيته وقصة محاكمته فقال:

أنا املك محل نجارة في الساحة الرئيسية في ( طوزخورماتو ) وفي أحد الأيام داهم رجال الأمن محلي واعتقلوني, ونقلوني من محافظة كركوك إلى ( أمن الحلة ) وهناك وجدت مائة شاب معتقل يحققون معهم, وعلمت بوجود شابين باع أحدهما مسدسا للآخر, وتواعدا على الاستلام والتسليم بالقرب من محلي, وأنا لا اعلم بذلك ولا علاقة لي بالموضوع, وكان محلي مجرد علامة فيما بين الشابين, ولما القي القبض عليهما اعتقلوني, وقالوا لي أنت متواطئ معهما و إلا لمَ تواعدا بالقرب من محلك ولم يتواعدا في مكان آخر؟!

ثم اخذوا يعذبونني بالفلقة, وضربوني (300) ضربة وأنا استحي أن أقول ( آخ ), فقال لي أحدهم:

قل آخ حتى يتركوك.

وفعلا قلت آخ وتركوني, ثم لما لم يجدوا عندي ما اعترف به, ولم يثبت تورطي في قضية السلاح نقلوني مع الشباب المائة إلى المحكمة.

قلت للمحقق:

ما الذي عملته حتى تأخذوني للمحكمة.. أنا بريء؟!

قال المحقق:

كل شخص يدخل ( الأمن) يجب أن يذهب للمحكمة, وأنت لا تخف سوف تحكم حكما خفيفا: سبع سنين فقط ليس غيرها,

فتوسلت إليه أن يخفف الحكم, لكنه رفض وقال لي:

أخف حكم هو سبع سنين…, ولا توجد عقوبة أخف من هذا.

ويضيف التركماني المسكين:

كانت عيوننا معصبة, والجامعات الحديدية بأيدينا, ولما دخلنا المحكمة فان قفص الاتهام لم يسعنا, لان عددنا كان كبيرا. فأجلسونا في سرداب الانتظار, ورفعوا العصابات عن عيوننا وادخلوا خمسة أشخاص نيابة عنا جميعا, وبعد خمس دقائق عاد هؤلاء الخمسة وقد حكم عليهم بالإعدام وأما الـ (95 ) شخصا فقد أعطي كل واحد منهم ورقة صغيرة ملفوفة كعقب السيجارة, وقالوا هذه أحكامكم. وحينما استلمت ورقتي أعطيتها للشخص الذي كان جالسا بجنبي طالبا منه أن يقرأها لي لأنني أمي لا اقرأ ولا اكتب

, فقرأها لي, وقال:

أنت محكوم بالسجن المؤبد.

فتوسلت إلى الضابط وقلت له:

هذه الورقة ليست ورقتي, فأنت قلت لي أن حكمي سبع سنين! وهذه الورقة هي حكم السجن المؤبد.

فركلني الضابط برجله, وقال لي:

أخسأ كلها نفس الشيء.

هذه صورة من صور محاكم بغداد نعرضها على قضاة العالم.

الفصل الثالث .. صمود إمرأة

~ لحظات الانتظار ~


عصر يوم الثلاثاء 4 كانون الأول 1979م، كانت زوجتي وأطفالي الثلاثة ينتظرون عودتي في الساعة الرابعة كما هو برنامجي اليومي .. ولكن لما تجاوزت عقارب الساعة موعد الوصول، وأخذت تسير ببطء ثقيل، أخذ الأطفال يسألون أمهم عن سبب هذا التأخر غير المألوف، وكانت أم زهراء تحاول أن تهدئ الأطفال الذين كان إحساسهم يقول أن شيئا ما قد حدث لــ(بابا). في الوقت نفسه كانت أم زهراء التي كانت تحاول إخفاء قلقها عن الأطفال ، كانت تنظر إلى الساعة تارة ، وأخرى إلى جرس المنزل ، وهي مع الصبر والفكر والوحشة والأمل وإذا بجرس الدار يرن ، وكان يدا مرتعشة من ورائه.

هرعت أم زهراء إلى الباب، وفي رأسها أفكار كانت تحاول التخلص منها .. كل شيء متوقع هذه الأيام، فهي تعرف إن عددا من أصدقائي معتقلين، وان أجواء العراق مكهربة وتنذر بمصائر رهيبة للمؤمنين، كان كل أملها أن تواجه زوجها وراء الباب ولكنّها رأت رجلين خائفين مضطربين، قالا لهل -على عجل-:

إن الدكتور استدعته شرطة الأمن للاستفسار عن بعض الأمور وسيرجع بعد يومين أو ثلاثة،

ثم تواريا عن الأنظار كشبحين انذرا وغابا.

وهكذا أسدل الستار على فصل قصير من حياتها الوديعة مع زوجها وأطفالها ليبدأ فصل جديد من الجور والقهر والتنكيل والهجرة القسرية، ولكنه فصل من الثبات والإباء والقيم والصمود.

لملمت أم زهراء حاجياتها المهمة وأخذت الأطفال واستقلت سيارة، وذهبت إلى عائلة من أقربائنا تسكن في نفس منطقة ( المنصور ) التي نسكنها.

ولما علمت هذه العائلة باعتقالي خافوا من مجيء أم زهراء، فقد سببت لهم حرجا ولكنهم خجلوا من إشعارها بذلك، وقد ندمت على مجيئها فهي لا تريد أن تسبب حرجا لهذه العائلة الطيبة، ثم أخذت أم زهراء تتصل بأصدقائي هاتفيا وتقول لهم:

إن الدكتور مريض ونقل إلى المستشفى وسيبقى عدة أيام.

وفهم الأصدقاء مغزى كلامها، فبعضهم غادر القطر، وبعضهم اختفى، وبعضهم تمكن من إخفاء ما يجب إخفاؤه، ثم اتصلت بالدكتور جعفر ضياء جعفر زميلي بالعمل وكانت تحتمل انه يعرف شيئا من اعتقالي، وتواعدت معه في بيتنا في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي.

~ في البيت ~


وفي صبيحة 5كانون الأول 1979م أخذت أم زهراء أطفالها واتجهت نحو المنزل، إلا أنها رأت من بعيد عدة سيارات تطوق المنزل، فاستمرت في طريقها دون توقف، ولكنها، وبعد أن اشترت بعض الملزومات قررت أن تعود إلى البيت وتواجه الموقف بثبات. وهكذا عادت إلى البيت ولما دخلته رأت كل شيء مبعثرا، والحديقة محفورة، والبيت يغص برجال الأمن ومعهم الدكتور جعفر وهو جالس على أريكة، ورأت أن الجوازات وبعض الأوراق المهمة مفقودة، فأخبرت الدكتور جعفر بذلك وكانت تتكلم باللغة الإنجليزية، فترجم كلامها لهم، فقالوا:

نحن لم نأخذ أي شيء … أنت أين وضعتيها؟!

ثم أخذها أحدهم إلى غرفة لوحدها، واستفسر منها عن مكان تواجدها ليلة أمس، ولم يلح في الاستفسار كثيرا، وأتضح أن رجال الأمن كانوا منذ الليلة الماضية متواجدين في داخل الدار، وعبثت أيديهم بكل شيء.

وسأل رجال الأمن أم زهراء ماذا ستفعلين الآن؟. فأخبرتهم بأنها ستذهب إلى بيت أم علاء، أخت زوجها في مدينة كربلاء ريثما يرجع زوجها، فطلبوا منها رقم الهاتف، فأعطته لهم. وكان السائق الذي يقود سيارتي موجودا في البيت أيضا، فطلب رجال الأمن منه أن ينقل العائلة إلى كربلاء.

وركبت أم زهراء مع أطفالها سيارة العائلة وأخذهم السائق إلى كربلاء، ولما وصلوا بيت الأخت أم علاء، وجدوا إن قوات الأمن قد سبقتهم، وان البيت يغص بعناصر الأمن المدججين بالسلاح.

بعد ذلك تم استدعاء أم زهراء إلى مديرية ) أمن كربلاء ) فذهب معها السيد أبو علاء، وفي ( أمن كربلاء ) تأخروا إلى الليل ، ثم نقلوهم إلى ( مديرية أمن بغداد), حيث كنت موجودا هناك.

في منتصف الليل وصلوا إلى مديرية أمن بغداد، وعند غرفة الاستعلامات اخذوا السيد أبو علاء وفصلوه عنهم, ووضعوا أم زهراء مع أطفالها في غرفة صغيرة، وجاءهم رجل أمن ضخم الجثة، تقول عنه أم زهراء:

انه كان مخيفا حقا.

ثم سألها عن الشخصين اللذين اخبراها عن اعتقالي فقالت:

لا اعرفهما, لأنهما لم يذكرا لي اسميهما،

ثم سألها عن الشيء الذي أخذته من البيت حينما خرجت إلى بيت أقرباء زوجها بالمنصور, فقالت:

بعض الكتب.

وهنا فرح المحقق كثيرا كما تقول أم زهراء لأنه اعتقد بأنه حصل على دليل ملموس يدينني ويدينها لأنه تصور إنها كتب الشهيد الصدر أو مثيلاتها, لكنها قالت له:

إنها كتب أطفالي.

فعبس وغضب, ثم بعد ذلك نقلوهم إلى ( مديرية الأمن العامة ), ووضعوهم في غرفة عليها حارس كبير السن, طلبت أم زهراء حليبا للأطفال فجلبوا لها حليبا وقنينة رضاعة جديدة, وخبزا قديما, ثم جلبوا لها فراشا رديئا ونام الأطفال ونامت أمهم وفي منتصف الليل أحست بان رجلا ينحني على الأطفال, ففزعت, إلا إنها رأت ذلك الحارس يغطي أطفالها من البرد.

فقالت:

الحمد لله، يوجد في هذا المكان أيضا من يملك شيئا من الإنسانية … هذا المكان لا يخيف كثيرا… أكيدا إن هذا الحارس كان يفكر بحفيده…

وفي صباح اليوم التالي( يوم الخميس 6كانون الاول1979 م ) جلبوا لهم كسيرات من الخبز فقط، وكان الأطفال يخرجون ويدخلون الغرفة وهم يلعبون ويغنون والحارس العجوز لا يفهم شيئا لأنهم كانوا يتحدثون بالإنجليزية. و في الساعة العاشرة صباحا جاء رجل الأمن الضخم الجثة المخيف ويسمونه )) غالي)), وقال مخاطبا أم زهراء:

أنت تكذبين … أنت تعرفين أشياء … أنت تعلمين بالمسدسات.

فقالت له:

أنا لا اعرف أي شيء.

فقال:

نحن نعلم بك، انك تعرفين، تعالي معنا.

أخذوها إلى) مديرية أمن بغداد) مرة ثانية، وادخلوها على ضابط أمامه منضدتان على شكل حرف، وأمامه عدة تلفونات، واخذ الضابط يحقق معها، وأما الأطفال فأنهم اخذوا يلعبون بالتلفونات، ويصيحون وجعلوها (( هوسة )) على حد تعبير أم زهراء، وكانت لا تمنعهم من ذلك، بل كانت تحرضهم بطريقتها الخاصة على زيادة (( الهوسة )) والضجة.

بعد ذلك نقلوها إلى المنزل وقالوا لها:

يجب أن تبقي في منزلك، ويبقى معك أحد رجال الأمن.

كان ذلك النهار غائما، وكان منظر السماء كئيبا، وكانت أم زهراء تفكر بزوجها ومصيره، وأين هو، وماذا فعلوا به، كما تفكر بالسيد ((أبو علاء )) ذلك الرجل النبيل الذي أبت كرامته أن يتركها لوحدها.

كان رجل الأمن الذي بقى في الدار مهذارا ثرثارا وأراد أن يحقق معها، لكنها لم تلتفت إليه، كما اخذ يفتش كل صغيرة كبيرة في المنزل وكان يرافقها كظلها إلا في غرفة النوم والمرافق، وفي الليل جاء عدد من قوات الأمن ودخلوا الحديقة، واخذوا يفتشون فيها، وفي الصباح تم استبدال رجل الأمن باثنين أحدهما شكله مخيف وتوجد آثار ضربة سكين عميقة في أسفل عينيه، وكان يقول لام زهراء:

أم زهراء ، أنا متورط … أنا غلطان في حياتي… أريد أن اخرج من هذا العمل … عملي غير جيد ، ولكنهم لا يتركونني ،

فقالت له ، وقد عرفت انه يريد أن يستدرجها للإدلاء بمعلومات تفيدهم:

هذه مشكلتك وليست مشكلتي.

واستمر هذا الرجل ثلاثة أيام في الرقابة، وبعدها اخذوا يستبدلونه يوميا، وكانوا يعترضون على الطعام الذي تطبخه أم زهراء، كما يعترضون على الشراشف التي ينامون عليها ويقولون أنها وسخة، فتقول لهم،

لا توجد غيرها …

لأنهم هم الذين وسخوها.

~ الفخ ~


إن وجود قوات الأمن في البيت كان بمثابة فخ لكي يلقوا القبض على أصدقائي ممن قد يأتون لزيارتي بسبب عدم معرفتهم باعتقالي، كما كانوا يراقبون الهاتف لمعرفة من يتصل بي, فمثلا:

  • كان أحد أقربائي وهو شاب اسمه ((ن . ش))، طالب في إحدى كليات بغداد وتسكن عائلته في كربلاء، قد اعتاد أن يأتي في عصر كل خميس إلى بيتنا ليذهب معنا إلى كربلاء، بسبب ازدحام وسائط النقل العامة في ذلك اليوم، وفي يوم6/12 أي يوم الخميس جاء على عادته، وطرق الباب، فألقى رجال الأمن القبض عليه، ولكن بعد عشرين يوما أطلق سراحه من مديرية أمن بغداد وقد عانى منهم شتى أساليب التعذيب الوحشي، وفي نفس اليوم أفرج عن السيد أبى علاء، ونقل الاثنان في نفس السيارة إلى كربلاء.
  • بعد يومين أو ثلاثة من اعتقالي، اتصل تلفونيا من البصرة المهندس عبد الخالق ، ولما كان خط الهاتف مراقبا لذلك القي القبض عليه ، وقد برأته المحكمة فيما بعد.
  • طرق الباب من جهة الكراج أحد أصدقاء العائلة ، وكان انتباه رجال الأمن مشدودا للباب الرئيسية ، فخرجت أم زهراء مسرعة ، وقالت له:

تسأل عن دكتور) فلان)، فان منزله هناك، و أشارت إلى إحدى الجهات.

فقال هذا الصديق مستغربا:

ماذا!!؟

فقالت له:

اخرج… اخرج… اذهب إلى هناك.

فأنتبه إلى إن الوضع غير طبيعي فذهب إلى سبيله, وبذلك أنقذته زوجتي من الاعتقال الحتمي.

~ السفارة ~


حينما جاءت أم زهراء معي إلى العراق لم تتصل بسفارة بلادها أبدا، ولم يوجهوا لها أية دعوة في المناسبات، لكن بعد اعتقالي وبعد ما جرى لها من أحداث فإنهم اتصلوا بها، واختاروا وقت أعياد الميلاد وكانت المتحدثة امرأة، قالت لها:

توجد هدايا لك وللأطفال مثل كل سنة فأنت مدعوة لاستلامها.

تقول أم زهراء:

لقد فرحت وقلت:

الحمد لله، لان هنالك من يتحسس بمأساتي.

~ العلبة ~


كان في المنزل – قبل الاعتقال – بعض الأوراق، وقد أردت إخفاءها فوضعتها في علبة معجون أسنان، وبعد اعتقالي رمت أم زهراء هذه العلبة في برميل القمامة الكائن في موقف السيارة، وفي منتصف إحدى الليالي جاءت مجموعة من رجال الأمن ومعهم الرشاشات واخذوا يفتشون البيت، وهم يهددون، ويتوعدون.

فتشوا كل شيء حتى برميل القمامة، فوجدوا العلبة ووجدوا في داخله الأوراق … واعتبرت هذه الأوراق أحد الأدلة ضدي.

~ المواجهة ~


بعد عشرين يوما من وجودهم في البيت تركه رجال الأمن وقالوا لام زهراء:

اذهبي إلى ( مديرية أمن بغداد ) و اسألي عن زوجك هناك، فقد تحصلين على جواب.

بعد أيام ذهبت أم زهراء وسالت عني فقالوا لها:

خلال يومين في الأسبوع نستلم حاجات المعتقلين المرسلة إليهم من أهاليهم، وإذا لم يكن المعتقل عندنا فإننا سنعيد الحاجات إلى أهله وحددوا لها اليومين.

رجعت أم زهراء وجلبت في اليوم المحدد بعض الحاجات الضرورية، ومنها بلوزة من دون أزرار تلبس من الرأس. فاستلمها رجال الأمن منها.

ولكن بعض الناس رجعوا ولم تُستلم منهم حاجاتهم، وكان أحدهم شيخا كبيرا مضى عليه ستة اشهر يأتي في كل أسبوع مرّتين، ولكن لم تُستلم حاجاته(وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) البروج: الآية 8.

وفي يوم 13/1/1979م أي بعد مرور 39 يوما على اعتقالي، ذهبت أم زهراء مع طفلنا الرضيع ( محمد إبراهيم) إلى مديرية أمن بغداد وأخذت معها بعض الحاجات كالمعتاد، ولكنهم طلبوا منها الانتظار قليلا، فأوجست من ذلك خيفة.

ثم ادخلوها إلى غرفة كبيرة مرتبة بشكل جيد، وشاهدت رجلا يجلس خلف منضدة، وأمامه رجلان جلسا متقابلين، وبالقرب منهما كانت هناك أريكة جلوس أخرى. نظرت إلى هذه الرجلين فرأت أحدهما يرتدي ملابسي، وكان الصمت مخيما على الجميع، نظرت جيدا … ولكنها لم تعرفني لأول وهلة لشدة آثار التعذيب علي.

لقد تكلم ضابط الأمن الجالس خلف المنضدة وقال لام زهراء:

إن زوجك مجرم، خذي هذه الأوراق و أقرئيها، وكانت ذات الأوراق التي وجدوها في علبة معجون الأسنان.

فقالت له:

إن زوجي لم يكن مجرما، وأنا لا اعرف أن أقرأ العربية.

ثم إنهم أخذوني مع زوجتي إلى غرفة تقع في أحد جوانبها منضده وقالوا لنا:

خذوا راحتكم.

لقد أحست أم زهراء بوجود آلة تسجيل، لذلك كانت تتحدث معي بحذر شديد حيث تحدثنا عن العائلة، ولكن أثناء الحديث سألتها عن قريبي السيد محمد علي فأجابتني بأنها أخبرته عن الاعتقال فغادر القطر، وهكذا كنا نتبادل الأخبار والمعلومات بشكل لا يفهمه غيرنا وكنا نتحدث باللغة الإنجليزية، وفي هذا اللقاء حاولت أن احمل الطفل الصغير ( محمد إبراهيم ) إلا إنني لم استطع، لان كتفي كانت مخلوعة وشبه مشلولة.

وبعد أن انتهت المواجهة، خرجت أم زهراء، و أخبرت عوائل المعتقلين في كربلاء بعد جلب بلوزات بدون أزرار، لأنهم لا يستطيعون لبسها لانخلاع الأكتاف.

لقد اعتقدت أم زهراء بان المواجهة، هي المواجهة اليتيمة، حيث كانت تتوقع إعدامي بعدها، ولكن الحقيقة لم تكن كما اعتقدت لان إرادة الله هي النافذة )وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) الطلاق, اية4.

~ أنا فخورة ~


في إحدى المرات راجعت أم زهراء مديرية أمن بغداد لمتابعة قضيتي، وجلست تنتظر في غرفة الاستعلامات وكانت بجانبها امرأة، فسألتها:

هل أنت زوجة الدكتور حسين؟

فأجابتها أم زهراء بالنفي.

ثم سألتها:

ألست كندية؟

فأجابتها بالنفي أيضا.

فقالت تلك المرأة:

لم تخافين؟ أنا لست من قوات الأمن، أنا مثلك أيضا، إذ عندي خمسة اخوة معتقلين، وأنا فخورة بهم, فهل أنا أفضل منهم!!
لقد خرج ثلاثة من إخوتي واخبروني عن زوجك وقالوا: انه صامد ويواجه التعذيب بثبات.

~ مؤلم ~


وفي أحد الأيام رأت أم زهراء أحد قوات الأمن مع عائلته في منطقة المنصور وهو يقود سيارتنا التي صادرتها السلطة ، فتألمت لذلك ، ولكن ما أثار شجونها وهيّج أحزانها إنها رأت ذلك الرجل أوقف سيارته بالقرب من محل يبيع المرطبات ، حيث كنا نوقف سيارتنا في الطريق ونشتري للأطفال ما يريدون.

إن رجل الأمن كان فرحا بما لا يملك مستبشرا مع عائلته وينفق عليها أموالا عجنت بدماء الأحرار وهو آمن من يقظة الضمير, غافل من سطوة الرقيب… ولكن (( إن ربك لبالمرصاد)).

~ الحكم ~


في إحدى اللقاءات تحدث أحد أقربائنا مع أم زهراء حديثا مسهبا عن الإيمان … والصبر … والتحمل، فأوجست في نفسها خيفة من حديثه، لأنها أحست بأنه يريد بذلك أن يهيّؤها لسماع خبر خطير، فقد اعتقدت بأنه يمهد الجو لكي لا يفاجئها بخبر إعدامي.

لقد أحست بذلك، وجالت في ذهنها الذكريات، فتسع سنين مرت كأنها أطياف السحر … هكذا تأفل الذكريات… في بلاد تحكمها أهواء الطاغوت … وهكذا تموت البسمة على الشفاه … في وطن يرزح الأحرار فيه تحت وطأة القمع والإرهاب … إنها صورة تتراءى مزقها غضب الاستدراج.

لقد اضطربت وهي لا تعلم بان استدراجه إنما هو لكي يخبرها بصدور حكم السجن المؤبد بحقي، وبدل أن يرى اضطراب وانهيار أم زهراء، وجدها فرحة مستبشرة، فالسجن يعني أن هنالك أمل للفرج…

الفصل الرابع .. قاف – 1

~ أبو غريب ~


بعد إعلان الأحكام بواسطة رئيس محكمة الثورة، نقلونا في السيارة المغلقة ( أشبه بصندوق متحرك ( إلى سجن أبو غريب الذي كان في تلك الفترة يتكون من أربعة قواطع رئيسيه يقع كل قاطع في بناية مستقلة وهى كالاتى:

  1. قاطع الإعدام، ويؤخذ إليه المحكومون بالإعدام ، وقد بنى هذا القاطع الفرنسيون حيث جهزوه بمقاصل اتوماتيكيه للإعدام ، يمكن بواسطتها إعدام المئات في يوم واحد.
  2. قاطع الأحكام الثقيلة، ويقاد إلى هذا القاطع المحكومون بجرائم جنائية ثقيلة كالقتل، والذين صدر بحقهم الحكم بالسجن لفترة سبع سنوات فصاعدا.
  3. قاطع الأحكام الخفيفة، ويؤخذ إليه المحكومين بتهم خفيفة غير سياسية، والذين تكون أحكامهم بالسجن لفترات اقل من سبع سنوات. ويتبع هذا القاطع القسم التاهيلى. وهو قسم خاص بالأحداث.
  4. قاطع الأحكام الخاصة، وهو خاص بالسجناء السياسيين أو سجناء الضمير حيث إن جرائمهم هي مخالفة النظام في الرأي أو الاعتقاد وينقسم قسم الأحكام الخاصة إلى قسمين:

أ. المفتوحة، ويقاد إلى هذا القسم المتهمون بتهم سياسية – عقائدية من غير الإسلاميين كالبهائيين والآشوريين والشيوعيين والأكراد والتركمان وأيضا من الإسلاميين غير الشيعة كالإخوان المسلمين، ويدار هذا القسم تحت إشراف ( مديرية السجون العامة ) كما أن المسجونين في هذا القسم يتمتعون بحق الزيارات الدورية المنظمة من قبل عوائلهم، كما يتمتعون بأسباب الراحة النسبية كالمشي، والاستحمام، والشراء، والذهاب إلى المرافق الصحية وما شاكل.

ب.المغلقة، وينقسم هذا القسم إلى قسمين:

الأول: قسم الأمن، وكان يُشار إليه عندهم ب (قاف – 1) ويحتجز في هذا القسم جميع فئات المعارضة الاسلاميه الشيعية، ويقع تحت إشراف ( مديرية الأمن العامة ).

الثاني: قسم المخابرات، ويسجن في هذا القسم المتهمون بتهم ترتبط بالأمن الخارجي، وكذلك المعارضون لصدام من داخل حزب البعث، وتشرف على هذا القسم ( مديرية المخابرات العامة).

ويُطلق على هذين القسمين (المغلقة) لأن الزيارات واللقاءات فيها ممنوعة، إلا في حالات استثنائية، بينما (المفتوحة) تسمح فيها الزيارات المنظمة لعوائل السجناء.

بعد انتهاء المحكمة الصورية، وتبليغنا بالأحكام المعدة سلفا والتي كانت صادره في اللجنة الخماسية، نقلونا إلى ( قسم الأحكام الخاصة المغلقة، ق – 1 ) وكان المبنى المخصص لهذا القسم يتألف من طابقين، يحتوى كل طابق على عشر زنزانات ( كل زنزانة قياسها 4 م ×4 م ). وكان الطابق يتألف من ممر تقع على جانبيه الزنزانات، يقع في كل جانب خمس زنزانات مواجهة للخمسة الأخرى، وكانت واجهة الزنزانات عبارة عن شبكه من القضبان الحديدية، وكانت أبواب الزنزانات مغلقه دائما ولا تفتح إلا في حالات الضرورة القصوى كموت احد السجناء أو نقله إلى زنزانة أخرى.

وخلال الفترة التي قضيناها هناك كان عدد الأفراد المحجوزين في كل زنزانة يتراوح بين 50 إلى 60 شخصا، علما بان المرافق الصحية موجودة داخل الزنزانة

~ التعذيب ~


لم يكن السجن كما هو متوقع نهاية لفترة التحقيق والتعذيب، وإنما كان امتدادا لما جرى في زنزانات التحقيق، وكان المفوض المسؤول عن هذا القسم يسمى ( فلاح حسن العبيدى ) ويعرف بـ(فلاح عاقوله) وعمره 25 سنه، وهو من مدينة الكاظمية، شيعي المذهب كسائر سكان هذه المنطقة وكان جاهلا نصف أمي …

يتفنن بتعذيب السجناء وإيذائهم والاستهزاء بهم، وكان ذلك بالنسبة له متعه وهواية وكان يستيقظ صباح كل يوم ويرمى المفاتيح على الزنزانات، فأينما تقع يعذل سجناء الزنزانة القريبة منه عذابا نكرا، وكان – بطبيعة عمله – يخاف من المجتمع، لذلك كان يبيت في نفس قسم السجناء !! فقد خصصت له غرفه وضع بها سريرا وتلفزيوناً وثلاجة ، وكان لا يغادر القسم إلا بعض الأحيان وذلك إلى أقسام أخرى كقاطع الإعدام حين تنفيذ الحكم .
وكان المفوض فلاح يحترمني نسبيا، ولا يسيء لي في التعامل، ويبدو انه كان قد سمع بأسمى قبل ذلك، وكان يعرف موقعي الوظيفي في منظمة الطاقة الذرية، كما كان يتوقع أنى اعرف الكثير عن كل شئ باعتبار اننى دكتور، لذلك كان يحاول التقرب الي والتحدث معي حتى صارت بيننا حاله من الألفة وأصبح يثق بي ويستمع النصائح، كما كان يستشيرني في الأمور التي تخص مشاكل السجن، وكانت أحاديثه معي بهمس لكي لا يسمعه بقية السجناء.

ومن جانبي حاولت استغلال هذه الحالة لاحتواء فلاح عاقوله حتى الإمكان، و التقليل من إيذائه للسجناء ودفع شره. كما أن التعامل مع هذا النوع من الأفراد حيث تجتمع فيه الأميه، والقساوة، والغرور في آن واحد ، لا يخلوا من الظرافه والترويح أحيانا ، لذلك انقل عددا من القصص الظريفة التي كان محورها فلاح عاقوله ، وكانت سببا للترويح عن السجناء بعض الشئ.

