حينما يصل الشعور بالانتماء إلى العرق مستوياته العليا يكون قد بدأ بإلغاء الآخرين لحساب ذلك الشعور، ومن خلاله يدخل تدريجيا إلى مرحلة التعصب الأعمى، الذي يمقت أي عرق آخر ويتصور بأنه العرق الأنقى والأكثر حقا بالعيش والاستحواذ على السلطة والمال وفرص الحياة من الأعراق الأخرى،
التي ينظر إليها المتعصب وكأنها مخلوقات اقل آدمية منه، ولأجل ذلك دفعت البشرية نظير ذلك الشعور عشرات الملايين من البشر قتلى ومعاقين وعبيد، منذ أن صنف بعض المفكرين أو السياسيين البشر إلى أصناف راقية وأخرى حقيرة أو إلى طبقات غنية أو فقيرة، ووضعت أسسا للعداء والانتقام بينهم،
كما حصل في القرنين السابقين التاسع عشر والعشرين على أيدي الامبرياليين والمتطرفين اليساريين والنازيين والفاشيين في اوربا، وانعكاسات ذلك على نشوء أحزاب وحركات وعصابات عنصرية مقيتة أبادت تحت تلك الشعارات ملايين البشر.
ومن تداعيات تلك الأفكار انتشرت في شرقنا عموما مشاعر تقترب أحيانا كثيرة من الأفكار الشوفينية، وأحيانا أكثر من الشعور الطبيعي بالانتماء إلى عرق معين أو قوم ما، بما نستطيع أن نطلق عليه بالشعور القومي المفرط الذي بدأت أولى براعمه مع انهيار الدولة العثمانية وظهور الطورانية السياسية بقيادة كمال أتاتورك في تركيا الحديثة، ومن ثم في العراق وسوريا والعديد من بلدان الشرق الأوسط التي استخدمت أنظمتها السياسية شعورا قوميا مفرطا تجاه المكونات العرقية المختلفة عنهم قوميا ودينيا او مذهبيا، حيث تعرض الأرمن والكورد والشيعة والايزيديين والمسيحيين واليهود والبهائيين إلى أبشع أنواع الصهر والإلغاء والتهجير، بل وحتى الإبادة الكلية كما حصل للأرمن والكورد نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين،
وتبعتها عملية التتريك والتفريس والتعريب سيئة الصيت لمعظم المكونات العرقية المختلفة في كل من تركيا وايران والعراق وسوريا، أنتجت جميعها عمليات إبادة جماعية وثقافية منظمة كما في حرب الأنفال التي أبادت أكثر من ربع مليون طفل وامرأة وشيخ من كوردستان العراق، وفي كل الأحوال لا يمكن أن تكون هناك مشاعر مفرطة خارجة عن السيطرة ما لم ترتقِ في مرحلة من المراحل إلى مشاعر شوفينية وفاشية تؤدي إلى ما ذهبت إليه هذه الأنظمة، سواء في العراق أو سوريا وما ستنتهي إليه الأنظمة المشابهة لها في ايران وتركيا والدول التي تهمش الامازيغ وغيرها من المكونات سواء في افريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية، حيث الحروب والتطاحن والتخلف وضياع فرص ثمينة للارتقاء إلى مستويات آدمية مدنية متحضرة.
إننا اليوم نواجه تحديات خطيرة جدا إثر ولادة منظمة ما يسمى بالدولة الإسلامية (داعش) من رحم تلك الأفكار العنصرية المتعصبة دينيا وقوميا، ونجاحها في تمزيق ما تبقى من أنسجة الترابط بين المكونات في معظم المناطق التي سيطرت عليها عسكريا أو فكريا، ولم تعد اليوم على سبيل المثال أي فكرة ممكنة للتعايش بين الكورد الايزيديين والذين تسببوا في إبادتهم وسبي نسائهم على الشكل الذي كانت عليه سابقا، وكذا الحال مع المسيحيين والشيعة والعلمانيين،
مما يتطلب تقديم حلول واقعية بعيدة عن الأوهام، تضمن أن لا تقع هذه المكونات ثانية فريسة بيد منظمات إرهابية متوحشة بأسماء دينية أو قومية شوفينية أخرى، حيث دفعت شعوب الدول متنوعة المكونات القومية والدينية في الشرق الأوسط، بحورا من الدماء تحت مظلة الوطن الواحد والشعب الواحد، وقد أثبتت تجربتها خلال ما يقرب من قرن من الزمان، وبمختلف أشكال النظم السياسية التي حكمتها، فشل إقامة دولة المواطنة بمنظور مدني متحضر، وعليه فقد آن الأوان للمجتمع الدولي ومؤسساته، أن يستفتي هذه المكونات العرقية والقومية والدينية والمذهبية على مصيرها وشكل الحكم الذي تريده سياسيا وجغرافيا لضمان حياتها وأمنها وتطورها، وبدون هذا الخيار سننتظر حروبا أكثر شراسة ووحشية في ظل حكومات القومية المفرطة والتدين الأعمى!