للأسف الشديد الكثير من الإخوة أصحاب الأقلام والفكر والرأي والإعلام، يظنون أن عملية التفكير في قضية ما، أو إبداء رأي في مسألة ما، أو عند تحليل فكرة ما الخ .. تتطلب إعمال واستعمال المنطق وحده، بل يفاخرون بأن المحلل كان منطقيا.. ولا ينتبهون أنه كان يجهل أسس ذلك الشيء الذي حلله وأبدى رأيه فيه خاصة في المجالات الغير كمية ، كالفكرية والدينية والسياسية والاجتماعية.
أما المجالات العلمية فهو يحرص على معرفة مبادئها وأسسها التي تقوم عليها. ويقف عند ما اتفق عليه العلماء من اصطلاحات. وحتى ولو لم تتفق مع نظرته المنطقية، فهو يحيل ذلك إلى المسلمات الغير قابلة للتفسيرات. وقبل أن نستفيض في تبيان هذا الميدان، نعرف المنطق الشكلي والمنهج الأصلي:
المنطق الشكلي أو المنطق الصوري “هو دراسة قوانين الفكر المجرد من كل مضمون” . وهو يعد بصفته ناجما فقط من طبيعة الفكر عامة، ومنتجا بمقتضى الصورة بقطع النظر عن المضمون. فهو يدرس قوانين الفكر الضرورية. أي القواعد التي يجب على الفكر أن لا يتملص منها، وإلا كونت تصورات متناقضة وأحكاما أو استدلالات غير جائزة.
ويمكن أيضا تعريف المنطق الصوري بأنه: علم مطابقة الفكر لذاته. ويقال كذلك إنه “علم اللزوم”. أو “علم الصدق الصوري” أو علم “الممكن” أو علم اللزوم الضروري.
أما كلمة “منهج” فتعني في الفكر العلمي الطريق المؤدي غلى كشف الحقيقة في العلوم، بواسطة طائفة من القواعد تهيمن على سير العقل وتحدد عملياته حتى يصل إلى نتيجة معلومة.
على ضوء هذا التعريف نخلص إلى أن عملية التفكير السليمة تقوم على دعامتين:
أولا: المنهج .
وثانيا : المنطق.
وعلاقتهما = المنطق محتوى في المنهج.

ونبادر إلى المثال لتوضيح هذا المجال حتى لا يطول المقال. خذ مثلا هذه الآية الكريمة من سورة يس: “وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله، قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ؟ إن أنتم إلا في ضلال مبين”. وعالِجها أخي القارئ منطقيا، دون أخذ إطار المنهج بعين الاعتبار، نجد أن الكفار معهم الحق كل الحق؛ فإنه مادام أن الله قادر على أن يرزق عباده كلهم، وهو الرزاق ذو القوة المتين.. فلماذا يطلب من عباده أن ينفقوا على بعض عباده ؟ . ولماذا لا يرزقهم هو سبحانه ؟ … وسيؤول بنا المنطق إلى هذا التناقض الصارخ بين قدرة الله على أن يرزق عباده .. وطلبه من بعض عباده أن يجودوا بما عندهم على بقية خلقه ؟ ..
ثم استصحِب الآن المنهج وأسسه، فماذا أنت واجد ؟.. ستعلم أن الله خلق الحياة والموت من أجل الابتلاء. وهذا الأخير يتطلب أن يكون هناك الغني وهناك المحتاج ، لتتم عملية الإنفاق ، فيكون هناك المحسن وهناك المسيء . ولو أراد الله أن يرزق الجميع لفعل. ولكن في هذا التعميم تلاشي لحقيقة الامتحان.
وهكذا يعتدل المنطق بمقومات المنهج، وما يفرضه على المنطق من حقائق ومسلمات وحتى اتفاقيات “le conventionnalisme ” كما هو معمول به في كافة المجالات الرياضية والعلمية.
والمنطق يقول لك أعن إنسانا واشبِع ما تراه فيزيولوجيا يتطلب الاشباع فالأكل والشرب وكذلك الجنس ، أليس هو الآخر بالمطلب الفيزيولوجي ؟ ..
ولهذا أستغرب من بعض التعليقات، القائمة على المنطق الجاف، كالذي يقول: لو وقف الناس على رهبة الموت لما قتل أحد أحدا.. وينسى أن حقيقة الحياة تقوم على وجود الشر والخير .. والإنسان مأمور بالضرب على يد الشر. أو كالذي يقول : ما ذنب الخنزير إذ جعل لحمه حراما، وهو قد خلقه الله ! كأن قضية الوجود كافية لتفسير علاقات التعامل. ولو سرنا على هذا المنطق لما قتلنا العقرب والبعوضة والحدأة ولتجاوزنا هذه المخلوقات إلى الحفاظ على حياة الميكروب ، أليس هو الآخر مخلوق ؟؟ !!..
والأدهى والأمر أن هناك من يتناول حقائق الدين دون أية دراية بأصوله ولا بفروعه ولا براجحه ولا بمرجوحه.. ثم يخلص إلى الشتم والهدم والاتهام.. ومتكأه في ذلك : إن هذا غير منطقي..!
إنه لا بد للمنطق من قفاز ولا بد له من جهاز يهيمن على عملياته ويوجه مسنناته. فإذا غاب هذا الجهاز -الذي هو منهج الشيء المدروس- أهلك المنطق المنطقَ نفسه وصارت حقائقه مرة محرقة ، ومرة غير صادقة ، ومرة فسوق وزندقة.