~ الحلم ~


  1. كان فلاح عاقوله من عائله شيعية، وبالرغم من انه لم يكن متدينا، إلا انه يكن نوعا من الاحترام لائمة أهل البيت عليهم السلام ولأولياء الله الصالحين، وكان كالكثير من العراقيين يخاف من العباس بن علي عليهما السلام كما كان من جهة أخرى يعتقد بالأحلام ويبحث عن تفسيرها ويتأثر بها، وكان يقصدني دائما لتفسير أحلامه ولم يكن يقبل منى أي عذر، وكان يقول أنت دكتور وتفهم في كل شيء.

وكنت من جهتي أحاول تفسير الأحلام له بطريقة تخيفه عن نتائج عمله لكي يقلل شيئا من أذاه للسجناء.
وفى إحدى المرات اتفقت مع المهندس سلطان كاظم السرحان -وكان يتمتع بكفائه جيده في اختلاق القصص الخيالية – على أن يبتدع حلما يكون تفسيره موت فلاح عاقوله.

ثم قلت للسجناء الذين كانوا معي:

سأجعل فلاح يوزع راتبه الشهري على السجناء الفقراء في الأقسام المفتوحة !!

وفى الصباح الباكر وبينما كان فلاح نائما، اخذ المهندس سلطان يصيح:

أبو حسن … أبو حسن .

فاستيقظ فلاح واخذ يسب ويشتم ويتهجم على الأعراض، ثم جاء إلى سلطان، وقال له:

ما بك؟ لماذا تصرخ ؟

قال سلطان:

لقد رأيت حلما اخافنى .

-: وما هو حلمك؟

-: رأيت في عالم الرؤيا: أنا وأنت كنا نركض في العراء وكنا نعض على ثيابنا ، وكانت الصحراء مملوءة بالسواقي الصغيرة، وكنا نعبر ساقيه بعد أخرى حتى وصلنا إلى الساقية الخامسة والعشرين فانا عبرتها وأنت لم تستطع العبور، وغطست في الطين وغرقت بالماء ، ومهما وحاولت فلم استطع إخراجك من النهر. ثم هبت عاصفة قويه، واغبرت الدنيا، وانكسفت الشمس، فاستيقظت فجأة من النوم وأنا خائف جدا.

قال فلاح:

لا بأس، اذهب إلى نومك وسوف أرى الموضوع.

واخذ فلاح يسير في القاطع ويقطعه مره بعد أخرى، وكان القلق باديا على وجهه، ولم يستطع أن يصبر لأنه كان عجولا في معرفة تفسير الأحلام، فجاء إلى زنزانتي فتظاهرت بالنوم، فصاح بي:

دكتور !.. دكتور !..

فاستيقظت من النوم متظاهرا بالانزعاج من إيقاظي في وقت غير مناسب.

فقال فلاح:

من رخصتك دكتور، يوجد حلم أريد أن اعرف تفسيره

فقلت له:

قص لي حلمك.

فذكر فلاح الحلم الذي رآه المهندس سلطان، فقلت له:

فلاح! ما هذا، جئني بحلم جيد حتى أفسره لك، ما هذا الحلم السيئ ؟ دع عنك تفسيره.

إلا أن فلاح أصر على تفسير الحلم، فقلت له:

إن الحلم تفسيره واضح، كم عمرك؟

-: 25 سنه.

-: الأمر واضح ،انك ستموت – حسب هذا الحلم – لان أجلك جاء في سن الخامسة والعشرون.

فخاف فلاح، وتغير لونه وارتبك، وقال:

ماذا اعمل الآن؟

-: عندما يأتي عزرائيل ، فليس هناك حل بيد البشر.

-: دكتور، لا بد من حل. أنا لا أريد أن أموت.

-: أنا لا اعرف أي طريق للخلاص.

فاخذ فلاح يمشى بالقاطع مرة ومرتين ذاهبا وراجعا ثم جاءني قائلا:

ألا يوجد في هذه الكتب الدينية التي تقرؤها أي حل لمشكلتي ؟

فقلت له:

إذا جاء ملك الموت فلا يوجد حل، ولكن جاء في كتب الأدعية أن الصدقة تدفع البلاء وهذا بلاء سوف ينزل عليك من الله عز وجل فأن كنت تريد دفع البلاء عنك وعن نفسك اذهب وتصدق.

فقال فلاح:

أنا أيضا سمعت بان الصدقة تدفع البلاء ولكن ماذا افعل الآن؟

فقلت له :

الأمر سهل فهؤلاء السجناء لا توجد عندهم إمكانيات وهم ضعفاء وفقراء اذهب وتصدق عليهم براتبك.

فقلت له :

الأمر سهل فهؤلاء السجناء لا توجد عندهم إمكانيات وهم ضعفاء وفقراء اذهب وتصدق عليهم براتبك.

وفعلا، ذهب فلاح وتصدق براتبه الشهري، على عدد من السجناء، وبعد ساعتين جاء مسرورا وقال لي:

دكتور ولا دينار بقى عندي.

عندها ضحكت وضحك معي بقية السجناء ولكن بهمس.

~ الماء ~

  1. في إحدى المرات قطع فلاح الماء عن السجناء عقوبة لهم ، لان أصواتهم كانت مرتفعه بسبب الأعداد الكبيرة التي كانت معلبه في الزنزانات، فقال السجناء لي :

أبو زهراء لقد قطع فلاح الماء عنا فماذا نفعل ؟

أجبتهم:

اصبروا وسنرى.

وكان معنا شاب في الزنزانة معنا وهو طالب في الثانوية من مدينة الكاظمية اسمه صباح وكان فلاح يعرفه لأنه ابن مدينته وكان هذا الشاب بسبب أساليب التعذيب الوحشية التي مورست معه يصاب بين فتره وأخرى بحالة إغماء وهذيان بحيث إذا ذكرت شيئا في أذنه يبقى يردده وعندما صارت عنده هذه الحالة كررت في أذنه عبارة:

العباس قادم على فرسه ويداه مقطوعتان ويحمل على عاتقه الماء.

وكان فلاح في غرفته فناداه السجناء لكي يسمع ما يكرره صباح جاء فلاح وسمع صباح يردد هذه العبارة فقال:

دكتور ما هذه الحالة ؟!

قلت له:

المسألة واضحة هذا يرى أشياء نحن لا نراها، يرى العباس عليه السلام وهو راكب فرسه ويداه مقطوعتان وقد احضر الماء إلى هؤلاء السجناء الذين قطعت الماء عنهم بينما استولى عليهم العطش فخاف فلاح من العباس عليه السلام لأنه اعتقد انه جاء لينتقم منه فذهب وفتح أنبوب الماء.

~ الوقت ~

  1. كان فلاح -كما أشرت – يؤذي كثيراً، لذلك فكرت بطريقة بحيث أبعده عن القسم ولو لفترة، لذلك أرسلت عن طريق الخدمات *(الخدمات: مصطلح يطلق على السجناء الذين يوزعون الطعام وينتقلون في القسم بين الزنزانات) خبراً إلى أحد السجناء، اسمه السيد عبد الجبار ، من محافظة ميسان، تعرفت عليه في مديرية أمن بغداد، وكان يجيد لعب الأدوار المختلفة، فاتفقت معه على الصيغة التالية:

يبدأ السجناء في وقت معين في الزنزانات بالتكلم بكلام غير مفهوم وغير مرتب على أساس أن الجن دخل القسم ، ثم أقوم بإرسال فلاح إلى السيد عبد الجبار – باعتباره خبيراً في شؤون الجن – ليعمل له حرزاً وعملاً يخرج الجن، على أن يسبب ذلك الحرز مرض فلاح.

وفعلاً – في الوقت المحدد – بدأ السجناء يتكلمون كلاماً غير مفهوم وغير مرتب، فجاء فلاح وقال:

دكتور ماذا جرى؟ أسمع السجناء يتكلمون بكلام المجانين.

فقلت له:

أنا أيضاً لاحظت هذه الحالة، وأعتقد أن القسم مسكون بالجن، وهذا خطر.

فقال فلاح:

منذ مده وأن ألاحظ أن الحالة غير طبيعية ، ولكن ماذا نفعل مع الجن؟

أجبته:

أنا أعرف كل علم إلا علم الجن، فعليك أن تبحث عن حل للموضوع.

فقال:

لا يجوز أن نعيش مع الجن، يجب أن نبحث عن حل.

قلت له:

سأقول لك شيئاً على أن تقسم لي، بأنك لا تخبر أحداً، ولا تؤذي الشخص المطلوب.

فأقسم فلاح على ذلك، فقلت له:

في تلك الزنزانة يوجد شخص اسمه السيد عبد الجبار، وهو يعرف علم الجن، ولكن حينما تذهب إليه فإنه سوف ينكر ذلك.

أخذ فلاح يسير في القسم ذاهباً وراجعاً، ثم بعد فترة ذهب إلى الزنزانة المقصودة وصاح:

جبّار … جبّار، أخرج، وأخرجه من الزنزانة إلى غرفته، وقال له:

بشرفي – وهو يضع يده على شاربه – لن أضربك ولن أؤذيك، توجد في القسم مجموعة من الجن، وأنت عندك علم الجن، ويجب أن تخرجها، فأنكر السيد عبد الجبار معرفته بعلم الجن، ولكن فلاح قال له:

لقد أخبرني بذلك مصدر ثقة !! وإذا لم تخرج الجن سوف أدمرك.

فقال له السيد عبد الجبار – حسب إتفاقنا:

اقسم لي بأنك لن تؤذيني.

فمسك فلاح شواربه، وقال له:

بشرفي، وبشرف شواربي لن أؤذيك، ولن اخبر أحداً عنك.

فقال له عبد الجبار:

حينما تصير الساعة 12 ليلاً اذهب إلى الحمام واخلع ملابسك و أطفىء الأنوار، واجلس تحت حنفية الماء بحيث ينزل الماء على رأسك قطرة قطرة، ولا تتحرك من مكانك إطلاقاً كي لا يبطل العمل، وكلما تنزل قطرة قل: ” لا إله إلا الله ” إلى أن تنزل عشرة آلاف قطرة، وبعد ذلك تأتيني وأعلمك أدعية وأورادا معينة وإن شاء الله يخرج الجن.

ذهب فلاح – الذي لم يكن يعرف تأثير هذه العملية التي تعد أقسى أساليب التعذيب – وأخذ يعمل بما علمه خبير الجن، فأصيب فلاح بزكام حاد وأخذ يرتجف من البرد لأن الشهر كان شباطاً، ونزل وهو يسب ويشتم الآباء والأمهات والأخوات لأنه هؤلاء السجناء هم الذين جلبوا الجن إلى السجن. وبقي عدة أيام مريضاً ملازما للفراش، وارتاح منه السجناء وضحكوا ولم يتركوا طرائفهم وهم على كف عفريت.

~ خطاب الرئيس ~

  1. كان المفوض فلاح ظالماً جداً ورغم أميته فقد كان يتفنن في إيذاء السجناء، وكان من عادته أن يستمع إلى خطابات سيده صدام بشغف، ويحاول أستنباط تبريرات يتمسك بها لتعذيب السجناء إذ كانت خطابات صدام بالنسبة إليه قانونا وشريعة، وفي إحدى المرات ألقى صدام خطاباً هستيرياً – وكان ذلك في شهر نيسان بعد حادثة التفجير في الجامعة المستنصرية في بغداد – وتهجم على خصومه السياسيين ووصفهم بأنهم خونة وعملاء ولا يستحقون أن يشربوا ماء دجلة والفرات، وكانت هذه الجملة أقوى دليل يتمسك به فلاح لقطع الماء عن السجناء وكان يقول:

إن السيد الرئيس قال: الخونة يجب أن لا يشربوا ماء دجلة والفرات، وبما أنكم خونة فيجب أن نقطع عنكم الماء.

فقلت له:

الماء على شكلين: إما مصفى وهو الذي تنفق عليه الدولة مبالغ وجهدا وهذا هو الماء الذي يقصده بالخطاب، وأما ماء النهر غير المصفى* ( كان ماء السجن تضخه مضخة من نهر أبو غريب، وهو احد فروع نهر الفرات مباشرة ودون تصفية ) فهو غير مقصود بالخطاب، لأنه لا تجري عليه عمليات تصفية ولا تخسر عليه الدولة مالا ولا جهداً، ويشرب من هذا الماء الطيور والحيوانات فاقتنع فلاح بالاستدلال وقال:

صحيح دكتور صحيح، ثم ذهب وفتح الماء .

~ الوقت ~

كان السجناء يقضون اغلب أوقاتهم في حفظ القرآن فمن حفظ شيئا يحفظه للآخرين لان الأقلام والأوراق ممنوعة في السجن وكان بعض طلبة العلوم الدينية يعقدون حلقات تدريسية منهم الشيخ عبدالعظيم الاسدى*(وهو أحد طلبة ” الشهيد الصدر “، وكان إماماً لحسينية الحاج ” علاء الدين” في ” منطقة جميلة” في ” محافظة بغداد ” )، الذي كان يدرس ماديتين المنطق والفقه.

وكانت جميع هذه النشاطات تجرى من دون معرفة فلاح.

وكان السجناء يقيمون صلاة الجماعة عندما لم يكن فلاح موجودا، وكان احد السجناء يقف عند باب الزنزانة ليراقب الوضع.

كما كان السجناء يحرصون كل الحرص على أداء صلاة الليل التي كانت تزعج فلاح لأنه كان يسميها ” صلاة الخميني ” لأنه كان يتصور إنها صلاة الإيرانيين وكان يقول:

كل صلاة صلوها إلا هذه

كما كان يمنع السجناء من غسل الجنابة فإذا رأى شخص يصلى صلاة الليل أو يغتسل غسل الجنابة، كان يعذبه أقسى أنواع العذاب.

~ الطعام ~

كان الطعام في أبو غريب قليلا ورديئا ففي بعض الأحيان تكون حصة السجين اقل من الرغيف الواحد في اليوم وعادة يوزعون في الصباح شوربة عدس وتكون مملوءة بالحصى والأوساخ ويوزعون في الظهر مرقة فاصوليا والواقع إنها عبارة عن ماء وقليل من حبات الفاصولياء والتي لا تزيد عن خمس حبات وكانوا أحيانا يعملون مقلبا للسجناء وذلك أن يضعوا مواد مسهله في الشوربة أو في المرق ويقطعون الماء وأحيانا كانت المرافق مملوءة بالفضلات فيتغوط السجناء في ملابسهم وعلى البطانيات وعلى أرضية الزنزانة وكان القسم يضم في تلك الفترة ألف سجين تقريبا فتنتشر رائحة نتنه لا تطاق فكيف يصلى السجناء ويقرأون القرآن وكيف ينامون وكان هذا آخر ابتكارات السلطة في تعذيب أبناء الشعب عذابا روحيا.

~ صورة ~

في إحدى المرات استدعاني فلاح إلى غرفته وقال:

دكتور أريد أن اريك شيء.. ثم اخرج كتاب مفاتيح الجنان وقال:

دكتور هل تعرف هذا الكتاب لمن ؟

فقلت: لا.

فقال فلاح:

هذا الكتاب للسيد محمد باقر الحكيم، كان يقرأ فيه عندما كان سجينا عندنا، وبعد صدور قرار العفو عنه ترك هذا الكتاب كهدية لنا.

ثم قال:

دكتور انظر لهذه الصورة إنها صورة نادرة تجمع ما بين السيد محسن الحكيم وهو شاب مع السيد أبو حسن الموسوي وقد تركها السيد محمد باقر الصدر في هذا الكتاب.

~ القمل ~

كان أكثر السجناء نصف عراة تقريبا لعدم وجود ملابس لهم فلا إدارة السجن كانت تعطينا ملابس ولا كانت تسمح بالزيارات حتى تحضر العوائل ملابس للسجناء وكانت البطانيات مملوءة بالقمل لعدم تعرضها للشمس وعدم توفر المعقمات ووسائل الغسل والتنظيف فكان السجناء يضطرون بين فتره وأخرى بالقيام بحمله لمكافحة القمل.

وتألم …

كانت أحكام الإعدام في يومين من كل أسبوع وكان المفوض فلاح يذهب كل صباح ليتلذذ ويشبع ساديته وحينما كان يعود لم يكن يظهر عليه أي اثر للحزن أو التأثر بل غالبا ما تكون علائم الارتياح والسرور بادية عليه وفى إحدى الأيام رجع متألما فحاولت استدراجه فقلت له:

فلاح أراك اليوم متألما فخير إن شاء الله.

فأجابني:

اليوم نفذوا الحكم بالشيخ حسين معن… هذا الرجل عجيب… ومع الأسف أن تكون نهايته هكذا !.

~ حزب المؤتمر ~

كان في زنزانتنا سجين اسمه صباح ولم يكن له أي نشاط ديني وكان يبدو إن شبكة الاعتقال لفته دون سبب واضح وسألته عن قضيته فأجاب:

لقد تم اعتقالي دون أن اعرف أي سبب وقد عذبوني كثيرا وقالوا لي:

لأي الأحزاب تنتمي ؟

ولما لم أكن اعرف أي من الأحزاب العراقية وكنت اسمع عن حزب المؤتمر الهندي في الإذاعة فقلت لهم :

انتمى إلى حزب المؤتمر الهندي .

فقالوا لي:

وماذا تعمل لهذا الحزب؟

فقلت لهم نريد أن نعمل فرعا في مدينة الكاظمية !!

وثبتت هذه التهمه في إفادتي وحكمت بموجبها..

ربما لو سمعت هذه القصة خارج السجن كنت أتردد في تصديقها ولكن داخل سجون صدام ترى وتسمع الأعاجيب مما لا ينطبق مع أي معادله عرفها الظلم البشرى سوى معادلة القضاء العراقي والاستخفاف بمصائر وأرواح البشر.

~ الاستجابة ~

كان السجناء مقطوعين عن العالم الخارجي وكانت نافذتهم الوحيدة هو المفوض فلاح حينما يذهب إلى قاطع الإعدام ويرجع إلى القسم فكنت استدرجه لنعرف بعض الأخبار والتطورات وفى إحدى الأيام انتاباني قلق على العائلة فزوجتي أم زهراء اجنبيه الجنسية ولا يوجد لها أقرباء في العراق وكانت هذه المسألة تؤرقني كثيرا فكيف أستطيع أن أوصل لها خبرا عن الحكم الذي صدر بحقي وان عليها أن لا تنتظرني في العراق بل تذهب إلى أهلها وأسرتها حتى يقضى الله أمرا إذ لم يكون معلوما متى تنتهي هذه الظروف فلجأت إلى الله في منتصف الليل وصليت صلاة الليل وحاولت الانقطاع خلالها إلى الله وتوجهت إليه بكل جوانحي وسألت الباري عز وجل أن يهيئ لي وسيله فانتابتني حالة روحية شعرت خلالها بان دعائي سوف يستجاب.

وبعد الصلاة قلت لأخواني:

سوف يحصل فرج بالنسبة للعائلة.

وظن السجناء بان السلطات سوف تسمح بالزيارات العائلية واعتقدوا بان المفوض فلاح اخبرني بذلك وطلب منى عدم إبلاغ السجناء.

وفى اليوم التالي جاء فلاح وقال:

دكتور هذه الحاجات لك أحضرتها زوجتك بعد أن وقفت في باب السجن طويلا.

وتشاكست مع الضابط وقالت:

لن اذهب حتى تأخذون حاجاتي ووافق الضابط بذلك بعد طول الممانعة.

وكان من ضمن الحاجات دواء خاص كنت أتناوله قبل الاعتقال كانت زوجتي قد وضعته مع الحاجات كي تكون علامة على إن الحاجات مرسله من العائلة فعلا كما كانت تريد بذلك لكي تعلمني إنها تعلم بوجودي في سجن أبو غريب وبذلك حصل نوع من الاطمئنان على العائلة والحمد لله رب العالمين.

~ الخبر الصاعقة ~

في شهر نيسان وفى صبيحة احد الأيام جاء المفوض فلاح واخبرنا بخبر هز كياننا …

لقد اعدموا الصدر ..

كان الخبر بمثابة صاعقه نزلت علينا جميعا ولكننا تماسكنا أمام الجلاد فلاح فقد كنا نتمنى لو ينفذوا الإعدام فينا جميعا ولا يعدموا الصدر واستولت علينا حاله من الانهيار والوجوم.. هل فعلا تمت هذه الجريمة ؟هل فعلها فعلا الطاغية؟ …

وحينما جاء السجين الذي يحضر الطعام واسمه محسن سألته – بعيداً عن عيون فلاح – عن حقيقة الأمر وما هي أخباره عن السيد الصدر؟

فقال هذا هراء هل تصدق بأنهم يعدمون الصدر ؟ لو فعلوا ذلك لانطبقت السماء على الأرض، هل تعرف من هو الصدر؟

كان المسكين هو الآخر لا يطيق هذا الخبر، لذلك لم يكن يصدقه، ولكن هذه الإجابة لم تنفعني فأردت الحقيقة فقلت له:

قل بالحرف الواحد، ماذا أعلنت السلطات في التلفزيون؟

قال محسن:

أعلنوا إعدامه.

~ محسن ~

بالمناسبة فمن هو محسن هذا ؟ – وما هي قضيته ؟..

هو جندي من محافظه ميسان وكانت وحدته العسكرية في شمال العراق هرب إلى إيران أيام العهد الملكي إبان أحداث كردستان العراق ثم رجع إلى العراق فألقي القبض عليه وحكم بالإعدام بتهمة التجسس ثم خفف إلى المؤبد وسجن في قاطع الأحكام الخاصة المفتوحة وكان يدخل إلى قاطعنا المغلق مع المفوض فلاح لإحضار الطعام وكان يثق بي وكان كلما سنحت له فرصه ينقل لي بعض الأخبار من خارج القاطع وقد ارتبط فيما بعد بأشخاص يساعدون الأقسام الخاصة المغلقة ببعض المساعدات المالية وذلك في سنة 1981.

علم بذلك رجال الأمن فجعلوها قضية تنظيم داخل السجن وقد اعدم بسبب هذه القضية بعض السجناء ومنهم:

  1. أكرم وهو من الكراده الشرقية في بغداد وكان يحضر للدكتوراه وكان له أخ اسمه فائز حكم عليه بالسجن عشرين سنه في الأقسام المغلقة.
  2. محسن وهو تركماني من محلة تسعين في كركوك.
  3. طالب وهو من محافظة بابل وكان عسكريا برتبة نائب ضابط.
  4. عباس من الديوانية وكان يعمل مضمدا صحيا في السجن.
  5. كريم من الكوت في واسط وقد سفرت عائلته إلى إيران.
  6. كريم عباس من مدينة الثورة في بغداد.
  7. محسن علي.
  8. واستشهدت إحدى النساء تحت التعذيب وهى غير سجينه.

كما تم إضافة 20سنه أخرى إلى كل من:

  1. جليل صيهود.
  2. محسن.

وكذلك إضافة سبع سنوات إلى:

  1. حكيم أكرم
  2. الملازم أول عبد الأمير
  3. والرائد أبو مريم .

لقد ادخل هؤلاء المحكومون إلى الأقسام المغلقة بعد أن استمر التحقيق معهم من شهر كانون الثاني 1982 إلى شهر تموز من نفس السنة في امن بابل.

أما محسن فقد أفرج عنه في العفو الذي صدر في 28 نيسان عام 1986 وذهب إلى مسقط رأسه في ميسان وهناك انظم إلى إحدى فصائل الحركات الاسلاميه وألقي القبض عليه مجددا وتم إعدامه فرحمه الله.

~ تحسن ~

كانت يداي مشلولتين من اثر التعذيب وخاصة التعليق بالصنارة منذ الأيام الأولى للاعتقال في كانون الأول عام 1979 وكان السجناء يعينوني في غسل الملابس أو وضع اللقمة في فمي إلى أن بدأت الحركة تدب في يدي تدريجيا بلطف الله عز وجل وذلك في نهاية شهر آذار سنة 1980 وكان خنصر اليد اليسرى أول إصبع تتحرك من يدي.

~ أسماء ~

أثناء اعتقالي في هذا القسم وخلال هذه الفترة التقيت الكثير من السجناء، وصحبت بعضاً منهم وقد أشرت في غضون الخواطر السابقة إلى بعض منهم، وهنا اذكر أسماء عدد آخر ممن تحضرني اسماؤهم:

  1. الدكتور ناجي العامود: اُستاذ الرياضيّات في جامعة البصرة.
    2 . الدكتور صلاح: اُستاذ الإقتصاد في جامعة البصرة.
  2. المهندس حسين مرجان: مهندس ري بابل.
  3. المهندس الشيخ حسين باقر: مهندس في مصفى الدورة في بغداد، وكانت له علاقة صداقة قديمة معي حيث كان يحضر بعض الحلقات الدينية في منزلي. وهو ممن استجابوا لنداء الشهيد الصدر في انخراط الشباب المثقف في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، وكان حين الاعتقال حديث العهد بالزواج، فقد تزوج ابنة اُستاذه السيد محمد باقر الحكيم ورُزق منها طفلاً واحداً.
  4. ” ف . د ” تقدم التعريف به.
  5. السيد عبد الرحيم الياسري: تقدم التعريف به.
  6. السيد عبد الرحيم العلوي: وهو أحد مجموعة القيادة*( كانت تضم هذه المجموعة كلاً من: 1. عدنان سلمان. 2. صباح عباس. 3. قيس عبد الله. 4. صادق العيداني.
  7. حسين السيلاوي. 6. مجيد حميد. 7. عبد الرحيم العلوي.8.. جواد الزبيدي.
    وآخرين لم أعد أتذكر اسميهما، وقد حكم ثمانية من هؤلاء العشرة بالإعدام واثنان بالسجن المؤبد، وهؤلاء العشرة في ملف واحد وفي قضية واحدة .) وقد تحدث الأخيران عن بطولة الحاج عدنان سلمان ومجموعته، فقالا:

حينما اقتادونا في سيارة مديرية أمن بغداد إلى المحكمة، فإن هذه المجموعة كانت تنشد أناشيد دينية وهي غير خائفة أو مضطربة، بل كانت مستبشرة، وحين المرافعة وصدور حكم الإعدام فإنهم لم يعبسوا ولم يضطربوا، بل كانت البشرى تطفح على وجوههم لقرب لقاء الله، فهنيئاً لهم الشهادة.

  1. النائب ضابط مناتي.
  2. النائب ضابط عطية الله.
  3. عدي الجبوري (أبو نائلة): وهو من منطقة القريعات في بغداد، وكانت آثار التعذيب واضحة على جسمه، ففي بطنه حرق بالكاوية الكهربائية وبعمق سنتيمتر واحد تقريباً، وكانت مدة حكمه سبع سنين.
  4. جواد: وهو من محافظة ميسان، وكان ظهره مكسوراً في التحقيق، وبقي مستلقياً على ظهره حتى تكسلت الفقرة المكسورة.
  5. أبو فاطمة: وهو راوية للأحاديث الشريفة، حفظها عن صديقه ” س . ل ” ، وهذا حفظها عن أستاذه الدكتور حسين محفوظ، وقد رواها الدكتور عن اُستاذه المحدث آغا برزك الطهراني. الذي كان يروي الأحاديث الشريفة مسندةً إلى المعصومين عليهم السلام، وكان ( أبو فاطمة ) ممن استفاد منه السجناء كثيراً وحفظوا عنه الكثير من الأحاديث.
  6. الدكتور حسن محمد رجاء: تقدم التعريف به ، وكانت رجلاه متورمتين ومتقيحتين وبهما جراحات فلا يستطيع المشي، حينما أخذوني من هذا القسم.

إلى أين ؟

في يوم 20/5/1980 دخل مجموعه من رجال الأمن ومعهم المفوض فلاح ونادوا بإسمي فخرجت من الزنزانة فقيدوا أيدي إلى الخلف بالجامعة الحديدية وعصبوا عيني بمنشفه كبيرة واقتادوني إلى مكان مجهول واعتقد السجناء بأنهم اخذونى إلى الإعدام لأنه في بعض الأحيان يأتي اعتراف جديد على سجين فيؤخذ للتحقيق مجددا وتتم تصفيته وأحيانا يؤخذ للإعدام دون تحقق جديد.

