من القرارات التي يفتخر بها المرء ويعتز بها، وهو مشرف على الخمسين من عمره، دخوله معهد العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالجزائر سنة 1986. وقد تحدث عن فضائله ومزاياه لأكثر من واحد. واليوم وبعد مرور 29 سنة على إنضمامه للمعهد، يكتب عن أيامه التي قضاها بالمعهد، وتأثره الشديد بعلم العلوم السياسية..
نجحت في شهادة البكالوريا في جوان 1986، ودخلت معهد العلوم السياسية في أكتوبر 1986، بعد إجتياز إمتحان كتابي ضم في حدود 1000 طالب، ونجح 200 طالب، فكنت ضمن الناجحين.
مابين المعهد والحي الجامعي.. يقع معهد العلوم السياسية والعلاقات الدولية، ببن عكنون بالمنطقة المعروفة بـ ITFC، ويضم يومها معهد الإعلام والاتصال، حين كانا منفصلين لكل منهما مدير وإدارة مستقلة.
كانت البناية بالبناء الجاهز، ذات مساحة صغيرة جدا، وفناء يكاد ينعدم لضيق المساحة. مدرج وبعض الأقسام. نعاني صيفا من الحرارة وشتاء من تسرب مياه المطر. كل مافي البناية قديم يصلح للهدم وإعادة البناء. لكنه في وسط العاصمة وقريب من كل المرافق، وهذه تعوض عنه القدم، وتشفع له.
غرفتي كانت بحي بن عكنون، والذهاب والإياب إلى المعهد كان عبر السير على الأقدام لقرب المسافة، ولتعودي منذ الصغر وما زلت على المشي ولو طالت المسافة.
وأثناء الذهاب والإياب، أمر عبر المساكن الفخمة الضخمة، ليقال لنا يومها.. هذه للوزير الفلاني السابق، وتلك للوزير الحالير، وأخرى لصاحب النجوم، وأخريات للسفير. وأتذكر جيدا أني بالصدفة وأنا أمر كعادتي، إذ بالباب الخارجي والبعيد جدا جدا عن الدار، إذ بدار كبيرة تحاذي الباب الرئيسي، ظننتها لحارس البناية، إذ بزميلي يردني قائلا.. إنها دار الكلب.
وأعترف وأنا القادم من وسط البلاد ومن أسرة ميسورة الحال، أني لأول مرة أرى مساكن بهذه الضخامة، وكانت تفوق بكثير المساكن التي رأيتها في تلمسان لأول مرة عقب زلزال 10 أكتوبر 1980.
كنت أمر عبر الطريق الوطني المؤدي إلى المعهد، وكانت مجازفة يومها لم يشعر بها الطالب إلا حين أصبح أب لأربعة، وتلك من أخطاء الصغر التي حفظ الله أصحابها، وعلى قارئ هذه الأسطرأن يأخذ من نصيحة المعاني المجرب، وهو الآن أب لأربعة، باستعمال السلم أو القنطرة الرابطة بين المعهد والحي السكني، وعلى الدولة أيضا أن توفر لأبنائها مايسهل لهم قطع الطريق واستعماله بأمان وعافية.
قسم الأمم المتحدة.. كان معهد العلوم السياسية والعلاقات الدولية هو الوحيد في الجزائر، لذلك كان يضم كافة أبناء الجزائر ومن كل ولايات الجزائر دون استثناء، ناهيك عن طلبة قادمين من إفريقيا بأقسامها، والدول العربية، وبعض الجنسيات لايحضرني الآن إسمها.
فالطالب حين يدخل المدرج، يخيل له أنه في مجلس الأمم المتحدة لتعدد الجنسيات، وهذه ميزة تساعد وتشجع، ولا تجدها في جامعة أو معهد آخر. وكم من مرة عملت مترجما لبعض الأفارقة الذين لايتقنون اللغة العربية، بل إن أحدهم طلب مني أن أساعده في شرح الدروس باللغة العربية. وهناك ليبي كان يطلب مني أن أكون لها مترجما مساعدا، لأن لهجته سريعة جدا لايفهما محدثه الجزائري، وقد قدمت له خدمات في مجال الترجمة الفورية، وصياغة كلامه إلى لغة فصحى يفهمها الجزائري.
أساتذة المعهد.. أساتذة معهد العلوم السياسية يومها، كلهم خريجو المدرسة الأمريكية والإنجليزية، لذلك كانت مراجعهم كلها باللغة الإنجليزية. ومن وصايا الأساتذة التي تكررت على مسمع الطلبة..
