يشهد العراق في السنوات الأخيرة نزوحا وهجرة داخلية لا نظير لها في تاريخه المعاصر ناتجة من أسباب الاقتتال ذو الصبغة الطائفية ـ السياسية والذي غذته وخلقته عوامل الصراع الداخلي, ومنها بشكل خاص الخندقة الطائفية والمذهبية للنظام المحاصصاتي, وعوامل خارجية من حلفاء من ذات الصبغة الطائفية ـ السياسية للنظام القائم, وعوامل الإرهاب المدمر والذي وجد في ضالته داعش أخطر ما يخندق الصراع ويمده بمزيد من الوقود العصي على الإطفاء والسريع الاشتعال الذي ينتشر كالنار في الهشيم, بالإضافة إلى عوامل الصراع ألاثني الشوفيني الذي يمزق النسيج الاجتماعي العراقي ويهدده بمزيد من التشرذم والانقسام ويغذي ديمومة الإرهاب وبقائه من خلال انعدام وضعف الموقف الوطني في القضايا المصيرية !!!.
يتعرض أهل الانبار والمنطقة الغربية عموما إلى موجة جديدة من النزوح الاضطراري للبحث عن الأمن والآمان والحفاظ على الأرواح جراء عمليات التنكيل والإبادة التي يتعرض لها سكان المناطق من تنظيم الدولة الإسلامية ” داعش ” وعصابات الإجرام والقتل والمجاميع المسلحة الإرهابية المنتشرة هناك وإخطبوط تنظيمات البعث الدموي التي وجدت في هذه المناطق بيئة صالحة لحضورها الإجرامي, والذي تولد من انكفاء هذه المناطق وعزلتها النسبية عن النظام السياسي القائم ومقاطعة العملية السياسية, بل ورفع السلاح ضدها, مما عجل في عزل هذه المناطق وسقوطها في أيادي القمع والإرهاب, وكان سيطرة داعش على هذه المناطق تحصيل حاصل لكل ما جرى ويجري, وجعل من داعش تسرح وتمرح وتحتل وتبيد وتقتل كيفما تشاء مستغلة من موالاة الخونة من قيادات البعث المنهار وبعض من رموز العملاء من العشائر كبيئة حاضنة لها !!!.
اليوم يمر أهالي الانبار بنكبة وكارثة إنسانية أسوة بما مر به قطاعات شعبنا سابقا جراء سيطرة داعش على مناطقهم واستباحتهم وقتلهم وتهجيرهم, حيث ينزح الألوف منهم صوب بغداد وكربلاء والنجف والديوانية وغيرها من المحافظات مستنجدين بأبناء شعبنا في محافظات الوسط والجنوب لحمايتهم من القتل والسبي والإبادة الجماعية, وهذا حقهم المشروع في الاحتماء بأجزاء العراق الأخرى ومحافظاته وناسه عندما تتعرض مناطقهم إلى الاحتلال والسبي من قوى البعث والإرهاب. كما أن ضرورات الموقف الإنساني والوطني العراقي يستدعي وضوح الرؤى والصبر وعدم محاسبة سكان هذه المناطق بجرائم البعث وداعش, وخاصة وان أجهزة الدولة من شرطة وأمن وجيش عراقي غابت عن هذه المناطق مما أوقعها في يد الإرهاب وانكفائها على نفسها كضحية تستجيب لمختلف ظروف استضعافها وامتهانها !!!.
لقد اتخذت بعض من محافظات الوسط الجنوب قرارا من سلطاتها المحلية بعدم السماح للنازحين من أهالي الانبار في الدخول إلى المحافظات, رافعين شعار ” فليذهبوا أهل الانبار يقاتلوا داعش ” وهو موقف ومزاج غذته الصراعات الطائفية ـ السياسية للأسف وينسف جوهر التعامل الإنساني مع شعبنا المشرد. فالشيوخ والأطفال والنساء هنا ضحايا الإرهاب, وان محنتهم هي محنة إنسانية بعيدة كل البعد عن اللون الطائفي والمذهبي وتداعياته السياسية, فالمشردين هم أبناء الوطن وأبناء العراق وجزء من نسيجه الاجتماعي والأخلاقي والقيمي, فلا نسمح أبدا بسياسات ردود الأفعال والاحتقانات المذهبية تعيد إنتاج نفسها بمزيد من الأحقاد وزرع البغضاء في النسيج الاجتماعي العراقي !!!.
أن تضحيات قوى أهل الوسط والجنوب وهم يقارعون الإرهاب في مختلف مسمياتها: حشد شعبي, جيش عراقي, قوات امن وشرطة واستخبارات, إلى جانب المقاتلين بمختلف صنوفهم وانتمائهم من أهالي المنطقة الغربية ضد الإرهاب سوف تكون محفورة في ذاكرة العراقيين وهي مواقف وطنية باعتزاز وتسجل ضمن مفاخر شعبنا للدفاع عن الوطن والأعراض والمال, بغض النظر عن الغطاء والعوامل التي تكمن وراء الاندفاع لمقاتلة الإرهاب, إن كانت دينية أو أثنية أو سياسية, مادامت خلاصة الجهد هو الحفاظ على العراق أرضا وشعبا بكل تنوعاته !!!.
أن التضحيات الجسام يجب إن تقترن بخصوصية الموقف الإنساني من المواطن العراقي أي كان انتمائه في ظروف محنته, وعلى السلطات المحلية في محافظات الوسط والجنوب أن تدرس محنة النازحين من أهالي الانبار إنسانيا وبدقة تستند إلى القيم الأخلاقية والإنسانية وحق المواطن في الاحتماء بأهله وناسه من مناطق العراق الأخرى, وهذا بالطبع لا يلغي عملية الفرز بين الطالح والصالح من النازحين إذا استندت عملية الفرز هي الأخرى إلى موقف أنساني بعيدا عن الانفعالات الطائفية والاثنية الضارة, التي لا تحمد عقباها لاحقا في ديمومة الصراع الطائفي والطائفي السياسي الذي ابتلى به العراق والناتج من نظام المحاصصة الطائفية ـ السياسية والذي غيب الأمن والآمان الشامل للمجتمع العراقي, ونموذج المناطق الغربية هو احد نتاجاته القاتلة, والتي تهدد العراق كله !!!.
كما أن البرلمان العراقي ملزم باعتباره أعلى سلطة تنفيذية في البلاد بدراسة عاجلة تفصيلية وإجراءات آنية سريعة تلزم بها سكان جميع محافظات العراق للعمل على احتواء هذه الكارثة الإنسانية أسوة ببقية كوارث النزوح السابقة التي سببها داعش والبعث والإرهاب عموما, ولا يمكن أن نترك أهلنا في الانبار والأبرياء منهم بشكل خاص ضحايا في العراء يلتهمهم الجوع والعطش والسبي والقتل والتشريد, فمواقفنا الإنسانية لا تتجزأ وغير قابلة للاجتهاد لحسابات ضيقة الأفق مذهبية كانت أم أثنية أو انفعالية, وعلينا أن نري الآخر وجهنا الإنساني المشرف غير المشروط !!!!.
بقلم: د.عامر صالح