الفصل الخامس .. كنيس الموت

~ حاكمية المخابرات ~

نقلوني في سيارة مظلمة هي في الواقع صندوق نقل السجناء وكانت عيوني معصبه والجو حار جدا دون أن أعرف الهدف وأين يذهبون بي؟. وما هو المصير ؟. حتى توقفت السيارة في مكان ما وبعد النزول من السيارة قالوا لي:

اصعد السلم فصعدت السلم ثم بعد خطوات فتحوا بابا ودفعوني إلى الداخل ثم أغلقوا الباب .

وعندما رفعت العصابة عن عيني وجدت نفسي في زنزانة ضيقه 2 م × 3 م كدسوا فيها 24 شخصا..

ولعدة لحظات أصابني ذهول ووجوم .. ما هذا ؟. جو حار خانق ورائحة نتنه قاتلة.. إن الوضع هنا أسوأ بكثير من زنزانات مديرية الأمن وسجن أبو غريب.

وتساءلت مع نفسي أين أنا ؟ فالناس هنا شبه عراة وجوههم صفراء شاحبة ومخيفه من الضعف والهزال كأنهم أشباح .. وفى الواقع لم يكونوا أكثر من هياكل عظميه نحيفة تنتظر الموت على أيدي جلاوزة بغداد.
وبعد أن التقطت أنفاسي توجهت إلى الحاضرين وسلمت عليهم فردوا علي السلام ثم سألتهم، أين نحن؟ فلم يجيبني احد وربما خافوا منى وكان كل واحد منهم ينظر إلى الآخر.

قلت لهم:

لماذا تخافون؟ إن حالي مثل حالكم، أنا أيضا قادم إلى المجهول مثلكم، فأطمأنوا إليّ ، وقالوا:

هذا المكان يسمى ( حاكمية المخابرات ) والمبنى عبارة عن كنيس يهودي تستخدمه مديرية المخابرات كدائرة تحقيق وهو مخصص لقضايا التجسس ويقع في منطقة ( البتاويين ) بالقرب من التحرير في بغداد .
وتساءلت: وما علاقتي بهذا المكان؟ إن الاتهامات الموجهة لي لا ترتبط بالتجسس ثم اننى مررت بكل مراحل التحقيق والتعذيب والمحاكمة وصدر الحكم بحقي، فلماذا أنا هنا من جديد؟ ملفي يرتبط بمديرية الأمن فلماذا مديرية المخابرات؟ هل هناك اتهامات جديدة ؟هل على أن ابدأ مشوار جديد من التحقيق والتعذيب ؟
عشرات من الأسئلة الحائرة تشابكت خيوطها في رأسي ومن ثم توكلت على الله وفوضت أمري إليه وبذلك استطعت أن أتغلب على مواقع الضعف في نفسي وأتحدى الانهيار والسقوط.

~ بوابة الموت ~

بالتوكل على الله تأقلمت مع الوضع الجديد هنا .. خاصة و إن السجناء هنا ليسوا – في الغالب – من نفس الشريحة المتدينة التي انتمي إليها، ففي أبو غريب بل وحتى في مديرية الأمن كان المعتقلون عموماً من الإسلاميين المتدينين وبالتالي كانت الروح الأخوية المتعاطفة السائدة تخفف كثيراً من عناء العذاب الذي كان جهاز القمع يصبه على رؤوس المعتقلين ليل نهار.

ولعل الهدف من نقلى إلى هذا الموقع الجديد كان بالضبط يرتبط بهذا الأمر.. إذ كانوا يهدفون بهذه الخطوة فصلي عن الأجواء المناسبة لي ووضعي في جو روحي مختلف تماما من جهة، ومن جهة أخرى تعريضي لنوع جديد من العذاب النفسي القاتل وذلك بهدف تحطيم المعنويات وجعل الفرد يتردد في ثوابته المبدئية ويستسلم بالتالي لنا تريده السلطة منه.

لقد كان الوضع هنا رهيبا للغاية .. فانقطاع تام عن العالم الخارجي، وغربه قاتله بين العناصر غير المنسجمة التي على الإنسان أن يقضى كل أوقاته معها أضافه إلى قساوة التعذيب والتنكيل التي لا تقاس بها كل عمليات التعذيب في أجهزة الأمن والسجون الأخرى..

ورغم أنى بقيت في هذا القسم 50 يوما دون أي تحقيق ودون أن أتعرض شخصيا لأي تعذيب جسدي إلا أنى كنت شاهدا لما كان يجرى بحق الآخرين من الأهوال المدمرة.. فالتعذيب هنا يجرى دون أية حدود ودون ملاحظة النتائج التي قد تؤدى إلى موت المعتقل تحت التعذيب .. فقيمة الإنسان هنا أرخص من عقب سيجارة تلقى في المزبلة..
إن نسبة التلفات المسموح بها تحت التعذيب في مديريات الأمن والأجهزة والسجون التابعة لها هو 10 % أي لا يحق للأجهزة أن تتمادى في التعذيب بحيث يرتفع عدد الضحايا أكثر من 10 في كل مائة معتقل. بينما في حاكمية المخابرات وربما في كل الأجهزة والدوائر التابعة لمديرية المخابرات فان النسبة هي 100 % (مائة بالمائة) أي لا يوجد هنا أي حساب و كتاب والداخل إلى هذه الاقبية لا يرجى خروجه منها إلا مستسلما أو ميتا سوى الحالات النادرة.
مرت على الأيام الخمسون دون أي كلام أو أي سؤال أو تحقيق وحسب ما لاحظت الوضع هناك فأن هذه المدة كانت قصيرة بالقياس مع بعض الأفراد الذين كانوا يقضون الشهور دون أي سؤال بل كان هناك احد المعتقلين مرت عليه سنتان دون أي تحقيق أو سؤال ولم يكن يجرؤ احد أن يسأل عن قضيته أو عن مصيره لأنه كان يخشى أن يؤدي السؤال إلى إعدامه.
ورغم اننى لم أعذب جسديا هنا إلا أنى شاهدت الكثير من الأفراد الذين تعرضوا لأبشع وأقسى عمليات التعذيب .. حيث الأساليب المستخدمة هنا هي عموما أبشع وأقسى من التعذيب في الأجهزة الأخرى..

~ السجن – التابوت ~

ومن أساليب التعذيب هنا:

توجد زنزانات انفرادية صغيره جدا .. جدا وبتصاميم مختلفة وهى أشبه بتوابيت أو صناديق صغيره فبعضها مصمم بحيث يسع لشخص واحد جالس على هيئة القرفصاء ولا يستطيع التحرك فيه أبدا وهو يقضى ليله ونهاره بهذه الحالة والبعض مصمم للوقوف فقط وقسم ثالث للنوم فقط حسب أبعاد الزنزانة وتوجد في كل زنزانة – أو بعبارة أدق كل صندوق أو تابوت – كوة صغيره يمد من خلالها أنبوب مطاطي ضيق ليشرب المعتقل منه الماء.. وقد يبقى المعتقل في هذا الصندوق أو التابوت أياما عديدة دون أن يفتح له الباب أو يخرج منه لقضاء حاجه أو ما شاكل ذلك .. وكانت هذه الزنزانات موجودة بالطابق الأسفل الذي سأتحدث عنه.
و من الأساليب المتطورة:

  • الشعلة الغازية و هي شعلة غاز حادة ومركزة كالتي يستخدمها صاغه الذهب في عملية اللحام ، تحرق بها الأصابع أو الأعضاء التناسلية أو الأنف أو الأذن حتى تتفحم.
  • المنشار الكهربائي وهو يشبه منشار النجارين ويقطعون به اليد أو الرجل أو إحدى الأصابع.
    -وكذلك المثقب الكهربائي وسائر الأساليب التقليدية المعروفة كالفلقة والضرب بالكيبل والقضيب الكهربائي والهراوة والتعليق بالسقف واستخدام المكواة.

~ زملاء الزنزانة ~

وفي الزنزانة التي قضيت فيها خمسين يوماً دون الخروج منها – إلا للمرافق الصحية مرة واحدة في اليوم فقط – التقيت العديد من الأفراد وسمعت قصصهم ولمست عذابهم الرهيب، أشير هنا إلى بعضهم:

بهمن
طفل إيراني عمره 14 سنه من منطقة ( قصر شيرين ) وهو كردى فيلي وكان راعيا للغنم، تشاجر مع أبيه فخرج إلى البرية ويبدو انه ضل الطريق فوصل إلى مخفر حدودي عراقي وهو منهك وجائع فطلب منهم طعاما ولكنهم اعتقلوه وجاءوا به إلى هذا المكان بتهمة التجسس. وكان(بهمن ) متحمسا للثورة الاسلاميه الإيرانية ولزعيمها الإمام الخميني قدس الله نفسه.

سألني بهمن – باعتبار إني كنت اعرف شيئا من اللغة الفارسية:

ماذا سيفعلون بى ؟

قلت له:

سيعذبونك ويضربونك بالفلقة ويكوونك بالكهرباء وما عليك إلا الصبر.

لذلك اخذ بهمن سيجاره مشتعلة ووضعها على يده ليرى مقدار تحمله وقد نهيته عن ذلك لأنه إيذاء للنفس، وكان بهمن – رغم صغره وأميته – صابرا صامدا.

اللاجئ!.

رجل أمي من منطقة ( كرند ) في غرب إيران يقطنها مجموعة من الغلاة وحينما انتصرت الثورة الإيرانية صدقوا الإعلام المضاد وتوقعوا أن ضررا سيلحق بهم فأرسلته قبيلته إلى الحكومة العراقية كمندوب عنهم لطلب اللجوء لهم فسلم نفسه إلى المخفر الحدودي ولكنهم لم يصدقوا مقولته واتوا به إلى هذا المكان واعتبروه جاسوسا.

وكان السجناء يذهبون إلى المرافق مرة واحدة في اليوم وكان الحارس يعد لهم من واحد إلى عشره وخلال هذه الفترة القصيرة كان يجب على المعتقل أن ينهى أموره من قضاء الحاجة إلى غسل وجه إلى شرب الماء والوضوء وغسل حاجاته كل هذا والوقت هو فترة عد الحارس من واحد إلى عشره وأما من يتأخر فإن الحارس كان يذيقه الهوان.
وكان هذا الرجل اللاجىء لا يعرف ذلك، فتأخر في المرافق فجاءه الحارس وضربه بعصا في رأسها مسمار معقوف ، فنبت المسمار في كتفه وأخذ يجره والدماء تنزف منه حتى أوصله إلى الزنزانة وهو لا يعلم لماذا فعل به ذلك.
لقد تألم السجناء لهذا الرجل الأمي البسيط، الذي هجر بلده بسبب مخاوف خيالية، فسقط في شباك الإرهاب الصدامي الجائر.

الدنماركي

ادخل إلى الزنزانة رجل ضخم الجثة طوله 180 سم أو 190 سم ابيض أشقر وحينما أغلق باب الزنزانة أغمى عليه من شدة الحرارة والرائحة العفنة فعملت له تنفسا اصطناعيا ولما أفاق قال:

أين أنا ؟ لماذا جاؤوا بي إلى هنا ؟

فسألته عن عمله وكيفية اعتقاله.

فقال:

أنا سائق سيارة شحن كبيرة محمله بالجبن الدنماركي وكان معي جهاز لاسلكي صغير (ووكي- توكى) اتصل به بالسيارات الأخرى المرافقة لأننا عادة نسير سيارتين أو ثلاث في الطرق البرية فألقى القبض على ويقولون أنت جاسوس.

والطريف إن الرجل كان يتوقع انه في سلطه تحترم الأمور فكان قلقا على مصير الجبن الذي تحمله السيارة فقال لي:

قل لهم ان الجبن سوف يتلف لان جهاز التبريد مطفأ.

قلت له: هنا لا يعيرون للإنسان أي قيمه وأنت تفكر في الجبن !!.

اللبناني

وهو سائق سيارة أيضا وهو مسيحي ماروني وكان ضخم الجثة ألقى به في الزنزانة منهكا من شدة التعذيب فقال له السجناء :

ما بك ؟

فكشف عن مؤخرته وكانت مدماة وممزقه وكان جسمه ازرق من شدة الضرب وقال:

يقولون أنت جاسوس لـ(هابانا)، ما هي هابانا؟

فقلت له

لا نعرف ما هي (هابانا)؟

فقال الرجل اللبناني:

يقولون أنت جاسوس لـ(هابانا) .. لـ(كوبا ).
ثم أضاف باللهجة اللبنانية:

(دَخلك دكتور .. شو هابانا .. شو كوبا).

فعرفت حينها انه يقصد هافانا عاصمة كوبا فهو رجل أمي لم يسمع بهافانا أو بكوبا.

ولما سمعه الحارس يتكلم والكلام ممنوع أخرجه وضربه ضربا مبرحا وقال له :

ما هي قضيتك؟

فقال له :

يقولون أنت جاسوس لـ( لكوبا ) والله أنا مو جاسوس.

فقال الحارس:

ابن الكذا.. تتجسس ” للكوفة ” !! ثم ذهب وجلب هراوة غليضة وضربه ضربا مبرحا .

تصور مستوى أمية الحارس في جهاز مخابرات السلطة .. انه لا يستطيع أن يميز بين (الكوفة) – وهي مدينة عراقية – وكوبا !!

لقد كان هذا السائق يبكي مثل الطفل.
وكان هذا يجرى مع العلم أن علاقة كوبا بالعراق سنة 1980 م كانت جيدة.

عزرائيل معه

اقتادوا إلى الزنزانة عراقيا كان مقيماً في الكويت وعنده مطعم وقد وضع فيه صورة صدام حسين ولما وجد أن بعض الزبائن الكويتيين يتضايقون منها لذلك رفعها ويبدوا أن تقريرا بهذا الشأن رفعه جواسيس حزب السلطة للمخابرات وحينما جاء إلى زيارة العراق امسكوا به بالمطار وجلبوه إلى ضابط حاكمية المخابرات واسمه زيد التكريتي وقال له:

انظر .. أنت لما دخلت إلى غرفتي دخل ملك الموت معك، لقد انتهى أجلك الآن، وسواء اعترفت أم لم تعترف فان مصيرك الموت ولكن أنصحك بدل أن تموت تحت التعذيب مُت موته مريحة بالمشنقة.

ثم رموه بالزنزانة ولم يعذب بعد ولما دخل اخذ يبكى ويقول للسجناء:

دخيلكم لا تعدموني واخذ يتوسل بهم.

فقالوا له :

نحن سجناء مثلك ولا نعدم أحدا .

وهكذا اخذ الرجل ينتظر مصيره المجهول في كنيس الموت بسبب صورة السيد الرئيس (!).

السماك

جلبوا صائد سمك وهو عراقي من محافظة الانبار وكان سنيا ولم يكن يصلى وكان يشكوا من حصوة في كليته وكان يتألم منها ويئن ففي أحد الأيام قلت له:

أخي صل لرب العالمين ، وتوسل بالرسول (ص ) والأئمة عليهم السلام وسوف تشفى بإذن الله ..

وفعلا اخذ الرجل يصلى ويتوسل إلى الله بالرسول وأهل بيته عليهم السلام وحينما خرج للمرافق سقطت الحصوة فجلبها لنا لكي نراها وشفاه الله ببركة الرسول (ص) وأهل بيته الأطهار.

الشهيد المجهول

جلبوا شخصا وعذبوه أشد أنواع العذاب ورموه في الزنزانة وكان في الرمق الأخير وأراد أن يقول أنا فلان وفلم يستطع وإنما استطاع فقط أن يفتح فمه ويقول : أنا … أنا وشهق شهقة ومات.

فطرقنا الباب ونادينا الحارس فجاء الحارس و اسمه سعد وهو أيضا يشارك في التعذيب فقلنا له:

هذا مات.

فقال الحارس متهكماً باللهجة العراقية:

هم زين مات وخلص لو باقي ما كان راح يخلص …

الحائط

و في احد الأيام رموا في الزنزانة رجلا كانوا قد احرقوا رجله بالمكواة وكان يتألم كثيرا ولم يكن هناك من يضمد رجله فقد كانت تتقيح وفى إحدى المرات وعندما كان يئن من الألم سأله الحارس:

ما بك؟

فقال: لا شئ .. ضربت الحائط برجلي وهى تؤلمني الآن.

فقال الحارس ساخرا: اترك عنك اللعب بالحائط هذه المرة .

وعندما سألناه عن سبب إجابته هذه قال: لقد هددوني وقالوا لو عرف احد إننا عذبناك فسوف نعدمك !.

هواية

وضع احد السجناء في غرفه بها ثلاجة يحتفظ فيها بأجساد الذين يموتون تحت التعذيب وكان الاحتجاز في هذه الغرفة نوع من التعذيب الروحي القاتل.

يقول هذا السجين انه خلال فترة وجوده في هذه الغرفة كان يرى رئيس جهاز المخابرات آنذاك ( برزان التكريتى ) يأتي بين فتره وأخرى ويفتح الثلاجة ويتفرج على الجثث …….. ربما لكي يتأكد من حسن صنيعه بحق أبناء الشعب !.

مكافأة

بعد فتره من اعتقالي قدم الدكتور جعفر ضياء جعفر وهو زميلي في مركز البحوث النووية، والذي كان هو الآخر مستشاراً علمياً لرئيس منظمة الطاقة الذرية , قدم مذكرة إلى صدام حسين بصفته رئيس منظمة الطاقة الذرية جاء فيها:
ان البرنامج النووي لا يمكن أن يستمر في غياب الدكتور حسين فإنني لا أستطيع أن أقوم ببحوث اختصاصه في الكيمياء النووية لان اختصاصي هو الفيزياء النووية وعمل كل منا يتمم عمل الآخر ..
وقد فهم صدام حسين إن المسألة هي تحد له لذلك أمر باعتقال الدكتور جعفر وجاءوا به إلى هذا الموقع ( حاكمية المخابرات ) ولكنهم لم يعذبوه بل وضعوه في زنزانة لكي يرى حالات التعذيب والموت وقد مات في نفس الزنزانة التي كنت فيها، لذلك لم التق به خلال فترة وجودي هناك.

الانفرادي

في 10 تموز استدعاني ضابط المخابرات زيد التكريتى فاقتادوني إليه معصوب العين ، ولما أدخلوني غرفته رفعوا العصابة عن عيني وعرف الضابط عن نفسه:

تفضل دكتور، استرح ، أنا زيد التكريتي ، نقيب بالمخابرات

كيف حالك ؟ الجماعة ما أذوك؟.

سوف أوصيهم بك خيرا اخذ راحتك عدة أيام ولنا معك حديث

لم يدم اللقاء هذا أكثر من دقائق، ولم يتم بيننا حديث آخر غير هذا بعض عبارات المجاملة الجافة، وبعدها اخذونى بأمر الضابط إلى الطابق الأسفل من الكنيس حيث توجد مجموعة زنزانات أخرى نصفها مخصص للنساء وكانت الزنزانات جنباً إلى جنب وكانت مخصصة للرجال، وأخرى للنساء وهكذا..

وكانت هناك بعض النساء الأجنبيات. كما كانت عدد من السجينات المصريات وكانت إحداهن راقصه كان الحراس دائماً يخرجونها لكي ترقص لهم وكانت إحدى النساء من محافظة ميسان قد أصابها الطلق فرفضوا إخراجها للمستشفى فولدت في الزنزانة.
وضعوني لوحدي فرى إحدى الزنزانات وكان في سقفها أنبوب ماء يقطر فكنت اجمع الماء لغسل الملابس والاستحمام والوضوء وكان هذا الشئ جيد بالنسبة لي وان كان يزعجني صوت قطرات الماء المستمرة ليل نهار.
وقد استطعت في هذا المكان الجديد أن أستريح بعض الشئ فعلا لأنني كنت وحدي في زنزانة انفرادية ورغم وحشة الوحدة إلا أنى استطعت أن أنام بعض الوقت و أأخذ راحتي في الجلوس إلا أن المشكلة المؤلمة كانت عدم معرفتي بأوقات الصلوات الخمس لعدم وجود نافذة في الزنزانة إضافة إلى أنها كانت في طابق سفلى لا يدخله النور من الخارج، ولسوء الحظ فأن هذه الفترة تزامنت مع عدة أيام من شهر رمضان المبارك التي صمتها ولله الحمد ولكن دون أن أستطيع معرفة مواقيت السحور والإفطار وحتى يوم العيد ضاع وكان الأكل في هذا المكان بسيطا فأحيانا يجلبون علبة لبن صغيره وبعض المواد الغذائية البسيطة الأخرى وان كان الضابط زيد التكريتي قد أوصاهم بي خيرا وان يطعموني أكلا جيدا !!.
وقرأت بعض المذكرات المحفورة على الحائط منها اسم شخص وعنوانه ورقم تلفونه ومضافا إلى هذه الجملة:

من يقرأ هذا يبلغ أهلي لأنهم سوف يعدموني.

ولكنني مع الأسف الشديد لم احفظ تفاصيل العنوان لأنني لم أكن أتوقع الخروج من كنيس الموت الرهيب في يوم من الأيام.

المغادرة

في يوم 10 آب أي بعد مرور 30 يوما على بقائي في الزنزانة الانفرادية في الطابق الأسفل نادوا باسمي و اخذونى إلى الحمام و أعطوني شفرة حلاقه وقالوا:

احلق ذقنك .

وكانت لحيتي طويلة فعلا وغير مرتبه فحلقت ذقني وبسبب طول الشعر جرحت الشفرة وجهي وحينما شاهدني النقيب زيد التكريتى مجروحا قال لي:

لماذا جرحت نفسك ؟سوف يعتقدون إننا ضربناك وجرحناك.

فطلب من الحارس أن يحضر قنينة كلونيا وقال :

عطر نفسك.

ثم أعطوني بجاما جديدة وعصبوا عيني ووضعوا الجامعة الحديدية في يدي ونقلوني ليلا في سيارة مغلقه إلى عالم آخر.

الفصل السادس .. بيت الوزير

~ السجن المريح ~

توقفت السيارة في منطقة هادئة, – ورغم إن عيني كانت معصبة – إلا اننى أحسست بأنها من المناطق الراقية في بغداد, أنزلوني من السيارة وقادوني إلى بيت فخم، وعندما رفعوا العصابة عن عيني، رأيته مؤثثاً تأثيثاً فخماً، وكان يوجد فيه ثلاث أشخاص من جهاز المخابرات هم:

(1) النقيب جمال التكريتى . (2) الملازم محمد الدورى .(3) الملازم سعد التكريتى.

ثم قالوا لي:

هذا الطباخ في خدمتك ، وأي شئ توصيه يطبخ لك استرح عدة أيام وبعدها نأتي إليك .

وعلمت فيما بعد إن هذا البيت هو بيت وزير سابق هو وزير التخطيط عدنان الحمداني الذي أعدمه صدام حسين مع قيادة الحزب في سنة 1979 بعد استيلائه على رئاسة الجمهورية ويقع هذا البيت في نهاية شارع 14 رمضان قرب مدينة المأمون.

ولأول مره استحممت استحماما مريحا وبالفعل كان الطباخ يطبخ لي أكلا جيدا كالسمك والدجاج والرز … وهكذا ، وبعد أول وجبة غذاء شعرت بألم شديد في معدتي وأصابني إسهال حتى توقعت بأنهم وضعوا السم في طعامي إلا اننى قلت في نفسي بأنهم لو أرادوا تسميمي لم تكن ضرورة لكل هذه التفاصيل والمقدمات وحلق الذقن والتعطير و .. و ..،ن ثم جلبوا لي طبيبا اهتم بي كثيرا .

وكان من جملة اهتمامهم بي أن احضروا لي راديو وتلفزيون وجريدة يومية فخرجت بذلك جزئيا من الوحدة والانقطاع وشيئا فشيئا تحسنت صحتي وترتب نومي وأكلي.

~ مع رئيس المخابرات ~

وكان تحليلي لهذا التغيير في المعاملة هو أن السلطة اعتقدت بأنها استطاعت أن تقضى على مقاومتي وإنها تمكنت من تدجينى وبعد هذه الرحلة من التعذيب الجسدي والروحي وإتباع مختلف الأساليب لتدمير معنوياتي استطاعت أن تهيئني للمساومة والعودة إلى الاستفادة من اختصاصي لخدمة أغراضها الجهنمية.
وبالفعل صدق ظني ففي احد الأيام وأنا جالس في غرفتي أتصفح الجريدة اليومية إذ دخل رئيس المخابرات – يومذاك – برزان التكريتى ومعه عبدالرزاق الهاشمى – نائب رئيس لجنة الطاقة الذرية ووزير التعليم العالي والبحث العلمي فيما بعد – الذي وقف كالبواب خانعا أمام برزان الذي كان يرتدى قميصا فتح ياقته وعلق في رقبته قلادة ذهبيه تبدو من تحت القميص وفى فمه علك ولحيته كثة.

كان مظهره أشبه شيء بالسفلة من أبناء الشوارع.

ثم عرف نفسه وقال:

أنا برزان التكريتى .

ثم سال عن صحتي و عن أحوالي وبعدها قال:

على أي حال الذي صار، صار … وأنت من المفروض أن لا تختلط مع هؤلاء الخونة، ونحن نعرفك فأنت لست منهم والحقيقة أن السيد الرئيس تأثر كثيرا لما علم بالموضوع وهؤلاء الأمن أولاد كلاب و أمهاتهم كذا.. وأخواتهم كذا .. ما كان المفروض أن يفعلوا بك هكذا وان يجعلوا منك قضيه, ونحن نريد أن ترجع لوضعك الطبيعي وترجع لعملك بالطاقة الذرية وتخدم الوطن !

قلت له:

في الحقيقة أني متعب جسديا ونفسيا ولا أستطيع أن ارجع لعملي.

فقال برزان:

دكتور حسين نحن نعرف إمكانياتك وقدراتك العلمية وأقول لك شيئا: نحن يجب أن نطور سلاحنا النووي لأنه يعطينا ذراعا طويلا لإعادة ترتيب خارطة الشرق الأوسط وهنا تدخل عبد الرزاق الهاشمي لتدارك خطورة الكلام وقال:

يعنى لا يقصد السلاح النووي.

فنهره برزان وقال:

بالضبط قصدي تطوير القنبلة الذرية – قالها وهو يخاطب الهاشمي – من أي شيء تخاف هو الآن بين أيدينا فلا يستطيع أن يبوح بهذا السر.

ثم لضاف بلهجة تبطن التهديد:

إن الإنسان الذي يرفض أن يخدم وطنه لا يستحق الحياة.

فأجبته بلهجة صارمة وصريحة:

اننى اتفق معك أن الإنسان يجب أن يخدم وطنه ولكن ما تطلبه منى هو ليس خدمه للوطن.

عندها أحس برزان الذي شعر بالخواء أمام الإنسان المؤمن الذي لا يفيد معه التهديد بالموت

وقال وقد رسم ابتسامه صفراء على شفتيه:

أنت الآن متعب فعلا وعليك أن تأخذ قسطا من الراحة.

ثم أوصى ضباط المخابرات المسؤولين عن الموقع وقال لهم:

أي شئ يحتاج من أكل وشرب نفذوا كل طلباته.

ولما أراد الخروج قال:

هل تحتاج شيئا؟

قلت له:

أريد أن اتصل بأهلي.

فقال برزان:

هاتوا جهاز التلفون ، وقال :

اتصل بعائلتك وقل لهم سوف نلتقي قريبا .

وهكذا اتصلت بالعائلة – بعد انقطاع طويل – وبعدها خرج برزان ولم يسمحوا لي بالاتصال بالعائلة مرة أخرى.
بعد أيام جاء ضابط المخابرات محمد الدورى مصطحبا أم زهراء والأطفال وكانت الزيارة التي وعد بها برزان التكريتي والتي كان يهدف من ورائها تليين موقفي – حسب اعتقاده – وفى هذه الزيارة أخبرتني العائلة عن مكان وجودي .

~ البيت الآخر ~

بعد أيام من زيارة العائلة نقلوني إلى بيت آخر في الكراده الشرقية قرب السدة وعلى مقربه من بيت الدكتور رياض حسين وزير الصحة الذي اعدم في سنة 1983 م ، وقد نقل معي كل الطاقم السابق الطباخ وضابط المخابرات .
وربما كان سبب نقلى إلى البيت الآخر هو انكشاف عنوان البيت الأول للعائلة بعد زيارتهم لي أي لأسباب أمنيه وتحسبا لأية احتمالات طارئة.
وفى البيت الجديد زارني للمرة الثانية برزان التكريتى وكانت زيارة قصيرة ولم يجر فيها أي حديث مهم وقال برزان:

جئت لكي اطمئن على وضعك الصحي وانظر مكانك الجديد فيما إذا كانت فيه أية نواقص أو مشاكل .