عليكم بالمدرسة الأنكلوسكسونية لأنها تمتاز بالواقعية والدراسات الكمية والمباشرة في الفكرة والهدف، وابتعدوا قدر ماتستطيعون عن المدرسة الفرنسية والعربية، لاحتوائها على الإطناب والمبالغة وعدم الواقعية، وسيطرة العاطفة على العقل.
علماء ومفكرين.. أفتخر وما زلت بكوني درست عند علماء ومفكرين في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، وهم..
عالم الاجتماع أستاذي جيلالي يابس، رحمة الله عليه، وقد أفردت له مقالا مستقلا بعنوان: “أستاذي وعالم الاجتماع: الجيلالي اليابس”، http://www.elhayat.net/IMG/pdf/pdf_66.pdf.
وعالم المستقبليات أستاذي وليد عبد الحي، أمد الله في عمره، وقد أفردت له مقالا مستقلا بعنوان: “ أستاذي: وليد عبد الحي من خلال أقواله”،http://www.odabasham.net/show.php?sid=77&cat=a517
ميزات العلوم السياسية.. حين يحب المرء علما يبدع فيه ولو أغلقت الأبواب في وجهه، وهذا شأني مع العلوم السياسة. فما زلت أرى أنها أم العلوم وأحسنها، ومن تعلمها فقد نال فضل كبير، ومن لم يتعلمها فقد فاته المثير. ولعل من أبرز ميزاتها، وهذه الأسطر إحدى ميزاتها الظاهرة، هي..
الإطلاع الواسع.. تمتاز العلوم السياسية بكثرة الإطلاع على مختلف الكتب والمجلات والدراسات، لأن التطرق للفكرة يحتاج لكم هائل من المراجع.
عدم التمييز.. يمتاز دارس العلوم السياسية في أنه يقرأ للجميع ويسمع للجميع، دون تمييز ولا إبعاد. فما يهم هو الفكرة العميقة بغض النظر عن صاحبها واتجاهاته.
اللغات الأجنبية.. الأنكلوسكسون هم أرباب العلوم السياسية. يملكون مدارس رائدة، ومفكرين أبدعوا في جانبي الوصف والتحليل، ومجتمع ساهم ويساهم بمستواهم العالي ونقده العلني، وواقع عملي متجدد طموح، لذلك تصبح اللغات الأجنبية مفتاح ضروري لفهم مختلف المدارس والتوجهات، والوقوف على مختلف التحاليل المختلفة المتضاربة.
التحليل.. لاتعتمد العلوم السياسية على الحفظ، إنما تعتمد على تحليل الظاهرة وتجزئتها وربطها ببعضها، وعدم الاكتفاء بمصدر واحد.
كن سيء النية.. لانية في العلوم السياسية، فالسياسي لا يحاكم بحكم نيته، ولا يتعامل المتتبع مع الخبير والمفكر وفق النية، إنما تتعامل مع الفكرة وصاحبها والجهة التي من وراءها وفق القاعدة التي يذكرها دوما أستاذي وليد عبد الحي، ألا وهي .. كن سيء النية تكن جيد التحليل.
إستنطاق الخريطة.. تعتمد العلوم السياسية على استنطاق الخريطة الجغرافية، وقراءة الأحداث عبرها من خلال تصرفات الجيران وبعدها وقربها من البحار والمحيطات، ومدى توفر المعادن وتوزيع السكان. ومن خلالها يتم التحليل وإبداء الرأي. ففهم الخريطة بأشكالها وأنواعها وقراءتها قراءة جيدة واستنطاقها، تعطي للمتتبع نظرة شاملة واقعية صادقة.
متابعة الأحداث.. المتتبع المثابر يتابع الأحداث عبر مختلف وسائل الإعلام المحلية والدولية، فتسمح المتابعة الشاملة بالنظرة الشاملة والدقيقة.
الأحداث الوطنية.. متابعة الأحداث الوطنية من نواحي الأشخاص والأفكار والأماكن والأحداث والسلم والنزاعات، تسمح لطالب العلوم السياسية بمعرفة وطنه، وبالنظرة الثاقبة فيما يتعلق بموقف وطنه.
الكتابة اليومية.. لايكتفي طالب العلوم السياسية بالقراة والاستماع والمتابعة، بل لابد من ممارسة الكتابة اليومية، وتسجيل ألحداث، ونقدها وتحليلها بقدر مايسمح به الظرف والمعلومات الواردة والشجاعة المتوفرة ودرجة الانفلات من الضغوط والإغراءات. والكتابة اليومية تحرر صاحبها من التبعية، والانقياد وراء فكرة بعينها أو شخص بذاتها.