بما أن الإستبداد هو إستعباد للعقول والسيطرة علی الأفكار نری الأصول الغير عقلانية، التي لا تخضع للجدل والنقاش، هي أمر و تسليم و إمتثال بقدر ما هي نص و إيمان و إعتقاد. في الإستبداد هناك إدعاء للحاكم بأمره للألوهية يمارس المصادرة والإستكبار و الإنتقام كيفما يشاء و متی ما يشاء، بصورة تحول المجتممعات الی معسكرات و العكومات الی أنظمة شمولية تهیمن علی العياة في مختلف مجالاتها. أما فيما يخص الأصولية الدينية فهناك شعار يطرح مفاده الحاكمية الإلهية أو الحكومة الإسلامية. هذا يعني إقامة حكومات أو أنظمة علی أساس ديني تجمع فيها السلطة السياسية و الدينية أو المادية والرمزية و لنا في المنطقة أمثلة علی ذلك. و الحصيلة في كلتا الحالتين هي إستبداد مضاعف و حجب مركب يمارسه أصحاب السلطة، يدّعون بأنهم حملة صفات أو مهمات إلهية أو أنهم ناطقون بإسمه بها ينتهكون الثوابت بتغيير الإتجاهات من النقيض الی النقيض وهكذا يتستطيعون تنفيذ مشاريع مستحيلة تعود عليهم وعلی المجتمع ضرراً ووبالاً أو قهراً و ظلماً أو خراباً و دماراً، كما شاهدناه بالأمس في كل من افغانستان و السودان و ليبيا و دول أخری ونشاهده اليوم في سوريا. في عالمنا الحديث بفلسفاته العلمانية و رواياته العقلانية أو بأدلوجاته العالمية و تهويماته الإنسانوية لايمكن للحكومات ممارسة السلطة بإستخدام أقنعة مزورة فقدت المصداقية و المشروعية بالأخص في إطار مواجهة التحديات الداخلية أو في إدارة العلاقات و الصراعات مع الخارج. فعندما يشعر الفرد في مجتمع ما، بأن كرامته لا تراعی و لا تصان ليس فقط بسبب الفقر و العوز، بل بسبب إنتهاك القوانين والتمييز في المعاملة بين مواطن و آخر و الشعور الدائم بالإنتماء الی بلد يفتقر الی المصداقية والمشروعية في نظر المجتمع الدولي ينبثق في داخله إحساس بالمهانة يدفعه للثوران و الإنتفاضة و هكذا يكسر عقدة الخوف و جدار الصمت ليطالب بالحد الأقصی من حقوقه، الأمر الذي يفسر ميلاد ثورات في أكثر من بلد عربي يسميه البعض جهلاً بـ”الربيع”. بالثورة يستعيد المرء ثقته في نظر نفسه و يمارس جدارته لينتزع الإعتراف بمشروعيته في نظر الآخر والعالم. الكائن العاقل يقيم في حاضره و يعيش واقعه، بقدر ما يتوجه نحو المستقبل. إن استخدام هويات مغلقة و ثوابت معيقة لبناء جدران الأنظمة السياسية المبنية علی أفكار أحادية، إستبدادية، شمولية و أصولية هو العمل علی إعادة الأنظمة الديكتاتورية المغطاة بعباءة الإيديولوجيات المقدسة لممارسة البيروقراطية المركزية الفوقية من جديد التي لا تؤمن بقواعد الشراكة والتوأمة والحماية والرعاية، فكيف بممارسة التقی والتواضع و الإعتراف والزهد. الحركات الأصولية بدعاواها المزيفة بأنها تتماهی مع السلف و زعمها الباطل بأنها تسعی بإخلاص الی خدمة دين الله و شريعته لا تقتنع بالإستنارة واللبرالية في مجال القيم والحريات و لا التشابك والتواطؤ بالرغم من الفتح الكوني المتجسد بثورة الأرقام والإتصالات، التي تغيرت معها شيفرات التفكير و برامج العقول و خرائط المعرفة وقواعد المداولة. كيف يمكننا تفسير كل هذا الخراب و الإفلاس في الشرق المتوسط، مادامت مبادیء الأصوليين و المستبدين مثلی وقيمهم سامية و زعاماتهم ملهمة و قياداتهم فذة؟ الأولی أن يحملون المسؤولية عن أنفسهم، بعيداً عن التهويمات اللاهوتية والتشبيحات الغيبية، للتعامل مع الماضي بوصفه تجارب و خبرات بشرية يمكن العمل عليها و إستثمارها، لا كسلطات تمارس الأحادية والإحتكار أوالوصاية و المصادرة أوالهيمنة و الإلغاء، تلغم و تسمّم صيغ التعايش بين الناس لإعادة المجتمع الی الوراء بعد قرن و نيف من الإندراج في عصر النهضة و رفع شعارات التحديث والتنوير والتقدم. وختاماً: لكي لا تذهب مصالح العباد والبلاد الی الجحيم ولكي لا تتواطأ الأنداد علی صناعة الدمار لحصد المآزق و الخسائر و الكوارث علی أفراد المجتمع أن لا تذوب في حشود تؤله الزعماء و تتعبد القادة علی سبيل التحزب والتعصب و لاتدعم التفكير الطائفي الكاريكاتوري المتحجر و العقيم، التي تنصب جدران الكره و الحقد فيما بين المجتمع وتصوغ قواعد الفكر العنصري الفاشي والعدواني. فالإنفتاح والتعدد والديمقراطية تفتح الفرص والآفاق أمام القوی الحية والديناميكيات الخلاقة وتؤدي الی كسر الحدود بين المجتمعات والقارات والثقافات لتنتج أخيراً نظام سياسي عصري قادر علی قيادة المجتمع نحو برّ الأمان.