وفى اعتقادي أن هذه الزيارة كانت بهدف الاستطلاع على موقفي وفيما إذا كنت قررت مثلاً التعاون مع السلطة، وكان يتوقع برزان أن أتطرق للموضوع ولذلك اكتفى هو بالمجاملات السطحية.

~ المقابلة الثالثة ~

بعدما قصفت إسرائيل مفاعل تموز النووي العراقي في 7 تموز 1981 م، كان النظام مهتما بموضوع هذا القصف وكيفية إعادة بناء المفاعل لذلك جاء برزان التكريتى مع عبد الرزاق الهاشمي لزيارتي وكانت المرة الثالثة وبعد المجاملات سألني برزان:

هل سمعت بقصف مفاعل تموز؟

قلت: نعم.

فقال برزان:

ما رأيك بإعادة بناء المفاعل ؟ وهل من الممكن ذلك؟

فأجبت:

لا اعرف مقدار الدمار الذي أصاب المفاعل وعلى العموم فأن عملية البناء غير ميسورة لان الفرنسيين هم مصمموه وبانوه ويجب مراجعتهم وعلى أي حال إذا تريدون وجهة نظري فيجب أن أرى المفاعل وأرى الدمار الحاصل حتى أعطي وجهة نظري.

فقال برزان:

صحيح، ووعدني بان يأخذني إلى الموقع لأرى مقدار الدمار لكنه ذهب ولم يعد وكانت هذه هي الزيارة الأخيرة لبرزان.

وبعد فتره جاء عبد الرزاق الهاشمي لوحده ومعه تقرير عن المناطق المضروبة وعن مقدار الدمار ثم سألني:

ما رأيك؟

فقلت:

أنا لا اعتقد أن أحدا يستطيع ترميم الأضرار من دون تعاون فرنسي.

ثم سألني الهاشمي:

هل تعتقد أن فرنسا تتعاون معنا ؟ وهل تعتقد بان هناك تواطئ من قبل العاملين؟

كان جوابي :

أنا لا اعتقد أن فرنسا سوف تتعاون معكم لان إسرائيل لا يمكن أن تضرب المفاعل من دون تعاون فرنسي لان فرنسا هي صاحبة الخرائط والمعلومات الكاملة عن المشروع كما أني استبعد أن يكون هناك أي تواطؤ من العاملين في المشروع مع إسرائيل لعدم حاجه إسرائيل إلى ذلك لأن جميع التفاصيل هي عند فرنسا وتستطيع إسرائيل الحصول عليها.

بعد أيام جاء احد ضباط المخابرات وقال لي:

أهنئك على تحليلك السابق فقد ثبت لنا بان فرنسا كانت متواطئة مع إسرائيل ونحن كجهاز مخابرات تابعنا الأمور وتوصلنا إلى نفس النتيجة التي توصلت إليها وأنت جالس في غرفتك.

وكان عبد الرزاق الهاشمي بين فتره وأخرى يأتي لزيارتي وكانت زياراته عاديه ويسأل عن أحوالي فقط دون الحديث حول العمل وما يرتبط بالطاقة الذرية.

وخلال هذه الفترة تفرغت – بالإضافة إلى العبادة وتلاوة القرآن – للكتابة العلمية حيث استطعت تأليف عدة كتب علميه منها كتاب في ( الكيمياء النووية ) وهو كتاب كبير يربو على ألفي صفحه. وبسبب وجود جهاز استنساخ في بيت الاحتجاز فقد كنت استنسخ ما اكتبه وفى كل زيارة عائليه كنت أخبئ مجموعة أوراق في الملابس والحاجات وأعطيها للعائلة.
وكانت الزيارات العائلية تتم كل ثلاثة أو أربعة اشهر مرة واحده وكانت الزيارات تتم – وبالطبع لأسباب أمنيه – خارج بيت الاحتجاز ففي إحدى المرات كانت الزيارة في جزيرة الحبانيه ومرة أخرى في خيمة منصوبة في صحراء تكريت .

~ ذكريات ~

في فترة الاحتجاز الانفرادي في البيت – السجن لم التق بأي معتقل آخر وإنما كان عناصر المخابرات المكلفون باحتجازي هم الذين ألتقيهم وأتحدث إليهم لذلك فان ذكرياتي في هذه الفترة لا تتعداهم.

وكان معظم رجال المخابرات غير متعلمين ولم يحصلوا على الشهادات الأكاديمية وفى سبيل أن يرقوا كان عليهم أن يحصلوا على شهادة البكالوريوس بأي شكل من الأشكال لذلك كانوا يسجلون في الكليات الإنسانية مثل كليات الإدارة والاقتصاد وكلية القانون والسياسة وعادة يكون دوامهم مساء ولم تكن هناك صعوبة في الحصول على الشهادة المطلوبة ذلك لان الأستاذ بمجرد معرفته بانتساب الطلاب لجهاز المخابرات فان فرائصه ترتعد ويمنحهم الدرجات التي يريدونها حتى من دون أن ينتظم دوامهم.

أن ضابطي المخابرات سعد وجمال التكريتيين بحكم وجودهما المستمر معي ولان هذا الاحتجاز كان يختلف عن بقية السجون والمعتقلات الرسمية فإنهما كانا أحيانا يقضيان أوقات فراغهم بالأحاديث معي وهذه بعض الذكريات:

الطالب الكسول

كان سعد طالبا في كلية القانون والسياسة وكان يأتيني أحيانا لكي ادرسه على أساس اننى دكتور واعرف كل شئ ففي احد الأيام- و قبل الامتحان – جلب كتابا في السياسة عنوانه ( مفهوم الثورة ) لمؤلفه الدكتور عبد الراضي الطعان والذي كان هو نفسه مدرس المادة.

وقال سعد:

أنا قرأت الكتاب ولم افهم منه شيئا، أرجوك يا دكتور أن تشرحه لي.

تصفحت الكتاب فوجدته كتابا هزيلا فقلت لسعد:

هذا الكتاب غير مترابط الأجزاء فبعضه لا يرتبط بالبعض الآخر وأنا لا أستطيع أن اشرحه لك.

فكر سعد، وقال:

جيد سوف اذهب للدكتور عبد الراضي الطعان ليعطيني أسئلة الامتحان !! ولكن المشكلة انه لم يعرفني ولم اعرفه لأني لم اذهب للجامعة منذ بداية السنة الدراسية.

ذهب سعد إلى الجامعة واخذ عنوان الأستاذ وذهب إلى بيته بعد أن ارتدى الملابس المرقطة التي يرتديها الضباط واخذ رشاشته معه.

وبالطبع رحب به الدكتور الطعان واحترمه كثيرا وقدم له شاياً ساخناً لأنه خاف منه و بعد أن عرف سعد بنفسه, قال للأستاذ:

أنا تلميذك فلان وعندنا واجبات وطنيه ونقضى وقتنا في حماية الثورة ومكتسباتها فأرجو أن تعذرني لأنك لم ترني من قبل ولم احضر محاضراتك حتى الآن وأرجوك بدون إزعاج أن تعطيني الأسئلة !!
قام الأستاذ – كما يروى سعد – واحضر الأسئلة وقدمها بكل احترام للطالب المخيف.

وفى اليوم الثاني جلب سعد الأسئلة لي قائلاً:

دكتور أرجوك أن تخرج الأجوبة من الكتاب لأنني لا ادري أين هي وجوده في الكتاب … قالها وهو يضحك.

فقلت له:

لماذا تتعب نفسك بهذه المسألة؟

فقال سعد:

وماذا افعل؟… ثم فكر قليلا وقال – وقد عرف ما اقصد:

طيب.

ذهب في اليوم التالي وهو يزهو بملابسه المرقطة ورشاشته، إلى بيت الدكتور الطعان وقال له:

دكتور أنا ماذا افعل بهذه الأسئلة أنت تريد الأجوبة منى.

فقال له الدكتور:

إن الأجوبة غير حاضره عندي تفضل اجلس واشرب شاي الضيافة حتى اكتبها لك!.

و هكذا حصل سعد على الأجوبة وهى مكتوبة بخط الأستاذ !! وجاء بها إلي، وقال وهو يضحك على عادته:

دكتور أرجو أن تشرح أي هذه الأجوبة .

فقلت له:

هذا ليس من اختصاصي.

فقال سعد :

ولماذا أرهق نفسي … سوف انقل الأجوبة من ورقة الأستاذ إلى ورقة الامتحان داخل القاعة.

وفى يوم الامتحان ذهب ضابط المخابرات سعد وفى جيبه الأجوبة، وجاءت نفس الأسئلة، ونقل نفس الأجوبة.

بعدها جاءني قائلاً:

لقد ضبطت الأمور سوف احصل على درجة 100 %.

وبعد عدة أيام ظهرت نتائج الامتحان، وذهب سعد لاستلام نتيجته، وكانت النتيجة هي رسوبه.
بعدها جاء وهو يضحك، ولكن هذه المرة على نفسه وقال:

دكتور بشرفك صايره … دايره … لقد رسبت !..

قلت له:

رسبت ؟ ولماذا؟. الم تقل انك نقلت الأجوبة حرفيا ؟.

قال:

نعم ولكن نقلت أكثر الأجوبة لغير أسألتها فلم استطع أن أميز بين الأجوبة وان أي جواب يرتبط بأي سؤال !

~ الحرز ~

كان ضابط المخابرات جمال التكريتى جزارا بشعا وكان مثل سيده برزان يتلذذ بالتعذيب والقتل وقد حدثنا عن كيفية قيامه بقطع أنوف و آذان الأسرى الإيرانيين وإعادتهم إلى إيران لبث الخوف في نفوس المقاتلين الإيرانيين.
وفى إحدى الأيام وبينما كنت نائما استيقضت على صوت فتح باب الغرفة فتناومت فشعرت أن جمال هذا جاء ووقف عند رأسي ودس شيئا تحت وسادتي وكانت غرفتي مظلمة لقد توقعته جهاز تسجيل وفى الصباح رحب بي وقال:

تفضل دكتور لتناول الفطور ثم سألني:

ماذا رأيت البارحة من حلم ؟!

فقلت له:

لم أر حلما والأحلام التي أراها عادة أنساها.

فقال:

لا بد انك حلمت البارحة.

فقلت له:

لا … لم احلم أبدا ولا أتذكر شيئا ثم قلت له: ما هذا الإصرار ؟ ما القضية ؟

فقال:هذا حجر كريم وضعته تحت وسادتك لأنه إذا وضع تحت راس رجل متق يخاف الله سوف يرى حلما جيدا وإذا وضع في جيب إنسان فان الطلقة لا تؤثر فيه, انه يحفظني من الموت.

فقلت له:

ومن أي شئ أنت خائف ؟

قال:

من جبهة الحرب *( كانوا يأخذون ضباط المخابرات عند الهجمات الإيرانية إلى الخطوط الخلفية ليشكلوا منهم فرقا لإعدام الجنود المتراجعين من ساحة المعركة.)

بمثل هذه العقلية الخرافية المتخلفة كان يريد هذا الضابط التقدمي (!). وحزبه أن يحكم شعب العراق وقد أصبح فيما بعد مسؤولا كبيرا في جهاز المخابرات.

~ السم ~

سألني احد ضباط المخابرات عن الضرر الذي يصيب الإنسان عند أكله لحما مسموما وهل يؤدى ذلك إلى موته أم لا, واستغربت من سؤاله, فتساءلت عن قصده؟

فقال:
لقد سممنا 30 خروفا كحقل للتجارب.
قلت أن الأمر يعتمد على نوع السم المستخدم.
فقال الضابط:
أنا لا ادري ولكنها غازات سامه وإنها طريقه فعاله لإعدام السجناء.
واستنتجت من كلام الضابط أن قوافل من السجناء تتم تصفيتهم بعد إجراء تجارب الغازات السامة عليهم.

~ وانتهى .. شهر العسل ~

وفى بداية عام 1982 م تغير كل شئ..
يبدو أن جهاز المخابرات اقتنع خلال هذه الفترة بأن المساومة معي غير ممكنه وان الاحتجاز المريح في البيت المرفه ومع توفير كامل الخدمات لم يغير موقفي الرافض للتعاون مع نظام صدام حسين في تطوير السلاح النووي.

ولا شك أن ضباط المخابرات الذين كانوا مسؤولين عن احتجازي والذين كانوا يراقبون تصرفاتي ليل نهار خلال عام ونصف من الاحتجاز المريح كما كانوا يتحدثون معي في كثير من الأحيان في شتى المواضيع .. لا شك إنهم كانوا يرفعون تقاريرهم المفصلة عن وضعي النفسي وعن أفكاري ومواقفي..

لذلك يئست السلطة من تدجينى ومن استدراجي في فخ المساومة والخنوع .. وربما استطاعوا خلال هذه الفترة الحصول على عالم أخصائي يسد الفراغ الذي تركته في ( الكيمياء النووية )..
من هنا كان قرار إعادتي إلى سجن أبو غريب من جديد بكل ما يحمل ذلك من إذلال وإيذاء وعذاب جسدي ونفسي ولكن هذه المرة في قاطع المخابرات وليس تحت إدارة مديرية الأمن .

الفصل السابع : أبو غريب .. أيضاً

~ قسم المخابرات ~

وفى بداية شهر كانون الثاني سنة1982م عصبوا عيني وربطوا يدي بالجامعة الحديدية واصعدوني في سيارة مغلقة متجهة نحو مرحلة جديدة.

وبالطبع شعرت أن الوضع سيتغير إلى الاسوء، لان المعاملة في الفترة الأخيرة كانت قد تغيرت وواضح أن السلطة لا تصبر كثيرا مع من رفض التعاون معها .. فأجهزة صدام حسين الأمنية لا تعرف الرحمة ولا تتهاون في التعامل القاسي مع احد, وإذا ما احتجزوني خلال هذه الفترة في مكان مريح نسبيا ووفروا لي الخدمات إنما كان لهدف ماكر ومادام الهدف لم يتحقق فأن هذه المعاملة يجب تتوقف.

وأنا في السيارة توقعت أن المرحلة القادمة من السجن ستكون مرحلة صعبة, وربما انتهت إلى الإعدام والتخلص منى, خاصة ولقد عرفت سرا مهما من أسرار السلطة وهو ما يتعلق ببرنامج تطوير السلاح النووي.

وبينما كنت أغوص في أفكاري بين تقييم الماضي وتوقعات المستقبل إذ وصلت السيارة إلى سجن أبو غريب فالمكان ليس غريبا عنى, ولكن في قسم المخابرات .. ويبدو أن ملفي انتقل نهائيا إلى جهاز المخابرات.

وضعوني في إحدى الزنزانات المعزولة تماما فالصمت هنا رهيب كصمت المقابر, وبعد عشر دقائق جاء الضابط المسؤول – وكنت لا أزال ارتدى نظارتي – ونهرني قائلاً:

لماذا لم تخلع نظارتك ؟
قلت له: لم يطلب منى احد ذلك.
فانتزع الضابط النظارة من عيني وصفعني بقوة وقال مهدداً:
إذا عدت مرة ثانية سأقلع عينيك.. لا تنس أن تتقيد في قوانين السجن.
وبالطبع كانت العملية هذه متعمدة لكي يشعرني الضابط أن شهر العسل قد انتهى وإنني عدت مرة أخرى أعيش تحت ظل مبادئ الحزب والثورة.

~ الانقطاع .. مرة أخرى ~

كان هذا إيذانا ببدء مرحلة جديدة.. من الصمت والسكون واللهيب والعواصف, ثم أغلق الضابط الباب وخرج.

ونظرت من الشباك الصغير فرأيت هذا الضابط يضحك مع الضابط الآخر محمد الدوري .

وكما في كل مراحل حياتي وبالأخص في كل فترات السجن والتحقيق والتعذيب توكلت على الله وفوضت أمري إليه وذكرت الله وتذكرته فبذكر الله تطمئن القلوب وبالرغم من إحساسي بأنني قادم إلى مرحلة صعبة ومجهولة المصير إلا أن قلبي كان مطمئنا وواثقا بلطف الله ورحمته الواسعة فالدنيا دار بلاء وامتحان وعلى المؤمن أن يكون صابرا يتحدى كل صعوبات الحياة.

وبقيت في هذه الزنزانة منقطعا عن العالم الخارجي فلا صحيفة ولا راديو ولا أخبار بل لا يكلمني أي بشر والشخص الذي يحضر الطعام هو ضابط المخابرات شخصيا رغم أن المتعارف هو أن احد السجناء ممن يعملون في قسم المخابرات يجلب الطعام إلا أن حالتي كانت خاصة وسرية للغاية وحينما كان الضابط يفتح الباب فأنه كان يرمى بقطعة الخبز اليابسة وصحن الطعام ثم يغلق الباب دون أن ينبس بكلمة واحدة.

إنها حرب نفسية !! إنها محاولة لتدمير المعنويات بعد فشل كل الأساليب السابقة.

ولكن كان عليّ أن أخطط لنفسي لكي أحافظ على معنوياتي، وأصون نفسي من السقوط في فخ الاستسلام والانهيار .. وكان برنامجي: الصلاة، والدعاء، وتلاوة ما أحفظ من القرآن الكريم، واستعادة معلوماتي وتكرارها، وطرح بعض المعادلات الرياضية وحلها .. وذلك بهدف جعل الذهن فعالاً، ومنع انجماده وتوقفه عن العطاء .. كانت فرصة للتفكير .. والتفكير الايجابي هو وحده ينقذ الإنسان من الشعور بالوحدة والغربة ..

ومع ذلك كان السكوت والصمت المطبق مرهقا ومؤلماً..

وفى إحدى الليالي أخذت الشمعة الكهربائية المعلقة في السقف تئز- لعطل فيها – فأنست لذلك لأنه قطع ذلك الصمت الرهيب, ففي حالات الانقطاع والوحشة والتحسب من المجهول يشعر الإنسان بقيمة أخيه الإنسان وعظمة العلاقات الاجتماعية والاهم هو الأهل والأحبة ويتمنى.. ولكن لا تنفع الأماني.
وفى هذه الحالات يتحول أزيز الشمعة الذي يكون مزعجا في الظروف العادية إلى رفيق أنيس للإنسان.

وفي أحد الأيام رأيت طائراً عجيباً ، جاء ووقف على الشباك الصغير المحاذي لسقف الزنزانة.

لقد كان طائراً جميلاً لم أشاهد مثله في حياتي، كان أسود يشبه الغراب، وظهره أزرق جذاب، ومنقاره أسود ضخم.

لقد أنست بهذا الطائر الجميل الذي قادته رحمة السماء ليكون زائراً يقطع دابر الوحشة والانقطاع والألم، ولكنه لم يدم طويلاً، إذ غادر المكان، ولكن من دون توديع، حيث الحرية، والأمل.

~ الزيارة الأولى ~

ولقد استمرت حالة الانقطاع هذه 40 يوما دون أن اعرف شيئا عما يجرى في العالم الخارجي من حولي وفى احد الأيام جاء الضابط المسؤول وقال:

هيئ نفسك لمواجهة عائلتك.

وعصبوا عيني كي لا أرى أحدا ووضعوا على راسي منشفة كي لا يراني احد وأخذوني إلى غرفة مدير السجن وهناك رأيت زوجتي وأطفالي, أن ضابط المخابرات محمد الدوري وهو المسؤول السابق عنى هو الذي ذهب إلى العائلة وأحضرهم لمواجهتي.

وحضرت المواجهة إحدى ضابطات المخابرات اسمها مائدة شاكر, حيث جلست بيني وبين زوجتي وكان عندها مسجل صغير في حقيبتها وكانت تجيد اللغة الإنجليزية وعلى ما يبدوا جلبوها لهذا الغرض لأحتمال أن نتحدث بهذه اللغة.

وبعد نصف ساعة قال الضابط:

المواجهة انتهت، وستكون المواجهة فى اليوم الثاني عشر من كل شهر.

وبالمناسبة من هي مائدة شاكر؟!

هي أخت وزير الداخلية يومذاك سعدون شاكر وكانت ضابطة مخابرات برتبة مقدم، وكان شعرها خفيفا أميل للصلع وكانت شرسة تضع مسدسها جنب ثديها، ومن شراستها أن احد الحراس أراد تفتيشها عند دخولها السجن لعدم معرفته بها فقالت له:

اذهب وناد مديرك.

جاء المدير – وهو يعرفها طبعا – فقالت له:

لماذا لا تؤدب حراسك؟

ثم صفعته صفعة قوية على خده وقالت له:

أدب حراسك ويجب ان يعرفوا مع من يتكلمون .

~ التهريب ~

وكما قال الضابط كانت الزيارات العائلية تتم مرة واحدة في الشهر وهو اليوم الثاني عشر من كل شهر، واخذوا يقلصون وقت الزيارة حتى أصبح 10 دقائق فقط، فماذا يستطيع الشخص أن يتحدث مع عائلته في هذا الوقت القصير مع وجود ضابطة وضابط مخابرات ؟ وكان واضحا هذه الممارسات كانت تهدف التضييق على انتقاما من رفضي التعاون مع السلطة.

وكانت العائلة تجلب لي في كل مرة صندوقا حافظا للبرودة يضعون الطعام فيه وفى الزيارة القادمة كانوا يجلبون صندوقا آخر ويستلمون الصندوق السابق، وهكذا أصبحت هذه المبادلة عادة فيما بيننا كما أصبحت طبيعية من وجهة نظر إدارة السجن، وفى إحدى الزيارات وحينما ودعت العائلة واحتضنت ابنتي الكبيرة زهراء همست في أذني – دون أن يلاحظها احد – قائلة:

بابا فتش الصندوق.

وحينما عدت إلى الزنزانة، فتحت براغي الصندوق فوجدت في داخله حاجات عديدة، منها ورق و قلم وأخبار.
وهكذا أصبحت الصناديق وسيلة لتهريب الرسائل والأخبار وكل شئ آخر من وإلى داخل السجن حتى هربوا لي في إحدى الزيارات جهاز راديو صغير أفادني كثيرا في الإطلاع على العالم الخارجي.

~ المفتاح ~

كان مفتاح الزنزانة عند ضابط المخابرات المسؤول، فهو الذي يفتح الزنزانة شخصيا وهو الذي يغلقها وهو الذي يجلب الطعام ولم يكن يسمح لسجين أو رجل امن أن يقوم بذلك.

لقد كان ذلك صعبا على ضابط المخابرات لان شرطي المخابرات يرى نفسه اكبر من الوزير فكيف بضابط مسؤول، ولكنها الأوامر العليا التي – على ما يبدو – كانت تشدد في اتخاذ كافة التدابير الأمنية لعزلي تماما عن الاتصال بأي شخص وعمل كل الاحتياطيات للمنع من وقوع عملية فرار احتمالية.

إلا أن فترة العزل هذه طالت لسنوات فتميعت الحالة، فاخذ الضابط الذي أرهقته هذه الحالة يعتمد على أفراد المخابرات بجلب الطعام وفتح وغلق الزنزانة واعتمد هؤلاء بمرور الزمن على رجال الخدمات الذين هم – كما أسلفنا – من المساجين تختارهم سلطات السجن للقيام بخدمات السجون فكان السجين ( حافظ ) والسجين ( على عريان ) يقومان بهذه المهمة ولان هؤلاء السجناء تختلف أخلاقياتهم عن ضباط المخابرات فقد عملت على توطيد علاقاتي معهم وبالذات مع على عريان الذي كان يبدى تعاطفا أكثر معي ويتودد إلي.

ومن هو على عريان ؟!

انه رجل من محافظة الناصرية كان منتميا إلى منظمة ( فتح ) الفلسطينية وفى سنة 1979م عندما انتصرت الثورة الإسلامية في إيران كانت علاقة ( فتح ) مع إيران جيدة وبالتالي فهي مع نظام صدام سيئة، وعندما عاد على عريان إلى العراق لزيارة عائلته القي القبض عليه بتهمة التجسس، وحينما اندلعت الحرب العراقية الإيرانية في سنة 1980 م انحاز ياسر عرفات إلى النظام الصدامي فتحسنت العلاقة بينهما وبالتالي ساءت مع القيادة الإيرانية، أن ذلك انعكس ايجابيا على علي عريان وتحسنت حالته كسجين ولكن مما حز في نفسه انه كان يرى على شاشة التلفزيون أن ياسر عرفات يحتضن صدام بكل ود، بينما جماعته يرزحون في السجون.

وكان رجال المخابرات يعتمدون عليه فكان يطبخ لهم ويقدم لهم الخدمات.
وبعد أن توطدت العلاقة بيني وبين علي عريان، وحينما لمس مظلوميتي وربما لأنه كان متعاطفا مع الثورة الإسلامية وبالتالي مع المجاهدين والإسلاميين العراقيين لذلك عرض على فكرة الهروب حيث بإمكانه أن يساعدني في ذلك لكنني بعد دراسة الموضوع والتفكير فيه أجلت الفكرة لان عومل نجاحها كانت قليلة، كما لم يكن التوقيت مناسبا إضافة إلى صعوبة إنقاذ العائلة بل كانت العملية تعرضهم إلى بطش النظام.
ولكن على عريان قام بعملية جريئة حيث أعطاني مفتاح الزنزانة فطبعت صورة منه على ورقة واستطاعت العائلة استنساخه خارج السجن فكان عندي مفتاح، وعند علي عريان مفتاح آخر إلا أنني لم استخدم المفتاح تحسبا لعواقب الأمور وكان ذلك في حدود سنة1987م.
وكان رجال المخابرات في العطل الرسمية يعطون مفاتيح الزنزانات لشرطة الشؤون الاجتماعية وكان احدهم اسمه (حموز) فكان يقول لي – وأنا في زنزانة انفرادية -:
دكتور، اليوم عطلة وأريد أن اذهب إلى عائلتي، فاسمح لي أن اجلب لك طعام وجبات اليوم لأني أريد أن ازور جدك الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام).
فكنت أقول له:
قل لجدي ابنك مسجون عندي فلا تخف عليه.

فكان (حموز) يتألم ويتأثر من هذه العبارة، لقد كان بعض السجانين من غير عناصر المخابرات والأمن يشعرون بمظلومية السجناء ويتعاطفون معهم ويودون أن يقدموا خدمة لهم، حتى أن احدهم اخذ يحضر لي الصحف اليومية وبعض الكتب كلما سنحت له الفرصة، رغم خطورة هذا العمل.
وفى سنة 1989م جاء رجال المخابرات وقالوا لي:
استعد للخروج فأخذوني إلى قاطع قريب من قسم المخابرات يسمى( التأهيلي ) ولم يكن يفصل بين القاطعين غير الممر.

الفصل الثامن : الانفراج

~ التأهيلي ~

ولأسباب لم اعرفها – وربما كانت أسباب فنية – نقلوني إلى هذا القسم الجديد التابع لقاطع(الأقسام المغلقة) وكانوا يسمونه (التأهيلي) وهو بالطبع يختلف عن (التأهيلي) الخاص بالأحداث والتابع للشؤون الاجتماعية.

وكان القسم الجديد يتكون من ثلاث غرف، وضعوني في واحدة منها على انفراد, وكان في الثانية خمسة سجناء وفى الثالثة سجين واحد أيضا اسمه (ع . ج) من محافظة الموصل.

ومع الانتقال إلى التأهيلي استطعت أن اهرب معي القلم والأوراق التي كانت عائلتي قد هربتها لي عن طريق الصندوق البراد، ولذلك بدأت – بعد التأقلم مع الجو والمكان الجديدين – بكتابة مواضيع مختلفة قصيرة على قصاصات ورقية تتحدث عن الصبر والمقاومة والتحدي وكذلك عن مواضيع تاريخية كقصص الحجاج بن يوسف الثقفي الذي كان مشابها لصدام في تعامله مع المؤمنين وعن الثورة الإسلامية والإمام الخميني .. وغيرها، وكنت ابعثها بطرق وأساليب مختلفة إلى السجناء الخمسة في الزنزانة المجاورة والى السجين السادس في الانفرادي وقد أدت هذه القصاصات إلى رفع معنويات السجناء والتخفيف عن آلامهم وزرعت فيهم الأمل بالله وبرحمته الواسعة.

