العادات والتقاليد موجودة في حياة الناس منذ ان كانوا , وهي ليست بالشيء المصنوع وليست بالعقد الموضوع , انها البيئة التي ينشأ بها الانسان ويتربى وتكتمل فيها مواهبه وحركة التاريخ وما تفرزه من احداث , والإنسان كفرد في حكم الزمن هو عملية تواصل ذهاب وإياب بين ابن يولد وأب ذاهب , وللإنسان ميراث ثقافي هائل يتوارثه جيل بعد جيل , هذا الارث الحضاري الثقافي الهائل هو الذي يرثه المجتمع بمرور السنين , وما ورثناه اليوم من الاجيال السابقة في مجتمعنا هو عمل ( الملاية ) وما تقوم بها من اداء حزين يبكي النساء ويجعلهن اكثر حزنا على ارواح اهل البيت الشهداء الطاهرين – عليهم السلام – لتأخذ من المال اكثر , فهي اذآ يجب ان تمتلك صوت شجي حتى تؤدي نشيدها الديني ببراعة صوتية حزينة تؤثر في الطرف الاخر ليدفع لها مالا أكثر على الرغم من عدم اشتراطها مبلغ من المال على الناس في المناسبات الدينية او في حالات الوفاة الشخصية , كما لا يختصر دور الكثير منهن على الوفيات بأنواعها الدينية والشخصية بل ذهبت الى حناء النساء وحفلات الزواج و الولادات لرموز دينية تقرءا فيها اناشيد المدح والثناء الاسلامية بأسلوب الفرح والهوسات العراقية وأداء فيه قليل من الحزن او ما يشبه المديح على غرار ما جاء في مزامير داوود عليه السلام التي كان يؤدها بواسطة المزمار , الا ان الملاية تؤدي مزاميرها وهي ترتدي الملابس السوداء بواسطة سماعة ذات الشحن المؤقت لأنها تعرف ان التيار الكهربائي غير امين في عراقنا الجديد مع التصفيق بالأيادي تؤديه النسوة المستمتعات بالأداء الجيد للملاية من باب التبرك لله تعالى وجلب الرزق لآهل الدار 0
وقد اخذ عمل – الملاية – في مجتمعنا صفة الاحتراف لان عملهن لم يأتي من فراغ او دون توجيه وتثقيف من جهات متخصصة قامت بتدريبهن وتثقيفهن وتوجيهن ثم اداء الامتحان لهن وإعطائهن شهادة المهنة والمكافئات المالية لكي تؤدي دورها ليس الانشادي فقط وإنما دورها التبليغي بتعليم القرآن للنساء وتثقيفهن بأمور الدين والدنيا الفقهية من المحللات والمحرمات , وتوزيع الادعية والكتب الدينية عليهن , اذن عليها ان تمتلك مستوى تعليمي جيد يؤهلها لأداء رسالتها التبليغية في المجتمع , ولم تكتفي بذلك بل قامة بفتح حسينيات لهن خاصة بالنساء يؤدين فيها شعائرهن الحسينية , تدار تلك الحسينيات النسوية من قبل نساء فقيهات بالدين وأداء الشعائر الاخرى , لان المرأة بما تمتلكه من مزايا لعلها أقدر من الرجل في التقرب الى الله تعالى بما لها من فراغ وخلو حياتها من المشاكل الكثيرة المبتلى بها الرجل ولطبيعتها العاطفية ولصبرها على تربية الاولاد 0
عمل الملاية من الموروث الشعبي القديم لم ينقطع منذ استشهاد الامام الحسين – عليه السلام – في واقعة الطف المعروفة تاريخيا , الا ان عملها مر بمراحل انقطاع وتواصل حسب الظروف السياسية التي مر بها البلد , كون عمل الملاية يعتبره البعض نوع من انواع التثقيف الديني -السياسي التي تتعارض مع افكاره وتوجهاته الايدولوجية , لهذا منع النظام البائد عمل الملايات طيلة ( 35 ) عام من حكمه البغيض الا ما جاء بالخفية والسرية التامة , لكنه عاد الى السطح بعد سقوط النظام في 9/4/2003 0
رٌزق الملاية لا يتوقف على موسم معين على الرغم من ان موسمها الذهبي شهر محرم الحرام ذكرى استثهاد سيد الشهداء (ع ) وصحبه الأبرار , فهناك مجالس عزاء لاستشهاد وولادات بقية ائمة ال البيت الاطهارعليهم السلام , كذلك مجالس العزاء الشخصية والإعراس بعد شهر صفر والمولد النبوي الشريف , معتمده اسلوب التهييج العاطفي عن طريق الحكايات المنمقة والمقدسة حتى يؤدي الكلام وظيفته من خلال التأثير في النفوس قبل العقول ومن خلال التكرار المستمر للحدث وللأفكار نفسها على مسامع الناس.