~ النكتة السخيفة ~

كان حسام احد رجال الخدمات وهو طالب جامعي في السنة الثانية. وكان مسؤول الاتحاد الوطني لشعبته، وبالطبع عضوا في حزب السلطة.

إلا انه بالرغم من عضويته في الحزب كان محكوما بالسجن لمدة عشرين عاما في محكمة الثورة وذلك لأنه – كما قال – حكى لزملائه نكته ساخرة حول عزت الدوري نائب صدام حسين فكتب المخبرون تقريرا عن الموضوع فاعتقل وأودع السجن.

تحدث هذا الطالب عن قصته وقال:
حينما أرادوا اختياري للخدمات في السجن سألني الضابط، ماهي قضيتك ؟
فقلت له:
نكتة ساخرة حكيتها عن عزت الدوري.

فقال لي:

احكيها لي.

قلت له:

سيدي أنا حكيتها مرة حكمت 20 سنة فإذا حكيتها ثانية فحكمي إعدام، فأنا لن احكيها.

قال الضابط:

إذا لم تحكيها سأعذبك عذابا قاسيا ولما رفضت اخذ يعذبني عذابا شديدا حيث علقني بالصنارة وضربني ضربا مبرحا حتى وافقت فقلت له:

نعم سيدي أنا احكيها فلما أنزلني من الصنارة قلت له:

والله سيدي لا أستطيع أن احكيها، فقال:

اكتبها، فكتبتها وهو ينظر لها فقال لي:

ما هذه النكتة السخيفة، اجلس وأنا احكي لك النكات.

وفعلا اخذ يحكى لي طرائف ساخرة ولاذعة عن صدام حسين وعزت الدوري بحيث أخذت ارتجف خوفا.

كان حسام هذا يتألم من هذه الازدواجية لأنه حكى نكتة سخيفة عن عزت الدوري فحكم 20 سنة بينما هذا الضابط يحكى نكتا فضيعة عن صدام حسين وعزت الدوري وهو مطمئن.

~ توبة ~

في احد الأيام جاءني مفوض واسمه عباس وقال لي:

دكتور! بعد شهور سوف أتقاعد وأريدك تعلمني أحكام الصلاة والصوم لأني عندما أتقاعد سوف أتوب لله رب العالمين وأبدأ بالصلاة والصيام.
قلت له:
لماذا لا تبدأ الآن ؟
فقال :
ما دمت اعمل في جهاز الأمن فإن صلاتي لا تقبل !! فإذا أحلت على التقاعد فسوف أتوب توبة حقيقية.
قلت له:
ومن يضمن لك بأنك ستبقى حيا إلى أن تحال على التقاعد؟
فقال عباس:
هذى هي المشكلة أريدك أن تكون شاهد لي يوم القيامة أمام رب العالمين بأني أردت أن أتوب توبة حقيقية.

~ الشمس ~

وبعد فترة سمحت إدارة السجن بأن استخدم ثلاجة في الزنزانة مع جهاز تلفزيون كما سمحوا لي بالخروج يوميا ساعة واحدة للشمس إلا إنهم لم يسمحوا لي بالاختلاط مع بقية السجناء حيث كان هناك حاجز حديدي يفصل بين الساحة التي اخرج فيها هذه الساعة وبين الساحة التي يخرج فيها بقية السجناء ولكن كانت في الحاجز عدة ثقوب استطعت من خلالها أن ارتبط بالسجناء وأحدثهم واستمع إليهم بعيدا عن عيون الحراس.

~ آل الحكيم ~

كانت خارطة الأقسام المغلقه89-1990 م حيث نقلوني إليها للمرة الثانية، قد اختلفت عما كانت عليه في المرة الأولى (79- 1980 م) حيث أصبحت الآن تنقسم إلى سبعة أقسام وهى:
(1)القاطع الأول. (2) القاطع الثاني. (3) القاطع الثالث. (4) الجملون الثاني . (5) الجملون الثالث (6) الانفرادي (7) التاهيلى.

ولأسباب سياسية وضغوط دولية كانت الأقسام المغلقة قد فتحت وتحولت – في الواقع – أقساما مفتوحة وواجه السجناء عوائلهم وكان عددهم بحدود 1370 سجينا.

كان سجناء ( آل حكيم ) في القاطع الثاني ثم نقلوهم إلى التاهيلى حيث كنت مسجونا فيه وذلك بعد نقل سجناء الغرفتين الاخريتين إلى مكان آخر واحتجاز آل الحكيم فيهما، إلا أن إدارة السجن لم تسمح لي بالاختلاط بهم، بل بقيت مسجونا في غرفتي على انفراد ولكنها سمحت لي بذلك بعد فترة وبعد إصراري الكثير على المسؤولين.

وبعد فترة رفع الحاجز الحديدي الذي كان يفصل بين ساحة التاهيلى وساحة الأقسام الأخرى وقد عبر ذلك عن بداية مرحلة جديدة من الانفتاح.. وكان بالنسبة للسجناء بمثابة سقوط جدار برلين.

~ أفضل الفترات ~

لقد فرح السجناء الذين كانوا قاطبة من الإسلاميين بالتعرف على واللقاء بي لأنني كنت اعرف الكثير عن مصائر عدد من المعتقلين في فترة 79-1980 م والذين كانت أخبارهم مقطوعة عن عوائلهم ولذلك سألوني عن السجناء القدامى فحدثتهم بما كنت اعرف، كما حدثوني عما جرى على المؤمنين من الاعتقالات والإعدامات والمحن والأهوال خلال السنوات العشرة التي كنت مقطوعا فيها بشكل كامل عن مجتمع المؤمنين وحافل الإسلاميين.

وهكذا كانت الفترة هذه من أفضل فترات السجن بالنسبة لي حيث الانفراج وحرية العلاقات مع المؤمنين وان كان ذلك وراء القضبان الحديدية فكل شعبنا – حتى خارج المعتقل – كان سجين القهر والظلم والإذلال.

وهكذا أصبح السجناء يدعونني في غرفتهم لتناول وجبات الغذاء معهم فكل يوم في غرفة وكانت الأقسام تفتح في الصباح الباكر وتغلق عصرا ثم تمدد الوقت فكانت تغلق ليلا.

وكنت اخرج في الصباح الباكر مع بعض السجناء للهرولة والتمارين الرياضية، لقد تحسنت صحة السجناء وترتبت أمورهم وواجهوا عوائلهم ورفع الضغط عنهم فلم يبق أمامهم إلا أن يودعوا هذا السجن اللعين ليشاركوا عوائلهم المحن والاضطهاد في سجن العراق الكبير.

وخلال هذه الفترة حاولت استغلال الفرص للتزود من العلماء الذين كانوا معنا في المعتقل والقيام ببعض الأعمال والفعاليات الثقافية:

  1. كنت احضر دروسا عند أساتذة أكفاء منهم السيد صادق يوسف الحكيم والسيد رياض الحكيم والسيد جعفر الحكيم.
  2. وقد قمت بإعادة صياغة المسائل الشرعية – المسائل المنتخبة – للسيد الخوئي بأسلوب بسيط مفهوم لعامة الناس وقد راجع المسائل السيد جعفر الحكيم وقام السجناء باستنساخ هذه المسائل الشرعية باليد وإعطائها للعوائل للاستفادة منها خارج السجن.
  3. وكنت أقوم كذلك بتدريس بعض المواد العلمية للطلبة الجامعيين بهدف تنشيط ذاكرتهم العلمية .

~ روايات ~

وفى هذه الفترة حيث الانفراج والعلاقات المفتوحة والطبيعة مع السجناء وحيث غياب الضغوط والممنوعات كانت لنا فرصة التحدث مع بقية المعتقلين عن قضاياهم وما لاقوه من مر العذاب سواء خارج السجن أو داخله خلال السنوات العشر الماضية كما كنت مهتما بسماع روايات المعتقلين عما يرتبط بفضائع السجن وجرائم أجهزة الأمن والمخابرات بحق أبناء شعبنا المضطهد. واذكر هنا بعض النماذج مما تعرض له شعبنا المظلوم على أيدي جلاوزة صدام في سجون العراق:

أ – حتى الرضيع !!

حدثني (ع.ك) قائلاً :

سجنت في مركز تحقيقات المخابرات وهو مركز رهيب للتحقيق والتعذيب بناه الصرب اليوغسلاف لزميلهم صدام حسين، وكان في هذا المركز زنزانات مساحة كل زنزانة متر مربع واحد – أو أكثر بقليل – وكانت زنزانات مصبوغة باللون الأسود: الأرض.. الجدران .. السقف، ظلام دامس وزنزانات أخرى مصبوغة باللون الأحمر.

الأرض .. الجدران .. السقف ، وفيها حنفية ماء فإذا فتحت الحنفية ترى كأنك تسبح في بركة من الدماء. ثم أضاف (ع. ك):

أخرجوني في احد الأيام لتنظيف الممر رغم ما كنت أعانيه من آلام التعذيب، فرأيت امرأة يبدو عليها إنها من أهل الجنوب ومعها ثلاثة أطفال طفل رضيع وبنت عمرها 7 سنين وطفل عمره 4 سنين وبينما كنت أنظف الممر جاء ضابط وسأل المرأة:

أين زوجك؟

-: لا ادري عنه شيئا ولو كنت اعلم بمكانه لأخبرتكم به.

-: يجب أن تخبرينا.

فقالت له:

والله لا ادري عنه شيئا ولو كنت اعلم لأخبرتكم به، أن زوجي صاحب غيرة وحمية ولو علم بأن زوجته وأطفاله هنا لسلم نفسه.

سحب الضابط الطفلة ذات السبع سنوات من ظفيرتها الجميلة بقوة ووجه رصاصة لرأسها قضت عليها في اللحظة ثم ألقاها أمام أمها تسبح في دمائها ثم قال للام:

أين زوجك ؟

فدهشت المرأة وهى تصرخ: لا ادري.

سحب الضابط الطفل الرضيع من صدر أمه وضرب به الحائط فتناثر مخه، فالقاه في صدر الأم وهو يصر بكل برودة أعصاب:

أين زوجك ؟

صارت المرأة مدهوشة وشبه مجنونة وهى تردد:

لا ادري .. لا ادري حتى الدموع جفت من مقلتيها ولاكن هل اكتفى الضابط ؟

كلا .. مسك الضابط الطفل الثالث من رجله وبقوة ضربه الحائط فتهشمت جمجمته وتناثر مخه أيضا وهنا جنت المرأة حقيقة.

دخل الضابط غرفته ونادى على المنظفين أن احملوهم، فجاء المنظفون بعربة أوساخ ووضعوا فيها الأطفال الثلاثة وأمهم ونقلوهم.

ب – العقارب

ويروى(ع.ك) أيضا:

انه في احد الأيام ادخلونى في سرداب في مركز تحقيق المخابرات وكانت هناك مجموعة من الأقفاص تشبه أقفاص الحيوانات في ( حديقة الحيوانات )، أدخلونا في قفص أنا ورجل طاعن في السن وشاب وجاءنا ضابط المخابرات وقال:

سأعطي كل شخص منكم قلما ومن حقه أن يدافع عن نفسه ولكن إن قتل واحدة سأقتله برشاشتي هذه وسحب أقسامها مستعدا لإطلاق النار.

ثم فتح علبة فخرج منها عدد رهيب من العقارب الصغيرة وأخذت هذه العقارب تلدغ كل مكان تصل إليه : العين .. الأنف والأذن .. المناطق الحساسة، وبالرغم من أن لدغاتها لم تكن سامة إلا إنها كانت مؤذية جدا.

ثم أضاف (ع . ك):

كانت يدا الرجل الطاعن في السن ترتعشان فحينما أراد إبعاد العقارب عن عينه فانه فقأها وأنا لا أستطيع مساعدته لان العقارب دخلت أنفى وأذني وملأت جسمي ولا أدرى هل احمي نفسي أو أساعده.

ج – الكلاب

ويروى أيضا:

كان في إحدى الزنزانات كلاب وحشية مدربة على تعذيب البشر وكانت مربوطة بسلاسل ويوجد طوق حديدي على فمها يمنعها من عض الإنسان بأسنانها وكان طول السلسة بحيث يستطيع الكلب أن يصل إلى قرب الجدار بفاصلة حوالي 30 سنتيمترا وكانت هذه الكلاب تطلق على السجين الذي يأخذ بإلصاق ظهره بالجدار للخلاص منها وكان الكلب لا يستطيع أن يصل إليه إلا بمخالبه التي تبدأ بنهش السجين حتى يصبح قطعة من الدماء.

د – الحريق

وذكر احد السجناء قضية كان ضحيتها نائب ضابط وزوجته وهى:

حدث حريق في بيت نائب الضابط هذا فأصيب طفلاه بحروق في بدنيهما فنقلتهما أمهما إلى المستشفى لأن والدهما كان في وحدته العسكرية.

ذهبت الأم لتخبر زوجها عن بيتها وعن ولديها المحروقين واسمهما (قصي) و(عدي) انتظرت زوجها بالاستعلامات في وحدته العسكرية ولما جاء قالت له:

أبو عدي لقد احترق البيت واحترق قصي وعدي.

فتم اعتقالهما – أي الأب و الأم – فوراً لان (عدي) و (قصي) هما اسمان لولدي الرئيس صدام حسين فكيف تقول الأم لقد احترق عدي وقصي !

هـ – السنبلة الخضراء

اقتادوا للسجن مجموعه من طلاب المرحلة المتوسطة من إحدى مدارس البصرة وأذاقوهم مر العذاب ثم أودعوهم السجن، وسألناهم عن ( الجريمة ) التي ارتكبوها وهم مجموعة من الأحداث صغار السن ؟ .

فقالوا:

نحن أعضاء فريق رياضي في مدرستنا واسمنا ( فريق السنبلة الخضراء ) يشرف علينا معلم الرياضة وهو عميل لحزب السلطة وكان يؤذينا كثيرا ولم نكن نحبه، فكتب احدنا على ظهره عبارة ( هذا حمار) دون أن يشعر ولما اكتشف الأمر غضب علينا ورفع ضدنا تقريرا للأمن فاعتقلونا وجاءوا بنا إلى هنا.

و _ ببغاء الرئيس

في فترة من الفترات كان من برامج صدام الإعلامية هو القيام بافتتاح المعارض واللقاء بالأفراد المعدين سلفا لهذا الغرض وأمام كاميرات التلفزيون كان يقدم بعض المتملقين هدايا للسيد الرئيس (!) في عملية إعلامية لإظهار شعبية صدام.

وفى إحدى المرات قدمت بنت هدية للرئيس هي عبارة عن ببغاء ناطق كانت قد علمته عبارة (حبيبي صدام) وقد كرر الببغاء هذه العبارة أمام صدام وصورته عدسات التلفزيون.

في اليوم التالي وفى كلية العلوم كان الطلاب في إحدى الصفوف – وقد تأخر الأستاذ عن الحضور – يتمازحون فيما بينهم كعادة الشباب وفى هذه الأثناء قال احدهم مخاطبا صديقه، حبيبي علي بلهجة مشابهة للهجة الببغاء وضحك الجميع إشارة إلى ما شاهدوه في الليلة الماضية في التلفزيون.

ولما رفع المخبرون الموجودون عادة في كل مكان تقريرهم بشأن ما حدث، تم اعتقال جميع طلاب الصف من قبل أجهزة الأمن بتهمة الاستهزاء ببغاء يحب السيد الرئيس.

ز – الحلم = الإعدام

مجموعة شباب يسكنون في منطقة سكنية واحدة ويشكلون فيما بينهم فريق رياضيا لقضاء أوقات الفراغ وتبلغ أعمارهم بين 11 – 13 سنه رأى احدهم في الحلم انه قاد ثورة في العراق وأصبح رئيسا للجمهورية وعين أصدقاءه الأعضاء في الفريق وزراء في حكومته، فتحدث عن هذا الحلم لأصدقائه وتناقلته الألسن ولما عرف جهاز الأمن بذلك اعتقل الحالم وكل أعضاء الفريق.

وبعد العذاب الذي لاقوه، ساقوهم إلى محكمة الثورة برئاسة مسلم الجبوري.

وأثناء المحاكمة الصورية قال احد أعضاء الفريق:

سيدي، هذا هو الذي حلم فما ذنبي أنا ؟ أنا لم احلم بشئ ؟

صرخ مسلم الجبوري في وجهه قائلاً:

أخسأ .. يوجد بالعراق 16 مليون عراقي لماذا لم يحلم بهم وحلم بكم فقط .. انتم مجرمون أيضا.

وحكم مسلم الجبوري على أعضاء الفريق بالسجن المؤبد وعلى الحالم بالإعدام.

ح – الموز .. لا يفيد

معلق رياضي في التلفزيون يلقب بالبصري وهو ينتمي بالطبع لحزب السلطة، جاؤوا به إلى السجن مع أبنه، وأخضعوهما لصنوف التعذيب والتحقيق.

سألناه عن السبب، فقال:

أنا أدير برنامجاً رياضياً في التلفزيون أتحدث فيه عن أمور كثيرة تتعلق بالرياضة واللياقة البدنية، من ذلك برنامج التغذية السليمة حيث يسأل الناس عن فوائد المواد الغذائية، وأنا أجيب على أسئلتهم:
وفي احد البرامج جاءني سؤال عن فوائد ( الموز ) فتحدثت عن فوائده، وعن محتوياته ومكوناته من الفيتامينات كذا .. وكذا..

ومن سوء الصدف أن صداماً كان قد خرج في برنامج تلفزيوني دعائي وهو يخاطب العراقيين بأن يعطوا أبناءهم التمر لأن فيه الفوائد الكثيرة، و لا يعطوهم النستلة والموز، إذ لا فائدة فيهما أبداً.

و لأنني لم أكن قد شاهدت هذا البرنامج، فجاء حديثي عن فوائد الموز خيانة لا تغتفر، لأن السيد الرئيس يقول:

لا فائدة فيه، وأنت تقول: إنه مفيد.

~ غزو الكويت ~

وخلال فترة وجودي في القسم التأهيلي كان غزو صدام حسين للكويت في آب1990 م، وفوجئ العراقيون والعالم بذلك فرفقاء الأمس وشركاء الدم *(في أكثر من مرة سلّمت الكويت بعض العراقيين المعارضين لصدام، إلى الأجهزة الأمنية العراقية لتعدم البعض وتزج الآخرين في السجون، وكان معنا واحد منهم حكم وفق المادة 257 بالسجن المؤبد وهو من محافظة البصرة اسمه ” مصعب ” )

في حرب ضروس دامت ثمان سنوات يكافؤهم بغزو عسكري دنس العرض و الأرض، وقد كثرت التحليلات بين السجناء وتشعبت فمنهم من يعتقد بأن قرار احتلال الكويت هو قرار أمريكي وان التنفيذ هو صدامي ومنهم من يرى خلاف ذلك وأما رأيي فقد شرحته للسجناء حينما اجتمع عدد منهم حولي متسائلين عن تحليلي للأحداث فقلت لهم:

صحيح أن صداما لعب دورا رئيسيا لتنفيذ الخطط الأمريكية والغربية في مواجهة الثورة الإسلامية في إيران ومنع امتدادها وتأثيرها في العراق بشكل خاص وفي المنطقة العربية بشكل عام، ولكن لا يعنى ذلك أن صداما يبقى هو الرهان الوحيد للأمريكان والغرب لأن هؤلاء يعرفون بأن صداما يبقى هو الرهان الوحيد للأمريكان والغرب ، لأن هؤلاء يعرفون بأن صداماً هو إنسان غير متوازن عقليا وطموحاته الشخصية تتجاوز الحدود الطبيعية ومن الممكن أن يرتكب حماقة ويقوم بعمل آخر يربك أمن المنطقة وبالنتيجة يعتبر تهديدا للمصالح النفطية لان استخراج النفط وضخه يحتاج نوعا من الاستقرار السياسي والأمني بالمنطقة وأنا اعتقد أن صداما استنفذ دوره بالنسبة لأمريكا والغرب وهو يشعر بأنهم غير محتاجين إليه ولهذا ارتكب هذه الحماقة بالاعتداء على الكويت حتى يجعل العالم أمام واقع جديد ويخلق من نفسه قضية من غير الممكن تجاوزها أو القفز فوقها وبالنتيجة فان العالم العربي والعالم الغربي يجب أن يتعاملا معه ويعطياه موقعا خاصا وأنا اعتقد أن صداما بعنجهيته وتهوره لن ينسحب من الكويت ولا تهمه الخسائر أو تهديم البلد وتدمير اقتصاده وان أمريكا والغرب لن يتساهلوا في قضية الكويت لذا فان الحرب بين أمريكا والغرب من جهة وبين صدام حسين من جهة أخرى أمر حتمي .

كان هذا هو تحليلي لغزو الكويت في الأيام الأولى لوقوعه وقبل اشهر من الضربة الجوية ووقوع الحرب البرية.

~ الشيعة والغزو ~

ولكن ماذا كانت انعكاسات الغزو على السجناء؟ وكيف كان تعاملهم مع آثار الغزو؟ وماذا كانت مواقفهم؟ بل ماذا كانت مواقف الشيعة العراقيين بشكل عام من الحماقة الصدامية؟ هذه بعض الأمثلة

  • بعد أيام قليلة من الغزو امتلأت الأسواق العراقية بالبضائع المسروقة من الكويت وتبعا لذلك أخذت حوانيت السجن تعرض هذه البضائع أيضا إلا أن موقف السجناء وهم يمثلون خيرة أبناء الشعب العراقي ، كان الامتناع عن شراء أي حاجة من الحوائج المسروقة من الكويت وكانوا – خلال الزيارات العائلية – يوصون عوائلهم بذلك رغم الحاجة الماسة للكثير من هذه البضائع التي لم تكن متوفرة في السوق العراقية خلال سنوات الحرب الأولى.
  • وكمثال على هذا الموقف المشرف ، في إحدى أيام الزيارات المفتوحة جاء جندي عائد من الكويت لزيارة احد أقربائه في السجن ، فجاءني السجين مع الجندي يسألان عن حكم شرعي ، حيث كان الجندي حارسا لأحد البنوك الكويتية وقد تم إخلاء البنك من كل محتوياته من قبل قوات الحرس الجمهوري وقد وجد هذا الجندي صندوقا مملوء بالدنانير الكويتية فأخذه هو والحراس الذين معه ولم يسلموه للضابط المسؤول لأنه كان يصادرها ولم يكن الجندي قد تصرف بهذه الأموال وكان يسأل عن الحكم الشرعي وكيفية التصرف بها.
  • وبعد الغزو بأيام طلبت الأجهزة الأمنية من السجناء التطوع للحرب في الكويت فقسم من السجناء رفض صراحة القبول بهذا الأمر لأنه كان يرى فيه الذل والخنوع والخزي أما القسم الآخر فقد وافق على ذلك لأنه كان يرى فيه إمكانية الهروب من السجن دون الالتحاق بالجبهة.
  • ولأننا كنا في فترة الانفتاح عندما حدث الغزو فقد سمعنا بوجود حوالي 70 أسيرا كويتيا في قاطع المخابرات الذي كان – كما اشرنا سابقا – قاطعا مغلقا ومعزولا إلا أن الكثير من إخواننا السجناء كانوا يبذلون المستحيل لكي يوصلوا لهم بعض حصصهم الغذائية رغم أن هذا العمل لم يكن ليتم بسهولة ورغم ما كان فيه من المخاطر الجسيمة ، لأننا كنا نشعر بألمهم ونعرف إنهم مظلومون وأنهم لا يستطيعون تحمل المجاعة التي يواجهونها في قاطع المخابرات .. وبشكل عام كان هناك تعاطف كبير من قبل السجناء مع الأسرى الكويتيين.

~ وخارج السجن ~

كانت هذه نماذج حية من تعاطف العراقيين داخل السجون مع قضية الكويت أما في خارج السجن فلم يكن الأمر يختلف عن ذلك كثيرا..

· فقد شهدت الاهوار العراقية في الجنوب عمليات عسكرية كبيرة من العشائر العراقية الشيعية لعرقلة تقدم الجيش نحو الكويت.
. كما استشهد الكثير من المجاهدين الإسلاميين الشيعة في عمليات عسكرية لعرقلة خطط الجيش الصدامي.
· وبالرغم من أن الهروب من العسكرية كان جزاؤه الإعدام القطعي فإن 40% من أبناء الجيش من شباب الشيعة كانوا يهربون من وحداتهم لكي لا يدخلوا الكويت ويلوثوا أيديهم بدماء الأبرياء رغم انه لم تكن هناك أية مخاطر تهددهم في الفترة الأولى.

ورغم أن هذه المواقف لم تؤثر بالشكل المطلوب في إفشال خطط صدام الذي كان مجهزا بالآلة العسكرية والحزبية الضخمة وبنتائج الدعم الفني والعسكري والاقتصادي من أصدقائه الغربيين والعرب خلال الحرب مع إيران إلا إنها تعتبر مواقف مشرفة لشيعة العراق.

ولكن مع الأسف لم تقدر هذه الوقفة للشعب وإنما حملوا جميع تبعات جرائم صدام وحزبه وجهازه العسكري والأمني على الشعب العراقي بالمزيد من التنكيل به وتضييق الخناق عليه بدعوى محاصرة نظام صدام.

ومالا أستطيع القبول به هو الخلط بين النظام العراقي والشعب العراقي. فالغرب يتحدث عن العراق وكأنه عراق واحد فيربط مصير الشعب بصدام ويحمله تبعات جرائم صدام وهذا بذاته هو من اكبر الجرائم بحق الشعب العراقي وهو ما لا يغيظ صدام بل يرتاح إليه الطاغية.

أن اكبر ضحية لجرائم صدام هو الشعب العراقي وإذا كان هناك من هو جاد في الانتصار للشعب والتخلص من جرائم النظام الصدامي فعلية العمل للتخلص من الطاغوت وليس الضغط على الشعب.

~ الكمامات الواقية ~

وفى أيام الحرب أعلن صدام بشكل صريح عن امتلاكه للأسلحة الكيماوية وهدد بحرق نصف إسرائيل إذا قصفت بغداد.

وكان من ذي قبل قد استخدم السلاح الكيماوي ضد الشعب العراقي في شمال العراق واستخدمه أيضا في بعض المدن الإيرانية فكان من المتوقع أن يستخدم السلاح الكيماوي ضد إسرائيل وبذلك يتوفر لها فرصة لضرب الشعب العراقي وتكون ذريعتها أن صداما هو الذي بدأ ، وكنا نتوقع أن يكون سجن أبو غريب مستهدفا من قبل إسرائيل لتصفية الإسلاميين لذلك قمت بتصميم كمامات واقية من الغازات السامة وذلك باستخدام مواد بسيطة يمكن توفيرها في السجن و كانت المواد المستخدمة فيها عبارة عن :

  1. علبة فارغة، بلاستيكية أو زجاجية أو معدنية.
  2. أنبوب صغير كالذي يستخدم في تزريق المغذى المريض.
  3. فحم.

كما أعطيت المساجين بعض التعليمات الضرورية التي يجب إتباعها أثناء القصف الكيماوي وطلبت منهم سد النوافذ والشبابيك بالطين ووضع النايلون لمنع تسرب المواد الكيماوية والغازات السامة إلى داخل الزنزانات حد الإمكان.

الفصل التاسع : الخلاص

~ الانفتاح ~

كان الوضع متأزما وينذر بحرب كيماوية – ولو على مستوى الاعلام – وفتلت امريكا عضلاتها بقواتها الجبارة بعد ان تفردت بالقرار بعد انهيار المعسكر الاشتراكي.

لقد فرض الحصار الاقتصادى على الشعب الضحية وترك المجرم يرسل براكين كلامه .. ضد امريكا والغرب والعرب وكل العالم !! وارتفعت الاسعار بشكل رهيب.

لقد رفض صدام الانسحاب من الكويت واصر على قراره بابتلاع الكويت وبذلك وفر على امريكا فرصة ذهبية كى تقترب من خليج النفط وبقي الشعب الجريح يشم رائحة .. الخوف .. والبارود .. والدم .

لقد طلبت ادراة السجن من السجناء للتطوع لجبهة الحرب ، فصدق معظم السجناء ذلك واعتبروها فرصة للتخلص من السجن فأخرجوا حاجياتهم لعوائلهم اثناء المواجهات وكان بعض السجناء يمتلك ثلاجة وتلفزيونا وقد قمت شخصيا باخراج الثلاجة والتلفزيون وبعض الحاجيات الاخرى التى كنت وفرتها فى الفترة الاخيرة ولكن ليس لعائلتى وانما اعطيتها لعائلة فقيرة .

لقد كان هذا الامر طبيعيا ولم تسأل ادارة السجن السجناء عن سبب اخراج حوائجهم لأنهم – فى ظنها – سيتطوعون لجبهة الحرب ولا حاجة – اذن – اليها.

وفى منتصف شهر كانون الثانى سنة 1991 م حدثت الضربة الجوية فدمرت محطات الاذاعة والتلفزيون ومضخات الماء ومحطات الكهرباء فغاصت ليالي العراق فى ظلام دامس.
لقد كان الامر صعبا بالنسبة للعوائل وخاصة في المحافظات البعيدة فكيف تستطيع ان تأتى لزيارة السجناء بعد ان اصبح وقود السيارات نادرا جدا واسعاره مرتفعة.

لقد كان لكل سجين مواجهة واحدة بالشهر وقسم السجناء على أربع مجاميع بحيث تواجه كل مجموعة عوائلها في أسبوع وكانت بعض العوائل تواجه السجناء أكثر من مرة في كل شهر حيث تدخل باسم سجين آخر حلت مواجهته وكانت عائلتي إحدى هذه العوائل وعلى العموم كان رجال الأمن وشرطة الشؤون متساهلين في مسألة المواجهات ونستطيع أن نقول بأن حالة السجناء في هذه المرحلة كانت أفضل حالة مروا بها وقد سميت ( بمرحلة الانفتاح).

وكان من صور الانفتاح أن إدارة السجن مددت فترة بقاء السجناء في الساحة الرئيسية إلى مغيب الشمس وبعدها كان يتم إحصاء سجناء كل قسم في قسمهم وأحيانا كانت عملية الإحصاء غير دقيقة بل أحيانا كان السجناء يدخلون أقسامهم دون إحصاء وكانت عملية الإحصاء هذه بالتعداد، كما سمحوا لسجناء الأقسام المغلقة بمخالطة سجناء الأقسام المفتوحة من هنا كانت فرصتي الجديدة للقاء مع (على عريان) من جديد.

~ ونضجت الفكرة ~

وكما أشرت فأن علاقتي بعلي عريان تعود إلى فترة وجودي في زنزانة قسم المخابرات حيث عرض على فكرة الهروب من السجن وتعاون معي لاستنساخ مفتاح الزنزانة.. ولكن الظروف لم تكن تساعد على تطبيق الفكرة هناك.

ألا أن ظروف الانفتاح الجديدة التي يعيشها السجن حاليا واللقاء من جديد بعلي عريان دفعني لإنضاج الفكرة والعمل على ترجمتها إلى واقع عملي.

وقبل كل شئ ورغم الانفتاح الذي كان يحكم علاقات السجناء فيما بينهم حاولت إخفاء علاقتي الوطيدة بعلي عريان وعدم التجاهر بها وذلك تحسبا لوجود رقابة أمنية داخل السجن الأمر الذي كان يعرض فكرة الهروب للمخاطرة.

وبسبب ظروف الحرب الجوية وانشغال السلطة بمشاكلها وتحدياتها الجديدة كانت الحالة خارج السجن هي حالة انفلات امني حيث الظلام مطبق والإذاعة معطلة وعناصر السلطة في ذعر قاتل وأبناء الشعب يدفعون ثمنا باهضا عن حماقات النظام إذ البارجات الأمريكية تقذف صواريخها من البحر الأحمر وطائرات الشبح والطائرات العملاقة ترمي بحممها وتساعدها في الانتقام من الشعب الجريح طائرات الحلفاء بآلاف الطلعات التي تهدف تدمير كل البنى التحتية للاقتصاد والصناعة في العراق تحت لافتة الانتقام من صدام حسين.

إذن فالظروف خارج السجن مهيأة تماما كما أن الانفتاح داخل السجن يجعل فكرة الهرب سهلة التطبيق.

وفي إحدى اللقاءات الخاطفة قلت لعلى عريان:

أن فكرة الهروب آن أوان تنفيذها.

قال علي عُريان :

أنا على استعداد، ولكن … المشكلة تكمن بالوقود. إذ أن القصف الجوى من قبل القوات الأمريكية وحلفائها أدى إلى اختفاء البانزين من المحطات إلا نادرا وكان علينا أن نخطط جديا لتوفير الوقود قبل كل شئ .

~ الوقود ~

وهكذا بدأت أفكر بجد في الاستفادة من الفرصة السانحة التي قد لا تتكرر والتخطيط لعملية الهروب كانت العملية تتركز على:

  1. الوقود والسيارة.
    2.التوقيت .
    3.نقطة الاختفاء في بغداد.
    4.الدليل .

كان وصول علي عريان إلى موقف السيارات التابع للسجن لا يثير أية شبهة لأنه – كما قلنا – كان يعمل ضمن كادر الخدمات وكان يتمتع بحرية التحرك داخل الأقسام الخدمية التابعة للسجن، إلا أن المشكلة كانت في أن سيارات المخابرات كانت فارغة من الوقود وكان علينا توفير البنزين من خارج السجن.

إذن، نجاح العملية يتوقف على الوقود، ولكن مَن ؟

لم احتاج إلى الكثير من التفكير لحل المشكلة لأن الله قد هداني إلى الشخص الذي يساعدني في هذه النقطة.. انه ابن أختي السيد عماد الشهرستاني … شاب ذكي وجرئ وكنت أثق به تماما، كان في تلك الفترة يقضى فترة العسكرية الإجبارية، إلا انه كان قد حصل على إجازة لكي يزورني في السجن.

عرضت عليه فكرة توفير الوقود بأي شكل من الأشكال وجلبه إلى السجن بالاستفادة من حالة الانفتاح والتساهل والانفلات في إدارة السجن، وفعلا وافق عماد على التعاون وفي اليوم التالي جاء إلى السجن منتحلا صفة قريب احد السجناء الذي كان موعد زيارته في ذلك اليوم لأن موعد زيارتي هو يوم واحد في الشهر فقط.

جاء عماد إلى السجن ومعه الوقود المطلوب وجازف باصطحابه معه وحينما سألته الشرطة عن الغاية من اصطحاب الوقود معه قال لهم لقد سرق وقود سيارتي وهى في موقف السجن.. أن الوقود أصبح اليوم أغلى من الذهب سأخرجه معي بعد الزيارة ..

ورغم أن الشرطة قبلوا عذره، ولكنهم لم يسمحوا له بإدخال الوقود وقالوا له:

ممنوع.

وجاءني عماد قائلا .. أن الوقود موجود خارج السجن ومن الصعب على إدخاله إليكم.

استدعيت على عريان وبعد مداولة الأمر تم الاتفاق على ما يلي:

أن يأتي شخص آخر في المواجهة القادمة – غير الرسمية – لزيارة على عريان وينتحل صفة ضابط.
يعطى على عريان اسم هذا الضابط لاستعلامات السجن لكي يسمح له بالدخول ولكي لا تفتش سيارته تفتيشا دقيقا طالما انه ضابط.

يذهب على عريان إلى الموقف لاستقبال الضابط بعد أن يتم استدعاؤه من قبل شرطة الشؤون الاجتماعية ولأن على عريان كان يعامل معاملة خاصة لأنه ( خدمات ) فقد كان كل هذا التخطيط عمليا.

ثم يجلس على عريان عدة دقائق مع الزائر ثم يستلم منه الوقود مع حاجات أخرى للتمويه.

وهكذا اخذ عماد اسم الضابط المتفق عليه وخرج من السجن لتنفيذ الخطة.

وخارج السجن التقى عماد بصديقه (ل.ك) الذي كان هو الآخر يرغب في الهروب إلى إيران وقال له:

أن رغبتك تتفق مع رغبتي في اللجوء إلى إيران ولكن الأمر يتوقف على هروب احد السجناء من السجن، وان ذلك لا يتم إلا بإيصال كمية من الوقود إلى داخل السجن وذلك بانتحال صفة ضابط.

وشرح عماد لصديقه الطريقة دون أن يطلعه على التفاصيل التي لا ترتبط به، كما انه لم يذكر أسمى رغم أن الشخص كان يعرفني وذلك تحسبا لأية مشاكل محتملة، ورسم له طريق السجن والموقف.

ولكن عماد لم يضغط على صديقه وترك له الخيار وقال له:

أخي إذا كنت مترددا أو لم يكن لديك استعداد لإنجاز الخطة، أرجو أن تقول ذلك بدون خجل أو إحراج.

فقال ( ل. ك ):

دعني أفكر لأن المسألة صعبة ، سجن .. وقود .. ضابط .. هروب.

قال له عماد:

المسألة بسيطة ولا توجد فيها مجازفة أنت تدخل بصفة ضابط ويأتي السجين لاستلام الوقود بعد أن تجلس معه دقائق كي لا يثير الشكوك، وكل ذلك ممكن لأن الظروف الآن مختلفة، والسجن يخضع لحالة من الانفتاح والتساهل والانفلات.

في اليوم التالي وافق (ل.ك) على هذه المهمة وهو لا يعلم بأنه يقوم بالمشاركة في تنفيذ اخطر عملية هروب من سجون العراق.

طلب ( ل.ك) من السيد عماد أن يرافقه إلى السجن لكن عماد قال له :
إن شكلي معروف لديهم ، لكنى انتظرك عند مفرق خان ضارى القريب من أبو غريب .

وفي المواجهة القادمة توكل (ل.ك) على الله وارتدى ملابس الضباط وجاء إلى الاستعلامات بصفة ضابط يريد أن يواجه السجين على عريان ، فسمحوا له بالدخول لأن اسمه كان عندهم – حسب الخطة المتفق عليها –

ومن جهته، تصرف على عريان وفق بنود الخطة ، والتقى بصديقه الضابط (!) وبعد دقائق من تبادل الأحاديث والمفاكهة، استلم الوقود مع بعض الحاجيات الأخرى للتغطية، وودع صديقه الذي غادر المكان بسلام وهكذا تم إنجاز أهم ركيزة من ركائز العملية بنجاح.

والطريف هنا أن ( ل.ك) عندما غادر السجن والتقى بالسيد عماد عند مفرق خان ضارى قال له، لم أكن ادري بأن العملية بهذه السهولة ولو كنت اعرف ذلك لهربت الدكتور حسين ! دون أن يعرف أن مهمته هذه كانت أهم مساهمة في عملية هروبي من السجن .

~ التوقيت ~

وبعد توفير الوقود اللازم وتكفل على عريان بتوفير واحدة من سيارات المخابرات المتوقفة في الموقف لسهولة تردده على كل أقسام السجن لأنه من كادر( الخدمات)، انتقلنا إلى موضوع توقيت العملية.

وفى تحديد الوقت كان يجب الاتفاق مع عماد الذي هو خارج السجن بالإضافة إلى على عريان، ذلك لان عماد كان – حسب الخطة – مسؤولا عن تهيئة بيت سرى ينقل إليه العائلة في اليوم المحدد بينما ينتظرنا هو في مكان سري أخر لكي نواصل العملية بعد الهروب من السجن الصغير للهروب من السجن الكبير.

وفى 12 شباط – الموعد الشهري لزيارتي العائلية -، زارتني أم زهراء مع الأطفال وكانت زيارة مفتوحة ومريحة جدا بسبب الجو الذي كان يحكم السجن من الانفراج والانفتاح النسبي، وجلبت أم زهراء معها حوالى300 كيلو غرام من التمر أعطيته لرجال الخدمات فوزعوها على السجناء.
وفى هذا اللقاء أخبرت أم زهراء بإيجاز بأننا نعد لعملية هروب من السجن وعليها الاستعداد للالتحاق بنا في أي لحظة ، وان السيد عماد سوف يخبرها بالتفاصيل وينسق معها حول الزمان والمكان.

وفي اليوم التالي( 13شباط 1991 م، المصادف 27 رجب ) زارني السيد عماد – حسب الاتفاق المسبق – ولكن بذريعة زيارة سجين آخر وتم الاتفاق على التوقيت التالي:

أفضل وقت للهروب من السجن هو حوالي الساعة السابعة مساء ( من نفس اليوم 13 شباط ) حيث يذهب رجال المخابرات إلى غرف النوم بعد تناول وجبة العشاء، أما موعد الوصول إلى البيت السري حيث ينتظرنا عماد والعائلة فهو بين الساعة الثامنة والعاشرة ليلا، وأعطاني عماد خارطة دقيقة بالمنطقة والمكان السري المتفق عليه.

~ الدليل~

لقد حلت أهم مشكلة وهى مشكلة الوقود واتفقنا على ساعة الصفر كما تم الاتفاق على كل التفاصيل المتعلقة بخارج السجن مع السيد عماد وأخبرت العائلة ولم تبق على لحظة الانطلاق إلا ساعات.

إلا أن المشكلة التي جابهتني هي عدم وجود دليل من سجناء الأقسام المغلقة اعتمد عليه لكي يهربنا إلى إيران، فسجناء المغلقة مضى على كل واحد منهم أكثر من 10 سنوات وهو في السجن، ولا شك أن معالم القرى والمناطق قد تغيرت خلال هذه الفترة فلا يمكن الاعتماد على شخص يحمل معلومات قديمة عن الطريق الذي يجب سلوكه للوصول للحدود.

وناقشت الموضوع مع على عريان وبعد المداولة قال:

أن احد سجناء الأقسام المفتوحة واسمه ( صباح أبو فاطمة ) كان جنديا في شمال العراق وعنده أصدقاء من الأكراد ومن الممكن أن يكون دليلا لنا.

فقلت له:

كلمه حول الموضوع، ولكن لا تخبره عن هويات الأشخاص.

وسرعان ما وافق صباح على الفكرة وتقرر الالتحاق بنا في ساعة الصفر.

~ الرابع ~

وبلطف الله عز وجل، ترتبت كل الأمور فسيارة المخابرات جاهزة في موقف سيارات السجن، والوقود حصلنا عليه بفضل مجازفات عماد وصديقه (ل.ك) والتوقيت تم الاتفاق عليه، كما أن مكان الاختفاء حدده لنا عماد، والدليل وافق على الالتحاق بنا، إلا أن السيارة كانت تستوعب شخصا آخر فعز على أن اخرج بها وهى تسع لشخص آخر، لذلك قلت للسيد جعفر الحكيم الذي كان قد طرح على في فترة سابقة فكرة الهروب من السجن:

هل تتذكر حينما سألتني مرة عن الهروب!؟

قال:

نعم.

فقلت له:

ستنفذ العملية في مساء اليوم فإذا كان لديك الاستعداد اخبرني.

وجاءت الفكرة مفاجأة للسيد جعفر وبقي متحيرا لفترة من الوقت، ثم قال:

سأستخير الله.

فاستخار الله بالقرآن الكريم فجاءت الآية الأولى من سورة الإسراء:

}سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } فاستبشر السيد الحكيم بهذا الإسراء وقال:

أنا معك.

وبهذا أصبح عدد الأشخاص أربعة: السيد جعفر الحكيم وعلى عريان وصباح وأنا .

~ ساعة الصفر ~

انتظرنا حلول الظلام وقبل أن تجري عملية التعداد، خرجنا إلى الأقسام المفتوحة أنا والسيد جعفر، ولم يكن الأمر يدعو للشك ففي تلك الفترة كانت الزيارات بين سجناء كل الأقسام عادية، ثم توجهنا إلى مكان ( صباح ) وكان عنده سرير فجلسنا عنده، وفهم السجناء وجودنا هناك على إنها دعوة لتناول وجبة العشاء، وجرت عملية التعداد ولم يكن هم الإدارة في تلك المرحلة معرفة من زار من إنما همهم أن لا يهرب السجين ولم تكن عملية التعداد إلا روتينية غير دقيقة. وبعد أن جرت عملية التعداد وكان تعداد الأقسام المفتوحة قبل تعداد الأقسام المغلقة – خرجنا، فاعتقد السجناء بأنا رجعنا إلى أقسامنا ولكنا – في الحقيقة – توجهنا حسب الخطة المتفق عليها نحو مخزن بجانب المطبخ الذي يطبخ فيه علي عريان لرجال المخابرات ويقع هذا المخزن أمام موقف سيارات المخابرات ، وفتح على عريان الباب ودخلنا دون أن يشعر بهذه الحركة أي واحد من السجناء أو الشرطة ، وتوجه علي نحو المطبخ لإعداد عشاء المخابرات على أن يعود بعد الساعة السابعة ، بعدما يتناول رجال المخابرات عشاءهم ويذهبون إلى غرفة نومهم .

~ بين الخوف والرجاء ~

بقينا في هذا المكان المظلم ونحن لا ندرى ما يجرى خارجه ولا شئ يشد من أزرنا سوى التوكل على الله والثقة به، فقد يكتشف امرنا نتيجة عملية التعداد، فهذا الاحتمال لم يكن ملغيا، وقد يسأل عنا رجال الخدمات سؤالاً عادياً فيفتضح أمرنا، وقد يسأل عنا رجال الأمن أو شرطة الشؤون الاجتماعية من باب المصادفة فتنكشف الخطة، كل الاحتمالات واردة إلا أن الاستعانة بالله كانت تبعث في قلوبنا الطمأنينة.

لا شك أن الذي يحدد المصير هو عقارب الساعة وعودة السجين الجريء علي عريان وفي مثل هذه الحالات يكون الوقت أثقل شيء على قلب الإنسان وهنا يشعر الإنسان بقيمة الزمن.

لقد أخذنا نكرر النظر إلى ساعاتنا كلما تقترب عقاربها نحو السابعة، ولم يقطعها إلا الدعاء أو النظر إلى الباب فيا ترى هل سيعود على عريان ؟ و إذا لم يعد، لم؟ وماذا سنفعل ؟

إنها أسئلة صعبة تتراكض في رؤوسنا والليل بهيم، والسكوت مطبق إلا من صواريخ الحرب الجهنمية، والمصير المجهول، والدعاء والتوكل على الله وتفويض الأمر إليه هي أمور تعيد الأمل لنا وتزرع الطمأنينة في نفوسنا.

} رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } كانت الآية الكريمة التي أكررها باستمرار .

وحلت الساعة السابعة، ومرت الدقائق.. عشر دقائق .. عشرون دقيقة.. وكل واحد منا يطمئن الآخر: قريبا سيعود علي . ومرت ثلاثون دقيقة .. خمسون .. حلت الثامنة .. يا رب ! لماذا هذا التأخير؟ وما الذي يحدث خارج الجدران الأربعة التي سجنا أنفسنا بينها …

ونبضات القلوب تتسارع .. نكاد نسمع صوت دقاتها المتوترة .. لا يهدئ من روعنا إلا ذكر الله عز وجل والاستسلام لقضاء الله وقدره ..

واقتربت الساعة التاسعة..

وتجاوزت .. ووصلت العقارب إلى التاسعة والنصف.. وأربعين دقيقة .. وخمسين دقيقة ..

لقد حلت الساعة العاشرة ولم يعد على عريان فتراكمت في رؤوسنا أسئلة وهواجس وأفكار وانقطاع،فيا ترى هل يقدر الزمن بثمن ؟ وكم تفشل أمور حاسمة بسبب التفسير الخاطىء للزمن وللأحداث !! في مثل هذه الحالات يعرف الإنسان قيمة التوكل على الله.

وبعد العاشرة جاء على عريان بعد أن كادت قلوبنا تتفجر من القلق وتبين إن رجال المخابرات بعدما تناولوا وجبة العشاء ، بدل أن يذهبوا – كعادتهم اليومية – إلى نومهم وكوابيسهم اخذوا يلعبون الورق ، وبعدما خرجوا جاء على عريان حيث نبذ القيود ومغادرة السدود وأمل الحرية يراود الجميع .

~ الانطلاق ~

لبست قميصا عسكريا – كان قد أعده على عريان – كالذي يرتديه رجال المخابرات مع لفاف زيتوني أدرته على وجهي وكأني ضابط مخابرات وصعدنا السيارة واخذ على عريان يقودها وجلس السيد جعفر وصباح في الخلف وانطلقت السيارة:

} بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }.

وحينما وصلنا إلى باب (الخاصة) وهى الباب المهمة التي يستخدمها الضباط ورجال المخابرات، وجه الحارس الضوء نحونا وأراد أن ينظر إلى داخل السيارة للاطمئنان فقلت له بلهجة الآمر:

ابتعد، اذهب وافتح الباب وأربكه علي عريان بتغيير ضوء السيارة بين العالي والواطئ في وجهه.

فعلا ذهب الحارس طائعا لضباط المخابرات !! وفتح الباب وهو لا يعلم بأنه فتح باب الحرية في وجوهنا.

بعد هذا الباب يوجد بابان آخران ليس رئيسيين ولا يفتش حراسهما السيارات بدقة وخاصة السيارات المعروفة لديهم، ولما اقتربنا من الباب الأول نظر الحارس فرأى سيارة مخابرات ودون أن يكلف نفسه عناء التفتيش قام وفتح الباب بعدما أدى التحية، أما الباب الثاني فلم يكن فتحه بأصعب من الأول، فخرجنا بلطف الله عز وجل وبسلام وشممنا أول نسمة للحرية بعد قهر السجون وآلام التعذيب والاضطهاد. وقد آنستنا نسمة الحرية خطر المتوقعات والمصير المجهول، ولم نكن نخشى من نقاط التفتيش ( السيطرات) داخل المدينة وذلك بسبب تدمير محطات الاتصال ، فليس بإمكان إدارة السجن الاتصال بأي سيطرة كانت إلا عن طريق مفارز المتابعة ، وهذا أمر يطول ويستغرق زمنا طويلا .

~ البيت السري ~

كانت السيارة تنطلق بقيادة علي عريان، وكانت تشق الظلام الدامس، والصمت الرهيب الذي كان يلف بغداد – الحرب – باتجاه البيت السري حيث ينتظرنا السيد عماد ، والأخ (ل. ك) وكان يغمرنا الأمل بالله الذي وفقنا للنجاح في الخطوة الأولى ..

وفي الطريق وجدت الكثير من معالم المناطق المختلفة قد تغيرت خلال السنوات العشرة التي اغتصبها منى نظام صدام حسين وراء القضبان الحديدية..

وكانت الشوارع تغوص في ظلام مطبق بسبب أجواء الحرب، وكانت المدينة خالية تماما من البشر إلا من عيون تزرع الرعب في البلاد وتبطش بأبناء الشعب.

وصلنا إلى مدينة المنصور وبالرغم من إنها منطقة سكني إلا أنها كانت متغيرة عن السابق كثيرا ولأن الظلام كان يلف كل مكان فلم اهتد إلى العنوان المقصود وحينما مرت السيارة أمام أسواق (اورزدي باك) لمحت من بعيد سيارة نجدة تقف بجانب الشارع – عرفت فيما بعد إنها كانت تابعة للقصر الجمهوري – وتراقب المنطقة حيث مدينة المنصور يسكنها الكثير من المسؤولين الحكوميين، فقلت لعلي:

هذه السيارة هي سيارة شرطه أو امن أو مخابرات اقترب منها دون خوف.

وفعلا أوقف علي السيارة بالقرب من سيارة النجدة فأنزلت الزجاج وناديت احدهم:

رفيق ! – هكذا ينادى عناصر النظام بعضهم بعضاً -.

وجاء ذلك الرفيق !! ملبيا النداء فلما لاحظ سيارة المخابرات حيانا تحية عسكرية وقال:

نعم سيدي.

قلت له:

عندنا عنوان و نبحث عنه ولم نجده.

فقال الرفيق:

هل تسمح لي سيدي بان أأتي معكم لأدلكم عليه ؟

قلت:

لا، ولكن دلنا عليه من هنا.

فقال الرفيق:

انه في هذا الفرع.

لقد كنا قريبين تماما من المكان المقصود ولما وصلنا المكان نزلت من السيارة وطرقت الباب.

ولكن عماداً وصديقة (ل. ك) لم يفتحا الباب لأنهما كانا نائمين فقد انتظرا من الساعة الثامنة إلى العاشرة ولما لم نصل ذهب عماد إلى البيت السري الآخر واخبر أم زهراء بعدم مجيء احد لكي تستعد للاحتمالات المتوقعة.

بعد ذلك رجع عماد وكانت عقارب الساعة تشير إلى منتصف الليل فاستسلم هو وصديقه إلى الكرى، لعل الصباح يحمل إليهما تباشير الخير.

وهكذا جلسنا في السيارة بانتظار استيقاظ الرجلين، وفي الساعة الثانية والدقيقة الخامسة عشرة اهتزت المنطقة بسبب انفجار صاروخ سقط في إحدى ضواحي العاصمة،ويبدو أن هزة الانفجار ايقضت الرجلين ، فلمحت من وراء زجاجات البيت نورا خافتا – وكأنه ضوء فانوس يدوي – يتحرك في الداخل فأسرعت إلى طرق الباب من جديد ففتح الباب (ل. ك) الذي ما أن شاهدني حتى نادى على صديقة عماد:

عماد .. عماد .. لقد جاء الدكتور.

وهرع عماد ويغمره فرح عارم .. وكله استفسار: لماذا التأخير؟ لقد كاد يقتلنا القلق على مصيركم! ؟

ولكن لم يكن الوقت .. وقت السؤال والجواب .. وطلبت من الأخوة المرافقين الترجل من السيارة ودخول البيت بهدوء والمبادرة إلى حلق اللحى وارتداء الأطقم العسكرية التي كان قد احضرها عماد من ذي قبل واستلام بطاقات الهوية المزورة.

~ الوفاء ~

تركت الأخوة الأربعة؛ السيد جعفر الحكيم وصباح وعلى عريان و(ل. ك) في البيت وغادرت المكان بصحبة عماد باتجاه البيت السري الآخر الذي كانت تنتظرني فيه أم زهراء مع الأطفال على أحر من الجمر..

وكانت لحظات اللقاء مع شريكة الحياة .. شريكة المحنة .. شريكة الصمود والمقاومة والتحدي ..

زوجتي التي تحملت خلال أكثر من احد عشر عاما ما ينوء عن تحمله الكثير من الرجال .. كانت هذه اللحظات من أجمل لحظات الحياة التي وهبها الله تعالى بلطفه وكرمه لنا.

هل حقا نحن نلتقي خارج القضبان ومن عيون السجانين والمخابرات ؟ هل ما يجرى هو في اليقظة حقا أم في المنام ؟ كيف يستطيع من وقع في قبضة نظام البطش وأجهزة القمع والاضطهاد أن يحدث نفسه بنسيم الحرية من جديد؟ ولكن هذا هو ما حدث لنا، وما هي إلا إرادة الله العزيز التي هي فوق كل جبار وطاغية.

لم يكن أمامنا وقت كثير .. علينا أن نستفيد من حلكة الظلام المطبق لمواصلة الطريق.. وجمعت أم زهراء بعض الحاجات الضرورية وركبنا السيارة مع الأطفال عائدين إلى الأخوة الأربعة الذين كانوا مستعدين للانطلاق إلى الحرية.

~ وداعاَ بغداد ~

صعد السيد جعفر وعلى عريان وصباح ( أبو فاطمة ) و(ل. ك) في سيارة المخابرات التي كانت من صنف(لاند كروز) وصعدت مع أفراد العائلة والسيد عماد في سيارته الخاصة ، وانطلقت السيارتان وعلى مفرق الخط السريع الذي يؤدى إلى مدينة الشعلة تركنا سيارة المخابرات باتجاه مدينة الكاظمية لاحتمال متابعتها من قبل الأجهزة الأمنية ،كما أن هذا الموقع كان يموه على المكان السري الذي انطلقنا منه والمكان الي نتجه إليه.

ترجل الأربعة من سيارة المخابرات، وركبوا في سيارة عماد، فأصبح العدد عشرة، ولم تكن السيارة تسع لهذا العدد كما أن مظهرها كان يثير الريبة ومما يزيد الخطورة هو وجود عدد من السيطرات الأمنية (نقاط التفتيش) في الطريق، خاصة وان الظلام اخذ بالانجلاء وبدأت الزرقة تبتسم في كبد السماء.