لقد استمعت الى أحداهن وهي تقرأ في كل مناسبة دينية منذ عشر سنوات حتى اليوم , تعيد وتكرر نفس الكلمات السابقة ونفس الحكايات , لكنها صيغت بأسلوب دراماتيكي أخر عليه ثوب القداسة والوجوب المطاع , جميعها تصب في خانة التثوير العاطفي والهياج المذهبي والحقد والكراهية على التاريخ وعلى فئة حاكمة وحكومات سادت ثم بادت , حتى أطفال المنطقة الذين كانوا يستمعون اليها وهم بعمر خمس سنوات واليوم هم بعمر خمسة عشر سنة لاحظتهم يرددون مع بعضهم البعض نفس كلمات وهوسات الشيخة القارئة 0
هذا التلميذ الذي كان يردد ( البلبل الفتان… يطير في البستان ) نراه اليوم يردد ((رخصناه مو غالي الدم )) وهو في طريقة الى مدرسته الابتدائية 0
فالملاية الناجحة هي التي تحرق جو الغرفة بالشجن والبكاء والعويل واللطم , حتى تكون محل فخر واعتزاز من قبل صاحبة المأتم لتعطيها اكثر ولبقية النساء الحاضرات ليدفعن لها تبرعات اكثرمن المال لأغراض الثواب والتبرك 0
/ أم ريحان / أمرآة من ميسان كانت – ملاية – او ما تسمى سابقا شاعرة معروفة بصوتها الشجي الحزين ايام الخمسينيات من القرن الماضي تقرءا في المآتم الشخصية والمآتم الحسينية بكل حرية ودون استخدام جهاز المايكروفون والحقيبة السوداء وتؤدي اشعارها الحزينة على ظهر قلب دون ان يكون عندها كتاب او دفتر كما موجود في مكتباتنا الحالية من سيناريوهات للقراءة الجاهزة , تقوم بتأليف الاشعار والهوسات بلا تلقين من احد , فهي شاعرة ومؤدية بنفس الوقت , وعند دخولها احد المآتم تتلقى النسوة بهوسه عراقية تمتدح فيها المتوفى او المتوفية وترفع من شأنهما حتى تأخذ مال أكثر وخاصة اذا كان المتوفى متعرض لحادث قتل متعمد من الاخرين ( شجابك للسم تلعب بيه 000 السم مضغتنه ونلهم بيه ) وإذا كان المتوفى امرأة تمتدحها بالأهزوجة التاليه ( عليج أنكَاب والبيرغ يشيلونه ) 0
وكما هو معروف عن المجتمعات( القبلية – شبه الدينية ) : هي اقل المجتمعات حركة واقلها تغييرا وتبدلا كون الانسجام فيها كامل من عادات موروثة يقبلها الجميع ولا يفكر احد في الخروج عليها , وصور من الولاء والطاعة العمياء لا يفكر احد في استنكارها الآ سراَ , وقواعد من السلوك لا احد يخرج عنها او يحرك ساكنا لتغييرها لان ذلك من المحرمات وليس من المستحبات , وهذا يذكرني بالكاتب الهولندي الكبير ارازمس ( 1466 – 1536 ) الذي تنقل بين باريس وانكلترا وألمانيا وايطاليا وسويسرا المتوفى فيها , عندما انتقد القيم الدينية والسياسية السلبية في عصره بأسلوب ساخر للغاية موضحا استهتار القساوسة المسيحيين وانغماسهم في ملذات الحياة المختلفة تحت واجهات شتى اذ يثير الضحك بقوة وبذكاء خارق في اعماق القارئ على تصرفات المنافقين والدجالين والجهلة منهم ويكشف لهم نواقص الكنيسة ورجال الدين آنذاك مما ساعد على انضاج حركة الاصلاح الديني في المجتمع الأوربي في عصر النهضة 0
وهنا لا بد من الميل الى استخدام العقل والتعليم المستمر لدفع الناس الى الطريق السوي , لان عقل الانسان اسمى شيء في الوجود 00 ومرة اخرى وفي عصر التكنولوجيا وعلوم الاتصالات وتقنية المعلومات التي حولت العالم الى قرية صغيرة في القرن الحادي والعشرين تثبت العقيدة الدينية اهميتها ومقدرتها على خلق الدول ونهضة الشعوب بأسلوب حضاري جديد