لذلك، قال عماد:

سأوصلكم إلى شارع كركوك، وانزل أنا وصديقي ( ل. ك) قبل نقطة تفتيش بعقوبة *( تعتبر نقطة تفتيش بعقوبة، أو ( سيطرة بعقوبة ) كما يطلق عليها في العراق من أخطر السيطرات الأمنية، وفي سنين مضت ألقي القبض فيها على المئات، وأرسلوا إلى طاحونة الإعدام )
ويكون موعدنا في موقف سيارات كركوك عند الساعة 12 ظهرا، وإذا لم نتمكن من الوصول بسبب مشكلة السيارات انتظرونا بعد كل ساعتين من الوقت المحدد.

وفعلاً نزل الصديقان الجريئان، وانطلقت السيارة يقودها السجين الحر علي عريان، مستبشرا بانتصارنا على كل الأطواق الحديدية التي كان النظام قد ضربها حولنا، مزهوا بجرأته مع أصدقائه، شاكرا الباري على ألطافه وشآبيب رحمته.

~ صلاة الشكر ~

وكان أهم ما اتفقنا عليه قبل الخروج من السجن هو أن تكون المجموعة طوال فترة الهروب على رأى واحد ذلك لأن الاختلاف يفسد الخطة وقد يؤدي بنا جميعا إلى التهلكة، وفعلاً تم اتفاق الأخوة على أن أكون قائد المجموعة و أن يكون رأيي هو القرار النهائي. لذلك عندما اجتزنا السيطرة الأمنية الخطرة .. سيطرة بعقوبة، تلوت هذه الآية المباركة } وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ { ثم قلت لهم:

نترجل هنا ونصلى صلاة الصبح.
وبعد أداء صلاة الصبح ، قلت لهم : نصلى صلاة الشكر .
فقال الأخوة:
دكتور! ليس الآن وقتها .. أمامنا متسع من الوقت.
فقلت لهم:
ليس وقت نقاش، نصلى يعنى نصلى. الم نتفق على أن لا نختلف في الرأي؟

وفعلا صلينا صلاة الشكر وقد ربط الله على قلوبنا وانزل سكينته علينا { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } .
فلم نضطرب ونحن نخرج من السجن .. ولم نرتجف ونحن نسأل رجال الأمن عن عنوان الموقع السري .. ولم نرتبك ونحن نمر من اخطر نقاط التفتيش في بلد القمع والاضطهاد .. وكنا دائماً نتلو الآيات القرآنية ، وندعو بالأدعية المأثورة.

إنها نِعَم ربّانية و ألطاف إلهية، كل هذا المسلسل يمر من أمام أعين النظام ونحن في قبضته ، ولم يسألنا أحد ، ولم يشك بنا شاك ، إنها المشيئة الربانية والإرادة الإلهية حيث الكل في قبضته ولن يتخلى – سبحانه – عن عباده المخلصين.

الفصل العاشر : في كركوك

~ نكسة ~

وصلنا إلى كركوك بسلام، دون أن نواجه في الطريق صعوبة تذكر، واتجهنا إلى بيت صديق (صباح) لكي نطلب منه المساعدة للوصول إلى إيران، إلا انه لم يكون موجودا في البيت، بل كان خارج مدينة كركوك، ولم يكون من المعلوم موعد رجوعه، وكانت هذه العقبة الأولى التي نواجهها، وكان علينا تجاوزها بالتوكل على الله والتفكير والتخطيط السليمين.

واتفقنا على استئجار منزل للاستراحة فيه ريثما تترتب الأمور بالحكمة والتدبير، وفعلا استأجرنا منزلا صغيرا كانت صاحبته امرأة عرفت نفسها بأنها مفتشة في التربية ( ومن المعلوم أن المفتش هو عضو في حزب السلطة ) وأنها أيضاً من أعضاء اتحاد نساء كركوك، ثم أخذت تسأل أم زهراء عن أشياء مختلفة، وكنت أنا الذي أجيبها وتظاهرت أم زهراء بالخرس، لأنها لو كانت تتكلم تعرف من لهجتها بأنها أجنبية، وكان هذا يثير الشك، إذ كانوا يتوقعون إنها هاربة حيث كان صدام يحتجز عددا من الأجانب كرهائن، وهنالك قانون يعاقب من يأوي أجنبيا.

لقد أخذت المرأة تلح بالأسئلة:

-: من أي مدينة أنتم؟

أجبتها: من بغداد، وقد جئنا نتيجة القصف الشديد.
-: ومن أي منطقة؟

-: من منطقة *(من الصدف أن أمريكا كانت قد قصفت – قبل يوم واحد – ملجأ العامرية وراح ضحيته العشرات)

وهنا أخذت تسأل عن عنوان المنزل لأن أختها تسكن في منطقة العامرية ، وهي خائفة عليها ، لأن أمريكا قصفت الملجأ حيث يختبىء فيه عدد من مسؤولي النظام.

وكنت اعرف قبل الاعتقال بوجود جسر في العامرية، فقلت قرب الجسر!!
قالت:

أي جسر؟

وتبين أن جسراً آخر أنشىء في هذه المنطقة في فترة اعتقالي ولم أكن أعرف بذلك.
لقد أخذت المرأة تلح بالأسئلة وتركز على أم زهراء فرأيت أن البقاء في هذا البيت غير مأمون العواقب، لذلك أعطيت لصاحبة الدار مبلغا من المال كمقدمة – لإيهامها بالبقاء – وقلت لها:

سوف نذهب إلى السوق لشراء بعض الحاجات وبعدها نعود.

وخرجنا من البيت دون عودة، وتخلصنا من فضول المرأة التي كادت تعرض الخطة لخطر الانكشاف.

وفي موقف كركوك وصل عماد مع صديقة ( ل . ك ) في الوقت المحدد وكان السيد جعفر و معه ابني محمد إبراهيم ينتظرانهما وهكذا اجتمع شمل الجميع.

، أن كركوك هي مركز استخبارات الشمال، وتكثر فيها العناصر الحزبية والأجهزة الأمنية الأخرى، كما أن قربها من بغداد قد يشجع النظام على إرسال دوريات متابعة.

لذلك قررنا الذهاب إلى مدينة السليمانية التي تقع في شمال العراق ويقطنها الأكراد، وسلطة النظام فيها اضعف منها في كركوك، ولأنها مدينة حدودية مع إيران، كما أن ( صباح ) كان جنديا فيها فقد يهتدي لطريق أو لشخص يوصلنا إلى إيران.

لقد تواعدنا مع عماد عند جسر السليمانية فانطلقت سيارتنا يقودها علي عريان، بينما استقل عماد وصديقه سيارة نقل عامة لنقل الركاب.
وحينما وصلت سيارتنا إلى نقطة السيطرة العسكرية فأن الانضباط العسكري أوقفها، ولكنه رأى باقة ورد عند ابنتي مريم فقال:

إنها أزهار جميلة.

فتناول علي الباقة وأعطاها للعسكري، فأخذها وانشغل بجمالها وشم عطرها عن السؤال والتفتيش وقال:

اذهبوا.

الفصل الحادي عشر : إلى الحرية

~ الرجل النبيل ~

وصلنا مدينة السليمانية عند الغروب، وكذلك وصلنا عماد والتقينا عند الجسر فقال عماد:

أن وجودنا معكم قد يثير الشبهة، فالسيارة لا تتسع لعددنا، وان ملابسي عسكرية، لذا أرى انه من الأفضل أن اذهب أنا وصديقي إلى احد الفنادق الذي اعرف مديره ولا يطالبني بورقة مبيت من الاستخبارات، ونلتقي غدا إن شاء الله أمام الفندق الساعة 9 صباحا.

لقد كان موقفي صعبا، فأين نتجه وأين نبيت الليل ؟ هذا وقد حل الظلام … وأجهزة النظام تزرع الرعب في كل شبر من العراق.

اخذ على يقود السيارة نحو المجهول، فرأينا محطة بنزين، فأوقفنا السيارة عندها وأخذت أتحدث مع علي وقلت له:

لقد حل الليل ولم نعثر على مكان للمبيت.

سمعنا عامل في المحطة فقال:

تفضلوا معي أنا في خدمتكم، وعرف نفسه لنا، وان اسمه (ح .ل) لقد فرحنا بهذه الألطاف الإلهية، إذ سهل الله لنا أمرا قد تعسر.

ذهبنا مع (ح.ل) فأدخلنا بيته وقال:

توجد غرفتنا مؤثثتان في الطابق الثاني، اصعدوا وخذوا راحتكم.
قلت له:
وما هي الأجرة المطلوبة

أجاب :
ليس مهما ارتاحوا الآن .

بعد ذلك دعانا للعشاء وألح علينا فوافقنا وجلسنا مع العائلة المضيفة وأكلنا سوية، وقد تبين أن (ح.ل) هو صاحب الدار ويسكن فيها، وليس البيت للإيجار، وقال لنا – فيما بعد -:

حينما رايتكم علمت أنكم من الأشراف، ولا يبدو عليكم بأنكم من حزب السلطة فأحببت أن أقدم لكم خدمة.

في صباح اليوم التالي أي 15 شباط التقيت بعماد في المكان والموعد المحددين. هنا اقترح على عماد قائلا:أن الأمور غير مرتبة، وحتى الآن لا يوجد شخص محدد ليساعدنا للوصول إلى إيران، ووجودنا – أنا و (ل.ك) – يشكل خطرا إضافيا، لذلك سوف أعود إلى بغداد لكي احصل على عنوان أقرباء لي أكراد يسكنون في دهوك باستطاعتهم أن يرتبوا أمر تهريبنا، ثم أضاف عماد:

وهذه السيارة تستطيعون أخذها، فلا حاجة لي فيها حيث ادعي هنا بأنها سرقت.

قلت له:أن وجود السيارة يسبب مشكلة لنا، لان لوحتها تحمل اسم بغداد، كما انه من الصعب الحصول على الوقود، وسوف نحتار بها فأخذها أفضل.

فقال عماد:

سوف نذهب إلى بغداد ، وبعد الحصول على العنوان المطلوب نرجع إلى السليمانية ، وفى كل يوم يقبل القسمة على 3 مروا على هذا الفندق ، واسألوا عنا.

وهكذا رجع عماد *( بعد انتفاضة الشعب العراقي القي القبض على عماد وأودع في (سجن الرضوانية ) بتهمة المشاركة فيها، إلا أن التهمة لم تثبت عليه فأطلق سراحه، ولجأ إلى الجمهورية الإيرانية الإسلامية)إلى بغداد مع صديقه المخلص(ل.ك) ولكنه لم يتمكن من الرجوع إلى السليمانية فقد جرى تحقيق مع عائلته ، لذلك التحق بوحدته العسكرية ، وسجل حضورا من تاريخ 13/2 أي تاريخ هروبنا وذلك لكي يستطيع أن يثبت للسلطات وجودة في وحدته العسكرية يوم هروبنا فيما إذا تعرض للتحقيق.

~ وذهب صباح ~

من جهته كان صباح(أبو فاطمة) يتألم للوضع الذي أصبحنا فيه، ذلك لأنه كان دليلنا بينما لم يتمكن أن يقدم لنا أية خدمة فيما يرتبط بتهريبنا عبر الحدود، لذلك قرر المجازفة والذهاب إلى إيران لوحده لعله يتمكن من الوصول إلى هناك وترتيب أمر التهريب مع من يمكن من داخل إيران.

لقد حاولت أن امنعه عن ذلك، إلا انه أصر على الذهاب وكانت خطته التي رسمها لنفسه هو أن يذهب إلى إيران ويعرف نفسه للسلطات الإيرانية وان السيد جعفر الحكيم ينتظر عبور الحدود في السليمانية ثم يجرى اتصالا مع السيد محمد باقر الحكيم ليقوم بترتيب الأمور لنقلنا من السليمانية إلى إيران وكان معي خاتم ثمين كان قد أهداه لي في السجن السيد صادق الحكيم، فأعطيته لصباح وقلت له:

تعطى هذا الخاتم للدليل الذي يأتي إلينا لكي نثق به ونعرف بأنه جاء من قبلك.

ذهب صباح إلى السوق مع أم زهراء التي اشترت له بدلة عسكرية وودعته، وتوكل على الله وذهب بصفة عسكري مجاز يبحث عن أخيه، وكان هذا أخر عهدنا بصباح، فلم يأت منه بعد ذلك أي خبر وقد بحثت عنه كثيرا فلم أجد عنه أي اثر حتى الآن.

~ الشيعة والأكراد ~

لقد اهتمت عائلة(ح.ل) كثيرا بنا فكانت تقدم لنا الطعام ، وتجلب لنا النفط الأبيض للتدفئة بالرغم من صعوبة الحصول عليه ، وكانوا يرفضون اخذ أي مبالغ منا ، وقد أحرجنا هذا الوضع كثيرا لان وجودنا مع العائلة الطيبة الكريمة ، كان يكلفها كثيرا لذلك طلبت من (ح.ل)أن يبحث لنا عن منزل مستقل لكي تحصل العائلة على راحتها.

لقد ألح علينا(ح. ل ) بالبقاء في داره ضيوفا كراما ، لكننا اعتذرنا من ذلك فوجد لنا ( ح . ل) بيتا صغيرا انتقلنا إليه، وكنا نحضر صلاة الجماعة في المسجد فكان إمام المسجد يوصى بنا – أهل المنطقة – خيرا وقد أحبونا لأنهم علموا بأننا من الشيعة ولسنا ننتمي لحزب السلطة لان الشيعة والأكراد يجمعهم اضطهاد النظام لهم وأنهم من ضحاياه كما أن لعلماء الشيعة مواقف مشرفة من قضيتهم.

~ الانتفاضة ~

كان عندنا مبلغ من المال قدره (3000)دينار أعطاه لنا عماد عندما خرجنا من بغداد، واخذ هذا المبلغ بالتناقص بمرور الأيام رغم أن أكلنا كان بسيطا حيث كان يتكون من بصل وطماطم وخبز أو جريش بالماء وفي احد الأيام اشترينا نوعا من الحبوب الرخيصة ولكنها أتعبت أم زهراء حيث إنها لم تنضج بالطبخ أبدا وقد تبين إنها حبوب لتغذية الدجاج !!

وفي هذه الأثناء وجد علي عريان (كان سجينا مع علي عريان وخرج في العفو الذي صدر عن الأكراد سنة 1988 م ) شخصا يهربنا إلى إيران لكننا لم نستطع إعطائه المبلغ المطلوب. وهكذا بقيت مشكلة المال قائمة وكانت الأمور مضطربة حتى حدث الهجوم البري في يوم 24 شباط وانتهى بعد مائة ساعة فقط أي في يوم 28 شباط حيث رضخ ” صدام ” صاغرا للقرارات الأمم المتحدة. لقد عز على الشعب العراقي أن تدمر البلاد ويهلك العباد ويبقى المجرم متربعا على عرش السلطة لذلك انتفض الشيعة في الجنوب في 15شعبان الموافق 1 آذار حيث كان لهم شرف المبادرة في ذلك واسقطوا المحافظات الجنوبية الواحدة تلو الأخرى ثم محافظات الفرات الأوسط وكانت المحافظات الشمالية تغلي كالبركان وتحتاج إلى من يشعل الصاعق لتنفجر المنطقة وفعلا انتفض الأكراد أيضا واسقطوا محافظات: اربيل والسليمانية ودهوك وانظمت معهم ( قوات أفواج الدفاع الوطني) وهى قوات كردية أنشأها النظام كميليشيات مواليه له ولكنها انقلبت عليه وكان الأكراد يسمون هذه القوات بالجحوش.

~ السجون السرية ~

بعد سقوط محافظة السليمانية بيد الثوار ذهبت مع السيد جعفر وعلي والعائلة إلى دائرة الأمن لعلنا نجد السجناء الذين اخذوا (وجبات) أو قوائم بأسمائهم لكننا لم نجد شئ من ذلك بل وجدنا ملفات مبعثرة والناس منشغلة بجمع الغنائم.

لقد وجد الأكراد سجنا سريا تحت مديرية الأمن فتم إنقاذ السجناء وكانوا من الأكراد ولم تمض فترة طويلة على اعتقالهم ، اننى لم التقِ شخصيا بهؤلاء السجناء ولكن سمعت عنهم وحدثني الكثيرون ممن شاهدهم.
كما وجد الأكراد سجنا سريا آخر في منطقة (عربت) التي تبعد 3 كيلومترات عن مدينة السليمانية ويقع هذا السجن تحت الأرض وفيه مئات من النساء الكرديات وهن عاريات وشعورهن طويلة جدا وكذلك أظافرهن، وهن في حالة انقطاع عن العالم الخارجي حتى من كانت تموت منهن فإنها كانت تترك حتى تتحول إلى جيفة.

~ نحو إيران ~

لقد كنت حريصا على الذهاب إلى جنوب العراق للتفتيش عن السجناء في السجون السرية والاشتراك في عمليات التحرير إلا اننى كنت ابحث عن مكان أمين اترك عائلتي فيه، لذلك اتصلت بالحاكم العسكري الذي عينه الأكراد وكان من الطالبانيين ولم اكشف عن نفسي ولكن تم التعريف بالسيد جعفر الحكيم باعتباره ابن أخ السيد محمد باقر الحكيم.

لقد رحب بنا القائد الكردي وقال:
اعتبروا أنفسكم في مأمن، وسأرتب لكم الاتصال بإيران.

أن ظروف الانتفاضة وانشغال الحاكم العسكري بإدارة المدينة حالا دون تهيئة مستلزمات ذلك.
أن الرجل النبيل (ح.ل) حصل لنا على ورقة السماح بالعبور إلى إيران حيث أن الحدود فتحت كما استأجر لنا سيارة نقلتنا إلى الحدود وكان ذلك يوم 12 آذار، لقد شاهدنا في الطريق خراب المدن والقرى الكردية وكانت الأشجار مقطوعة والآبار مملوءة بالاسمنت… لقد دمر صدام كل شئ في بلادنا.. حتى الطبيعة !!
وأخيرا: وصلنا إلى (بنجوين) ثم الحدود العراقية الإيرانية، واتصلنا هناك بمسؤول الحرس الثوري ، وعرفنا عن أنفسنا بأننا أقرباء السيد محمد باقر الحكيم ، فرحب بنا ثم نقلنا إلى منزله في (مريوان) وقدم لنا طعاما جيدا أنسانا طبخة حبوب الدجاج!! ثم أوصلنا بعد ذلك إلى (سنندج) ثم إلى(ارومية) ثم إلى (تبريز) وبعدها إلى طهران العاصمة الإيرانية.
لقد استغرقت رحلتنا هذه من السليمانية إلى طهران حوالي خمسة أيام وكان حراس الثورة هم الذين ينقلوننا من منطقة إلى أخرى ، وكان وصولنا فجر آخر يوم من شهر شعبان.
بعد الوصول إلى طهران أخذونا إلى (قصر فيروزة) ومن هناك تم الاتصال بالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، فجاء السيد صادق نجل السيد محمد باقر الحكيم، واستلمنا من حرس الثورة ونقلنا بسيارته إلى مكتب السيد الحكيم وكانت العائلة الشهرستانية في استقبالي، وبذلك انطوت صفحة الظلم والقهر والاضطهاد وبدأت صفحة التطلع لغد مشرق في عراقنا الحبيب.

~ العفو العام ~

وفور الوصول إلى طهران قررت العمل في مجال الدفاع عن اخوانى المضطهدين وراء القضبان الحديدية في سجون صدام، وخاصة سجن أبو غريب، فبدأت الاتصال بالمنظمات الدولية وشرحت للمسؤولين فيها عن أوضاع السجناء في العراق وبالذات في سجن أبو غريب خاصة في الأقسام المغلقة وكان كلامي مؤثرا إذ لم أتحدث لهم عن روايات وحكايات بل كنت انقل لهم مشاهداتي الشخصية ومعاناتي خلال أكثر من 11 عاما.

ولهذا الغرض قمت بسفرتين الأولى بصحبة السيد محمود الهاشمي حيث زرت كلا من ايطاليا وألمانيا وفرنسا والثانية ضمن وفد برئاسة السيد محمد باقر الحكيم حيث زرت جنيف والتقيت في السفرتين بعدد من المسؤولين الدوليين خاصة الأمين العام للأمم المتحدة (ديكولار) والسيد (ماكس فان ديرشتول) المقرر الخاص لحقوق الإنسان في العراق والوزير الهولندي السابق الي عينته لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة للتحري عن انتهاكات حقوق الإنسان في العراق.

وفي السجن وعندما كنت اخطط لعملية الهروب قمت بتنظيم قوائم تفصيلية بأسماء جميع السجناء في الأقسام المغلقة ومواد أحكامهم وأماكن زنزاناتهم وذلك بالتعاون مع احد السجناء الذي كان يعمل ضمن كادر ( الخدمات ) واستطاع حسب خطة جريئة من التسلل إلى غرفة ملفات السجناء في الأقسام المغلقة وجلب الملفات إلى زنزانتنا، وكنا نتعاون معا بعد منتصف الليل وحتى الفجر في نقل الأسماء والتفاصيل المتعلقة بها وتنظيم القوائم المطلوبة سرا ودون أن ينتبه احد من رجال الأمن أو السجناء لذلك، وقمت بتهريب القوائم إلى خارج السجن وأرسلت لخارج العراق سرا.

وعند لقائى بالمقرر الخاص لحقول الإنسان في العراق زودته بقوائم تفصيلية بأسماء السجناء في الأقسام المغلقة و خارطة سجن أبو غريب – قسم الأحكام الخاصة المغلقة – و أماكن زنزانات السجناء وطلبت من المقرر الخاص أن يزور سجن أبو غريب ويتحرى عن السجناء هناك ضمن مسؤولية لمراقبة انتهاكات حقوق الإنسان في العراق.

وبالفعل فقد طالب السيد (فان دير شتول ) الحكومة العراقية بزيارة السجن المذكور وخاصة قسم الأحكام الخاصة المغلقة وتلافيا لكشف جرائمه وانتهاكات حقوق الإنسان العراقي قرر النظام إطلاق سراح السجناء قبل زيارة المقرر الخاص بالسجن، وهكذا أصدر عفوا عاما عن السجناء بتاريخ 21/7/1991 م، ويحمل القرار رقم 241 واستثنى 14 شخصا منهم:

السيد محمد الطباطبائي – الدكتور قاسم مهاوي – السيد عزيز فرحان ناصر – السيد عقيل يوسف ناصر – السيد هاشم العذاري – رزاق حسن – مزهر تركي – جاسم محمد – حسن عطية – فلاح لازم
بعد زيارة المقرر الخاص لسجن أبو غريب غادر العراق متوجها إلى الأردن ومن هناك اتصل بمكتب الأمم المتحدة بطهران وطلب منهم تنظيم لقاء معي في مكتب الأمم المتحدة خلال يومين لأنه كان ينوى زيارة مخيمات اللاجئين العراقيين في الجمهورية الإسلامية وحدد الموعد الساعة الخامسة صباحا لان المقرر الخاص كان سيصل مطار طهران بعد منتصف الليل ويغادرها إلى الأهواز في الصباح الباكر.

رن جرس الهاتف في منزلي في الساعة الثانية بعد منتصف الليل وقبل موعدي المقرر مع المقرر الخاص بساعات، وكان على الخط احد السجناء الذين تم إطلاق سراحهم ولجأ إلى إيران وقال لي:

لقد وصلت الليلة إلى الأراضي الإيرانية بعد إطلاق سراجنا قبل أيام وقد غادر السجناء الأقسام المغلقة واستثني من العفو العام مجموعة تم نقلهم إلى أقسام أخرى وذكر لي أسماء السجناء المستثنين.
وعند لقائى بالمقرر الخاص قال لي:

أريد أن أزف لك بشرى وهى اننى زرت قسم الأحكام الخاصة في سجن أبو غريب ولم أجد فيه سجينا واحدا حيث تم إطلاق سراحهم تتويجاً لجهودك وجهودنا.
فأجبته:
نعم ولكنهم استثنوا من العفو مجموعة وذكرت أسماءهم للمقرر الخاص، لقد دهش المقرر الخاص وقال أن أكفأ الأجهزة المخابراتية لا تستطيع الحصول على معلومات بهذه الدقة من داخل سجن أبو غريب الرهيب خلال أيام قلائل وانه أول من زار السجن بعد العفو العام وها هو اليوم يلتقي بي بعد يومين من زيارته.

إنها العناية الإلهية تفتح نوافذ البصيرة لعبادة الصالحين.

الفصل الثاني عشر.. وتبخرت الأحلام النووية

~ الخطوات الأولى ~

اهتمام العراق بالطاقة النووية للاستخدامات السليمة قديم نسبيا, ويعود إلى أواخر العهد الملكي. وذلك حينما تم تأسيس أول مختبر للنظائر المشعة, ثم في بداية العهد الجمهوري, أي في عهد عبد الكريم قاسم, تم التوقيع على اتفاقية تعاون اقتصادي مع السوفيات شملت بناء مفاعل نووي بطاقة 2ميغاوات في منطقة التويثة جنوب العاصمة العراقية بغداد بالقرب من سلمان باك, وفي عام 1964 تم افتتاح مركز البحوث النووية والمفاعل النووي الصغير وذلك لإنتاج النظائر المشعة للاستخدام في التطبيقات الصناعية والزراعية والأغراض الطبية. ثم توسعت فعاليات المركز لتشمل مجالات مختلفة أخرى كالفيزياء النووية, والكيمياء النووية, والتحري عن الخامات المشعة في العراق. وكانت البحوث ذات طابع سلمي بحت.

وكان هذا المركز -إذا ما قيس بالمعاهد ومراكز البحوث النووية في العالم الثالث- يعتبر متطورا نسبيا, سواء من جهة الكفاءات والكوادر العلمية التي كانت تعمل فيه, أو من جهة المعدات والأجهزة التي كانت مستخدمه في هذا المجال.

وهكذا استمر مركز البحوث النووية على هذا المنوال من التطور العلمي والنمو في مجال الاستخدامات السلمية حتى عام 1974م حيث قررت الحكومة العراقية التعاون مع دول أخرى لتطوير الطاقة الذرية, وكان صدام حسين في تلك الفترة نائبا لرئيس الجمهورية ورئيسا للجنة الطاقة الذرية, فبدء بتشجيع العمل على تطوير الطاقة الذرية, والاهتمام باستيراد معدات وأجهزة ومفاعلات جديدة ومتطورة, وهكذا تقرر التعاقد مع فرنسا لبناء مفاعل للبحوث النووية بطاقة 40ميغاوات.

~ الالتحاق بمركز البحوث ~

وكنت قبل ذلك قد أكملت دراسة الدكتوراه في مجال الكيمياء النووية في كندا, وعدت إلى العراق في صيف1970, حيث التحقت بمركز البحوث النووية الذي كان يوم ذاك خاضعا لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي.

بدأت العمل هناك, وانشغلت بمواصلة البحوث العلمية التي كنت قد بدأتها في فترة الدراسات العليا بكندا, وكانت في الحقيقة فرصة جيدة, حيث تفرغت للبحوث العلمية التي كانت تستقبلها المجلات والدوريات العلمية العالمية, والمؤتمرات الدولية.

وتسببت هذه البحوث في اهتمام المحافل الدولية بالعراق كدولة نامية يقدم علماؤها بحوثا علمية ناضجة في مجال حساس وهو الطاقة النووية, وكانت توجه لي دعوات لإلقاء محاضرات في الدول الأوربية.

~ مفاعل تموز ~

وعندما تقرر التعاقد مع الفرنسيين, تشكل وفد عراقي للتفاوض مع فرنسا, كنت عضوا فيه باعتباري متخصصا في الكيمياء النووية, إضافة إلى الدكتور جعفر ضياء جعفر المتخصص في الفيزياء النووية, وعضوين إداريين هما: عبد الرزاق الهاشمي, وهمام عبد الخالق. وتم التوقيع على بناء مفاعل تموز الذي يسميه الفرنسيون( اوزيراك).

وفي عام 1975م بدا الفرنسيون ببناء المفاعل النووي الجديد, وخلال هذه الفترة توسعت النشاطات وتضاعف عدد الكوادر, وقد كلفتنا الحكومة باختيار الكوادر الممتازة من الجامعات وإرسالها للخارج لاستكمال دراساتهم العليا في المجالات التي يحتاجها تطوير الطاقة النووية.

في الوقت نفسه تم تعييني رئيسا لقسم الكيمياء النووية للطاقة الذرية, بينما كان الدكتور جعفر رئيسا لقسم الفيزياء النووية, ثم تمت ترقيتنا إلى منصب مستشار علمي لرئيس لجنة الطاقة الذرية, وهو أعلى منصب علمي في العراق, وكانت تتم كل البرامج تحت إشرافنا فنيا, وكنا في الحقيقة, وأنا والدكتور جعفر نشكل المرجعية العلمية في الطاقة الذرية العراقية.

~ الدور الأجنبي ~

وقد يتساءل القارئ عن الدور الأجنبي في بناء الطاقة الذرية العراقية, وحجم تأثير الكوادر المحلية؟.

في الحقيقة, كان بناء المفاعل الأول باتفاقية مع الاتحاد السوفياتي السابق, وبالطبع فان الخبراء السوفيات هم الذين انشئوا المفاعل النووي في التويثة, وسائر المختبرات التابعة, ولكنهم سلموها للكادر العراقي حيث قامت الكوادر العلمية المحلية بتشغيل المفاعل والاستفادة من المختبرات, وبقي هناك نوع من التعاون الفني مع الخبراء السوفيات حيث يأتي احدهم أو عدد منهم بين فترة وأخرى للتعاون وتبادل الخبرة في برنامج محدد, أما العمل الأساسي فقد كان يتم بيد الكوادر العراقية.

أما المختبرات التي تم تأسيسها في مرحلة قادمة, فان أجهزتها ومعداتها كانت غريبة, وكانت الكوادر العلمية المتخصصة في مجالات البحوث العلمية متخرجة من الجامعات الأوربية والأمريكية في الأغلب. كما كان هناك كادر تشغيلي للمفاعل بمستوى البكالوريوس أو دونه قد دخلوا دورات تؤهلهم لتشغيل المفاعل وذلك في جامعات الاتحاد السوفياتي.

~ التحول المفاجىء ~

وهكذا استمرت وتيرة العمل في تطوير الطاقة الذرية العراقية بهدف الاستخدامات السلمية, وقد تقدم البرنامج خطوات جيدة إلى الأمام مقارنة بتطورات العلوم النووية في العالم الثالث, حيث استطاع مركز البحوث النووية تطوير عدد من النظائر المشعة للعلاج والتشخيص الطبي, كما كان المعهد النووي ينتج النظائر المشعة للتطبيقات الصناعية, ولفحص أنابيب النفط, وتطوير المنشآت الصناعية, واستخدام الأساليب النووية لتطوير الزراعة في العراق, وأيضا استخدام الأساليب النووية لتحديد العناصر ضئيلة الوجود في الطبيعة.

وفي تموز 1979م فاجأ صدام حسين العراقيين بتنحية احمد حسن البكر, وتعيين نفسه رئيسا للجمهورية العراقية, ومن أول الإجراءات التي اتخذها بعد استيلائه على عرش الرئاسة كان اهتمامه بالطاقة الذرية التي كان رئيسا للجنتها, فقد استدعى المسؤولين والكوادر العلمية المتقدمة في الطاقة الذرية إلى اجتماع, وبعد أن شكر مساعيهم وجهودهم السالفة في تطوير البحوث النووية للأغراض السلمية, بلغهم بضرورة إعادة النظر في سياسة البحوث والنشاطات في لجنة الطاقة الذرية العراقية والتركيز على البرامج الاستراتيجية, وكان واضحا انه يقصد بذلك الانتقال من مرحلة العمل على الاستخدامات السلمية للطاقة النووية إلى العمل على إنتاج المعدات والأجهزة لتطوير الأسلحة النووية.

في تلك الفترة, كان عبد الرزاق الهاشمي مسؤول الطاقة الذرية, وهمام عبد الخالق مسؤول مركز البحوث النووية, وكانا من الكوادر الحزبية, وتم تعيينهما على راس الطاقة الذرية للتنسيق بين صدام والقيادة الحزبية من جهة, وبين الكوادر العلمية التي كان يندر وجود عناصر حزبية بينها.

~ دعوها للسياسيين ~

وحاولنا عدة مرات أن نلفت انتباه المسؤولين إلى خطورة هذا التوجه الجديد, لأنه يتناقض مع التزامات العراق بالمواثيق الدولية, فالعراق قد وقع على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية في فينا, ويقتضي الالتزام الدولي بفتح أبواب مؤسسات ومراكز الطاقة الذرية للتفتيش الدولي بشكل دوري من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية, والامتناع عن تطوير الاستخدامات غير السلمية للطاقة النووية.

إلا أن الجواب كان يأتي دائما: اتركوا الجانب السياسي للمسؤليين السياسيين في البلد.. إنهم يعرفون كيف يعالجون مسالة الالتزامات الدولية مع الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية, وما عليكم انتم إلا تنفيذ السياسة المطلوبة لتطوير الأسلحة النووية.

وهكذا ظهرت بوادر تحول الطاقة الذرية العراقية من مؤسسة علمية قائمة على أسس أخلاقيات التعامل العلمي والانفتاح والتعليم والتعلم والإفادة والاستفادة, إلى مؤسسة بوليسية مغلقة, تحكمها قوانين أمنية صارمة, يتحول الفرد فيها إلى آلة صماء لا إرادة له, يتحرك حسب التوجيهات الأمنية القاسية, سواء في محيط العمل أو الأسرة أو العلاقات الاجتماعية, وذلك وفقا لمتطلبات التوجه الجديد للجنة.

~ قيود.. قيود.. ~

عندما كانت لجنة الطاقة الذرية ذات طابع سلمي, لم تكن هناك أية قيود تحكم علاقاتنا بالهيئات الدولية والمؤتمرات العلمية ذات العلاقة كما لم يكن هناك أي محذور من السفر داخل الوطن أو خارجه, حيث كانت طبيعة عملنا تفرض علينا الاتصال بالمؤسسات العلمية ومعاهد البحوث النووية السلمية المماثلة, والأساتذة والجامعات في العالم, والحضور في المؤتمرات العلمية, وعرض نتائج بحوثنا في المجالات العلمية النووية العالمية, وإلقاء البحوث والمحاضرات في المؤتمرات الدولية.. كل ذلك دون رادع أو مانع.

أما بعد قرار صدام بتحويل البرنامج النووي إلى الاستخدامات العسكرية, فقد فرضت قيود صارمة ليس بالنسبة للسفر إلى الخارج والاتصال بالهيئات والمؤسسات والشخصيات العلمية الدولية فحسب, بل وحتى داخل العراق.

فمثلا: كان الشخص المنتسب للبرنامج النووي ممنوعا من الاتصال بأي شخص, أو الخروج من بيته لزيارة أي شخص أو عائلة إلا بموافقة الجهاز الأمني الخاص المسؤول عن البرنامج, وكذلك الأمر بالنسبة للسفر إلى الخارج.

ولتجنب اتصال العلماء العراقيين والكوادر العاملة في البرنامج النووي بالجهات الأخرى خارج العراق, كانت الأجهزة الأمنية تفضل مجيء مندوبي الشركات الأجنبية التي يراد التعاقد معها, إلى العراق للتفاوض والتعاقد على الاتفاقيات, وليس ذهاب الخبراء والمسؤليين العراقيين إلى الخارج, وذلك لتكون الأمور تحت ضبط وإشراف المخابرات والأجهزة الأمنية الخاصة, وكان في ذلك الوقت حسين كامل – المسؤول عن التصنيع العسكري – يوفر كل الإمكانيات اللازمة لتسهيل أمر سفر الشركات الأجنبية للعراق والتفاوض حول المطالب العراقية.

وهكذا تطورت القيود والضغوط على العاملين في البرامج النووية حتى أصبح الزواج يحتاج إلى موافقة الأجهزة الأمنية الخاصة, وكذلك اختيار محل السكن, ومجموعة الأصدقاء الذين يسمح بالتزاور معهم.

أما بالنسبة إلى السكن, فقد كانت الجهات الأمنية هي التي تختار مساكنهم في أحياء معينة تقع تحت الإشراف الأمني المركز وقريبة من التويثة, وقد تم فيما بعد إسكان كبار المسؤليين عن المشروع كالدكتور جعفر ضياء جعفر بالقرب من القصر الجمهوري حيث الحلقة الأمنية محكمة الحصار.

~ الشعب.. والردع النووي ~

هذا الواقع الجديد خلق حالة من التوجس والتردد لدى عدد من الكوادر العلمية المتقدمة في الطاقة الذرية.

واذكر أنني شخصيا ناقشت الموضوع مع عدد من الكوادر العلمية خاصة الدكتور جعفر الذي كنا نشكل معا الحلقتين الرئيسيتين في المشروع, وكانت عندنا قناعة مشتركة بان هذا التوجه لا يخدم العراق, كما لا يخدم تطور الطاقة النووية, وإنما يعرضنا لإشكالات مع دول العالم, وقد نواجه تحديدا دوليا في مجالات تطوير الطاقة النووية للاستخدامات السلمية.

أضف إلى هذا, فقد كان لي تحفظ خاص على تمكين صدام حسين وحزبه الممسك بالسلطة في العراق من أية إمكانيات نووية وغير نووية, وذلك لوضوح الرؤية عندي بان هذا النظام لا يستخدم أية أسلحة سواء التقليدية منها أو الاستراتيجية ضد المعتدين على العراق, وإنما احتمالات استخدامها ضد أبناء الشعب هي الأرجح, لأنه نظام قائم على القتل والإبادة الجماعية ضد أبناء الشعب, خاصة بعد انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية في شباط79, حيث شن صدام حسين وسلطته حملة اعتقالات واسعة النطاق في صفوف الإسلاميين والمتدينين وبالذات الشيعة, استتبعت إعدامات بالجملة, وانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان. كما انتهجت الحكومة سياسة تصفية المراكز والكوادر الدينية للأكثرية الشيعية من أبناء الشعب العراقي, سواء على مستوى الحوزة العلمية أو أساتذة الجامعات والكوادر العلمية, أو موظفي الدولة, بهدف القضاء على أي وجود إسلامي شيعي متميز في العراق.

~ قرار المغادرة ~

واصطبغ شهر رمضان من نفس السنة (1979م) بدماء زاكية أراقها جلاوزة صدام, حيث تم إعدام مجموعات من المؤمنين تعد بالعشرات منهم: السيد قاسم المبرقع, والسيد قاسم شبر, وعبد الجبار البصري, والسيد علاء الشهرستاني( ابن عمي).. وكان واضحا جدا أن هذا هو القطر الذي ينذر بالسيل الجارف..

وأدت موجة الاعتقالات والإعدامات هذه, إلى جانب التوجه العسكري الذي كان صدام يصر عليه في الطاقة النووية, وحيث إنني كنت ارفض المساهمة في هذه الجريمة الكبرى, أدت هاتان المسالتان إلى اتخاذ قراري باعتزال العمل في الطاقة النووية.

ومسبقاً كنت اعرف أن هذا القرار سيستتبع عواقب وخيمة, لأن المشروع النووي كان يعتمد علي وعلى الدكتور جعفر, وكان واضحاً إن النظام لا يوافق على ترك العمل في الطاقة الذرية بسهولة, ولا يترك الأمر يمر بدون عقاب صارم, ولكنني وطّنت نفسي لتحمل كل النتائج التي تترتب على هذا القرار, فحتى الإعدام كان أهون علي من المشاركة في أبشع جريمة يريد أن يرتكبها صدام بالتحول عن الأغراض السليمة للطاقة النووية العراقية إلى الاستخدامات العسكرية.

وبالطبع, فان العقل كان يحكم بترك العمل ومغادرة البلاد في وقت واحد لإنقاذ نفسي من الهلكة, وفعلاً فقد رتبت جواز السفر وكل مقدمات مغادرة البلد مع العائلة..

~ القرار المصيري ~

إلا إنني, رغم سرية قراري, ارتأيت أن استشير المرجع الديني السيد محمد باقر الصدر وانسّق معه في الأمر, لأنني كنت على اتصال منظم معه للاستفادة من توجيهاته القيمة في مسيرتنا الإسلامية, وكانت السلطة قد فرضت في تلك الفترة إقامة جبرية مشددة على الشهيد الصدر, واتصلت به عن الطرق الخاصة الآمنة التي كنت احتفظ بها للارتباط, وعرضت عليه خلاصة ما يجري في الطاقة الذرية, وعدم قدرتي على مسايرة التوجه الجديد, إضافة إلى موجة الاعتقالات والإعدامات, والانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان, التي أخذت تغطي سماء العراق بسحابة داكنة سوداء..

وشرحتُ لسماحة السيد الصدر(رحمة الله عليه ) بأن تركي للعمل وبقائي في العراق سيعرضني بلا شك للاعتقال, بينما مغادرة القطر سيسمح لي بالتحرك الدولي للدفاع عن حقوق الإنسان, وفضح جرائم النظام, وكشف وجهه البشع للرأي العام العالمي, حيث كانت خطتي الإقامة في إحدى الدول الأوروبية والعمل مع المنظمات الدولية للدفاع عن حقوق الإنسان في العراق..

وجاء جواب الشهيد الصدر بأن تشديد الإقامة الجبرية عليه قطع كل خيوط الاتصال بينه وبين المؤمنين الذين كان يعتمد عليهم ويثق بهم للاتصال من خلالهم بالأمة وبخارج الوطن, وان الخط الوحيد المتبقي للاتصال هو خطي, وإن مغادرتي للعراق يعني انقطاع السيد تماماً عن أي خط اتصال, وطلب مني تحمل تبعات هذا الأمر, والبقاء في العراق حالياً, ومواصلة الاتصال به حتى إشعار آخر.
بناء على هذا التوجيه, قررت البقاء في العراق, ومواجهة المصير مهما كان, لذلك واصلتُ العمل في مركز البحوث بانتظار التطورات..التي لم أحسب أنها تفاجئني بهذه السرعة.. حيث خلال عدة أيام من هذا القرار المصيري تم اعتقالي في مكتبي في مركز البحوث النووية في التويثة.

~ لا ..للأغراض السلمية ~

وبسبب اعتقالي منذ الأيام الأولى للتوجه العسكري في الطاقة النووية العراقية, فإنني لم أساهم _ ولله الحمد _ في جريمة النظام هذه, إلا إنني كنت أتابع قدر الإمكان, وبالذات بعد نجاح عملية الهروب, ما كان يجري في مشروع الطاقة النووية..ولابد هنا أن أشير إلى بعض النقاط الهامة التي تساعد القارئ على فهم بعض التطورات التي شهدتها الساحة العراقية فيما يرتبط بالطاقة النووية.

والسؤال الأول الذي يثيره القارئ هو عن مدى تأثير التوجه العسكري في الطاقة النووية العراقية, على استخداماتها السليمة؟.

لا شك أن التوجه العسكري الذي فرضه صدام حسين على مشاريع الطاقة الذرية في العراق لإشباع طموحات جنونية كانت تتلاعب في رأسه, ترك آثاراً سلبية كلية على الاستخدامات السليمة, حيث فرض النظام على كل الكوادر العلمية والتشغيلية أن تترك أعمالها وبحوثها في مختلف المجالات السليمة, للتركيز على التوجه الاستراتيجي (التسلح النووي), كما تضاعف وقت العمل الذي لم يعد يقتصر على دوام 8 ساعات في اليوم فقط, بل أصبح العمل في مشاريع ومؤسسات الطاقة النووية مستمراً على مدار الساعة, ثلاث نوبات من العمل طوال الليل والنهار, وأيضاً تم إضافة كوادر وعناصر جديدة كان اغلبها حزبياً أو موثقاً من قبل الحزب, حيث أرسلت في بعثات ودورات دراسية مضغوطة في العديد من الدول الغربية كفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة, ثم عادت للعمل في البرنامج النووي التسليحي.

وهكذا توقف الاهتمام باستخدام الطاقة النووية في المجالات الطبية, والصناعية, والزراعية.

~ ما هو الهدف؟ ~

منذ أن استولى صدام على عرش الرئاسة العراقية بطريقته الخاصة في تموز 79, بل وربما قبل ذلك بشهور, أي منذ شباط 79 حينما تهاوى عرش الطاووس في طهران واندحر أعتى نظام ديكتاتوري في المنطقة, وسرت الروح الثورية في الجسم العراقي المتهالك تحت قهر وبطش حزب البعث العراقي, أخذ صدام يهتم بالحصول على أسلحة الدمار الشامل الاستراتيجية: النووية, والبيولوجية, والكيماوية, وهذا ما كان يلّوح به خلال أحاديثه مع كوادر الطاقة النووية في عدد من الاجتماعات التي كان يعقدها لتحريضنا على التوجه العسكري في الطاقة النووية.

وكان صدام حسين يهدف من وراء هذا التوجه تغيير خارطة الشرق الأوسط _ حسب التعبير الذي كان يتداوله هو وحزبه _.

ففي إحدى المرات التي زارني فيها برزان التكريتي في السجن ( كان وقتها رئيس جهاز المخابرات ) أشار في حديثه معي إلى هذا الهدف, حيث طلب مني بصراحة التعاون مع السلطة لتطوير القنبلة النووية وذلك بهدف تغيير خارطة الشرق الأوسط. ( أشرت إلى هذا اللقاء في مكانه ).

وكان هذا اللقاء وهذا الحديث قبل حوالي ستة اشهر من اندلاع الحرب العراقية ضد إيران, مما يكشف عن أن الاستعداد لهذه الحرب كان يتم في عراق صدام منذ اشهر, وان الحرب لم تكن حدثا مفاجأ, بل كانت مخططة مسبقاً, ولأهداف محددة.

ورغم أن الجهود العربية, في تلك الفترة, كانت تنصب لاحتواء الخطر الإسرائيلي, فان المسؤولين العراقيين, وبالذات صدام حسين, كانوا يخططون للاستيلاء على إيران ومنطقة الخليج بشكل عام, أو على الأقل لفرض هيمنة حزب البعث العراقي بشكل مطلق على المنطقة.

ولم يكن التوجه للحصول على السلاح النووي نابعا – في الحقيقة- من توجه دفاعي، إذ لم يكن النظام العراقي وقتها مهددا من أية قوة خارجية, بل الحقيقة أن النظام كان يشعر بأنه مهدد داخليا بسبب تململ الشعب والتفكير بمواجهة السلطة بعد سقوط نظام بهلوي في إيران, ونجاحها في تغيير النظام إلى جمهوري إسلامي, هو العامل الأساسي في تأجيج مشاعر الشعب العراقي المضطهد, وإعادة الروح إليه, وتحفزه لمواجهة السلطة على طريقة الشعب الإيراني, ولذلك كان على صدام – حسب تحليله وربما تحليل دوائر المخابرات الأجنبية التي كانت تدعمه – أن يقضي على الثورة الإسلامية في إيران, أو على الأقل يحجمها ويدجنها, لكي يستطيع من تعزيز سلطته الصارمة على رقاب الشعب العراقي المتحفز للتغيير..

~ البرنامج النووي ~

ولكن, هل استطاع صدام حسين أن يحصل على ما كان يطمح إليه من خلال التوجه العسكري الاستراتيجي في مجال الطاقة النووية؟. وهل كان بإمكانه فعلا امتلاك ترسانة نووية؟.

بلا شك, فالنظام قطع أشواطا بعيدة المدى في مجال تطوير الأسلحة النووية, والمعروف انه قبل غزو الكويت في عام1990م كان قد توصل إلى إنتاج اليورانيوم المخصب بدرجة 93 الذي يمكن استخدامه في إنتاج قنابل نووية بسيطة, وإنشاء مؤسسات ومعامل كبيرة بتكنولوجيا معقدة ذات تكلفات باهضة جدا( بالمليارات) خاصة في مجال أجهزة الطرد اللامركزي لتخصيب اليورانيوم, وكذلك الاستفادة من أنظمة أخرى للتخصيب, لكن التقدم الأساسي الذي أحرزه كان في المجال الأول ( أجهزة الطرد اللامركزي). واستطاع أيضا أن يطور تصاميم لتجميع القلب النووي للقنبلة, والعدسات اللازمة, وأجهزة التحكم والتفجير, والفتيل المطلوب لذلك, وقد لا يعرف الكثير من الناس أن النظام استطاع أن يجري تجارب على نماذج من الأسلحة النووية بدون مادة اليورانيوم المخصب, وإنما باستخدام مواد كيماوية ذات قابلية انفجارية عالية تشبه القنبلة النووية, وكانت بعض هذه التجارب ناجحة.

وفي الحقيقة كان نظام صدام حسين على وشك تطوير قنبلته النووية الأولى في عام1991م, ولو لم يقدم على جريمة احتلال الكويت والدخول في مواجهة مع العالم أدت إلى انكشاف المنشآت والخطط العراقية في مجال الصناعة النووية, كان بالإمكان خلال سنة واحدة حصول صدام على أول قنبلة نووية يجعل بها أمن المنطقة وشعوبها, والشعب العراقي أيضا على كف عفريت.

~ شركات أم حكومات؟ ~

والسؤال الأهم الذي قد يطرحه المراقب للتطورات في العراق, هو عن الجهة التي أعانت صدام حسين في تحويل مشاريع الطاقة النووية العراقية من الاستخدامات السلمية إلى الأغراض العسكرية الاستراتيجية؟. هل المعسكر الشرقي أم الغربي – حسب تصنيفات تلك البرهة الزمنية-؟. إذ مما لا شك فيه أن صداما لم يكن بإمكانه التوصل إلى أسلحة الدمار الشامل لولا الخبرة والتكنولوجيا الأجنبية؟.

للتاريخ أقول: أن الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي لم يكن لهما أي دور في تطوير الطاقة النووية العراقية لغير الاستخدامات السلمية, وإنما الدول الأوروبية وأمريكا وكندا هي التي لعبت الدور الأساس في تحويل الطاقة النووية في العراق من الأغراض السلمية إلى الاستخدامات العسكرية الاستراتيجية.

وحينما نقول الدول, نقصد بذلك الشركات التابعة لتلك الدول فحوالي 700 شركة أمريكية, وكندية, وأوربية غربية ساعدت العراق في هذا المجال. وبالطبع فان الحكومات لم تتدخل مباشرة – حسب الظاهر – في هذه البرامج, إلا انه من غير المعقول في العالم المعاصر أن تقدم الشركات مساعدات فنية وصناعية لدولة أخرى في مجال حساس وخطير كتطوير الأسلحة النووية وسائر أسلحة الدمار الشامل, دون ضوء اخضر من حكوماتها, أو على الأقل, دون غض الطرف.. عن نشاطات شركاتها في عقد الصفقات المحرمة دوليا مع نظام صدام حسين.

وقد نشرت أخيرا الكثير من الوثائق والكتب حول تورط الشركات الأمريكية والكندية والأوربية عموما في برامج تصنيع أسلحة الدمار الشامل العراقية, وقد حوكمت بعض هذه الشركات بعد افتضاح أمرها سواء في بريطانيا أو أمريكا أو ألمانيا… وانكشف خلال هذه المحاكمات, أن الشركات المعنية كانت قد بلغت حكوماتها بالتعامل مع العراق في مجالات حساسة, ليس السلاح النووي فحسب, بل الأسلحة الجرثومية والكيماوية أيضا.

صحيح أن الشركات المتورطة, لم يكن عندها موافقات مكتوبة من الحكومات على مساعدة صدام حسين في برامجه الخطيرة, ولكن الأجهزة المخابراتية في هذه البلاد كانت تعرف عن النشاطات غير القانونية لهذه الشركات, وكانت تغض النظر, بل وتسهل عملية التصدير من الجمارك في تلك البلدان دون إجازات رسمية, لان المعدات والأجهزة والمواد
الخطيرة لا يمكن تصديرها من الدول الأوربية والأمريكية والكندية دون إذن خاص, ولان الإذن الخاص غير متوفر للعراق لأنه كان في حالة الحرب, ونظريا كان تصدير الأسلحة التقليدية للعراق ممنوعا, فكيف بمساعدته على تطوير وصناعة أسلحة الدمار الشامل الممنوعة في السلم والحرب.

لذلك لم يكن بالإمكان إرسال هذه المعدات والأجهزة للعراق بشكل رسمي, إلا أن الوثائق التي نشرت عبر المحاكمات المذكورة, تثبت أن أجهزة المخابرات كانت تتصل بالجمارك وتبلغها بعدم تطبيق قوانين التصدير العادية على شحنات معينة متجهة للعراق.

~ الشركات الوهمية ~

أن الدور الأهم في هذه الصفقات, لعبته الشركات التي تتعامل مع الأجهزة المخابراتية لمساعدة الدول العميلة في العالم, بتوفير الأسلحة والمعدات لها.. تلك الأسلحة والمعدات التي لا تستطيع شراءها بشكل مفتوح وعلني من سوق الصناعات العسكرية, بسبب إشكاليات تواجهها تلك الدول, إما لسجلاتها السوداء في مجال انتهاكات حقوق الإنسان, أو دخولها في حروب, مما يجعلها على القائمة السوداء في مجال التسلح وامتلاك المعدات والأجهزة الحساسة.

وعندما شن صدام حسين حربه ضد إيران, ولما لم تنجح خططه في حصد النتائج المطلوبة خلال أيام, ثم بدء يخسر بعض المعارك المهمة في عام 81-82, كانت السياسة المعلنة من أمريكا وأوربا سياسة الحياد في الحرب وعدم إمداد الطرفين بالسلاح, وكان الهدف الحقيقي من هذه السياسة هو تطويق إيران, إذ كان التسليح الإيراني غربيا, بينما التسليح العراقي كان شرقيا, فالحياد كان يعني حرمان إيران من إمداداتها بالسلاح, والذخائر, والمعدات العسكرية اللازمة, وقطع غيار الطائرات, وبالنتيجة فان هذا الحياد لم يكن يؤثر على قدرات صدام حسين العسكرية.

ولكن لما لم يستطع صدام حسين بالتسلح السوفياتي والشرقي أن يصمد أمام إيران, وان يحقق أهدافه, قرر الغربيون تزويده بالأسلحة الغربية, ولم يكن بالإمكان فعل ذلك مباشر, بسبب إعلان الحياد, ولان نظام صدام – من جهة أخرى- كان سجله حافلا بالنقاط السوداء في مجال حقوق الإنسان, وكان معروفا بدعم الإرهاب الدولي, كما كان في حالة حرب مع إيران, لذلك قررت أمريكا إعطاء الضوء الأخضر للمصانع العسكرية التي تعمل تحت الإشراف والدعم الأمريكي خارج الأراضي الأمريكية, بإغراق العراق بإنتاجها العسكري, واهم هذه المصانع كان المصنع المخصص لإنتاج القنابل العنقودية المحرمة دوليا والمخصصة لقتل البشر, والموجودة في شيلي في أمريكا الجنوبية.

وهكذا بدء النظام العراقي بالتعاون مع المخابرات الغربية والأمريكية والبريطانية – بالخصوص- وبتنسيق مع المخابرات الإسرائيلية, بإنشاء شركات وهمية للتصدير وإعادة التصدير, وذلك للتوقيع على الصفقات السرية, لكي يتم عبرها تصدير المعدات والأجهزة والأسلحة المحرمة, بطريق غير مباشر, وبواسطة أطراف أخرى.

وكانت هذه العمليات تتم تحت إشراف التصنيع العسكري بإدارة حسين كامل, وكان مقر هذه الشركات الوهمية في بريطانيا, وألمانيا, وسويسرا, وفرنسا.

وكان التمويه على التمويل ومصادر التمويل يتم بالترتيب مع بنك إيطالي له فرع في اطلنطا الأمريكية, وقد تحول الأمر فيما بعد إلى فضيحة كبرى انتهت إلى المحاكم.

وهكذا شملت هذه الشبكة حوالي 700 شركة مهمة أوروبية وأمريكية ولاتينية, كانت تتعامل وتتنافس فيما بينها لتزويد صدام حسين بمختلف أنواع الأسلحة, سواء المحرمة دوليا أو التقليدية. وكان صدام حسين يدفع الرشاوى الضخمة, كما انكشف فيما بعد, لمسؤولي هذه الشركات على موائد القمار والخمر, وحفلات الدعارة والمجون.

تمت بحمد لله وتوفيقه..
مع تمنياتي لكم بقراءة ممتعة..

النهاية !!

اقتبس من موقع نادي البرلمان