العلاَّمة ألفونس منكانا وتاريخ أربيل لمشيحا زخا
من المعروف أن الكلدان والآشوريين الحاليين الجدد لا علاقة لهم بالقدماء، إنما هم سريان لكن الغرب (روما والإنكليز) انتحلوا لهم حديثاً اسمي كلداناً وآشوريين لأغراض سياسية طائفية عبرية، وذكرنا ذلك أكثر من مرة.
ولد العلاَّمة السرياني ألفونس منكانا لعائلة سريانية شرقية (كلدانية) في قرية شرانش محافظة دهوك في العراق في 23 كانون الأول 1878م حسب الوثيقة العثمانية (في بعض المصادر ولادته في 1881م)، واسمه الحقيقي هرمز بن بولس منكانا، وكان والده كاهناً في الكنيسة الكلدانية، دخل معهد مار يوحنا الحبيب في الموصل وتثقف في العلوم الفلسفية والتاريخية واللغات الشرقية، رسمه البطريرك عمانوئيل الكلداني كاهناً باسم ألفونس سنة 1902م، ومارس الخدمة الكهنوتية مدة قصيرة في قريته، وكان منكانا أحد طلاب المطران العلاَّمة أوجين منا الكلداني صاحب القاموس الشهير (دليل الراغبين في لغة الآراميين) المطبوع سنة 1900م، والذي يؤكد فيه المطران أن الكلدان والآشوريين الحاليين هم سريان (ملاحظة مهمة: أُعيد طبع القاموس سنة 1975م بتمويل من ابن عم بطريرك الكلدان روفائيل بيداويد واسمه متي بيداويد وهو متعصب اشترط التمويل بكتابة قاموس كلداني عربي وعلى الغلاف فقط)، وقد شغف منكانا بالتاريخ السرياني واللغة السريانية وتبحر فيهما وعُيِّن أستاذاً للغة السريانية في معهد مار يوحنا، وعكف على جمع المخطوطات السريانية وأخذ يتجول في المكتبات والكنائس وحتى بيوت الناس لجمع المخطوطات والمجلدات القديمة عندهم، وجمع كثيراً منها ونشرها فيما بعد علماً أن قسماً منها احترق في الحرب العالمية الأولى، وسنة 1903 أُنيطت به مهمة تصحيح مطبوعات مطبعة الدومنيكان في الموصل، وسنة 1905م نشر كتابين مهمين هما، قواعد اللغة السريانية، وميامير نرساي السرياني، مع مقدمة عن سبب تأسيس المدارس (مدرسة نصيبين) لبرحذبشابا العربي، وسنة 1907م اكتشف منكانا تاريخ أربيل أو مشيحا زخا 550م تقريباً، ونشرهُ بالفرنسية، وقد حاول بعض رجال دين كلدان وبعض المستشرقين معاداة منكانا وكتابه والتشكيك به في البداية شأن أي كتاب جديد خاصةً أنه لا يوافق آراءهم الطائفية والسياسية التي أثبت منكانا أن كنيسة المشرق هي أنطاكية سريانية، ولذلك حصلت له مشكلة مع البطريرك الكلداني، وهجر العراق إلى بريطانيا سنة 1913م.
في برمنكهام حلَّ في ضيافة الباحث رنديل هاريس ثم انتقل إلى كلية سيلي أوك لتدريس العربية والعبرية، بعدها صادق عدداً من الباحثين الإنكليز المهتمين بالتراث السرياني مثل، اكنيز سميث لويس، مركريت دانلوب، دافيد صمؤئيل ماركوليث، ونشر معهم عدداً من المقالات وتواريخ المسيحية المبكرة، وكانت له مكانة خاصة عندهم، وفي 7 تموز 1913م أنهى بحثه أناشيد سليمان، وفي تشرين الثاني منه اكتشف مع زملاء انكليز باحثين في التراث السرياني مخطوطات قديمة من القرآن تعود لزمن الخليفة عثمان بن عفان، وسنة 1915م التحق بمكتبة جون لايند، وعاش في مانجستر سبعة عشر عاماً وعمل محاضراً للغة العربية في جامعتها إلى سنة 1923م، وعندما أراد البروفسور الشهير دافيد صمؤئيل مراكوليث في جامعة أكسفورد التقاعد طلب أن يحل منكانا مكانه، لكنه اعتذر، وفي مرحلة الحرب العالمية الأولى طلبت منه وزارة الحرب البريطانية عمل قاموس لمساعدة قواتها في الشرق، فألَّف قاموساً فارسياً، كوردياً، أرمنياً، تركياً، سريانياً، كما عمل رقيباً على رسائل اللاجئين السريان الشرقيين (الآشوريين)، وفي سنة 1922-1923م نشر لأول مرة في التاريخ كتاب الدين والدولة لسهيل علي بن ربن الطبري المولود سنة 760م تقريباً، وهو طبيب مسيحي نسطوري اعتنق الإسلام وصاحب عدة مؤلفات منها فردوس الحكمة، والرد على أصناف النصارى، وقد حاول بعضهم التشكيك في الكتاب، لكنه ثبت أن منكانا كان مصيباً في أصالته لكتاب سهيل الطبري، وكتب عن الكتاب بحثاً في أعمال الأكاديمية البريطانية، المجلد السادس عشر، ثم طبعت الكتاب دار الآفاق الجديدة في لبنان سنة 1982م، والحقيقة أن كتاب الدين والدولة مهم جداً حيث ترد فيه مقاطع من أول ترجمة عربية للكتاب المقدس في التاريخ كان يعتقد أنها مفقودة (الخوري بولس الفغالي، المحيط الجامع للكتاب المقدس والشرق القديم، ص338). وهي الترجمة التي قام بها البطريرك الأنطاكي السرياني الأرثوذكسي يوحنا الثالث أبو السدرات (631–648م) نحو سنة 643م استجابة لرغبة عمير بن سعد بن أبي وقاص الأنصاري الأوسي أمير الجزيرة حين استدعى الأمير البطريرك يوحنا، وسأله عن روح الكتاب المقدس، فأجابه البطريرك ببراعة وبراهين كتابية، فاندهش الأمير من غزارة علمه وطلب منه ترجمة الإنجيل من السريانية إلى العربية بشرط حذف ما يدل على إلوهية المسيح وعبارة ابن الله وكلمة الصليب والمعمودية، فأجابه البطريرك: حاشا لي أن أهمل حرفاً أو سطراً من إنجيل ربي ولئن اخترقتني سهام معسكرك كلها، فلما لاحظ الأمير شجاعته، قال له: اذهب واكتب كما تشاء، فجمع البطريرك الأساقفة وعلماء اللغة العربية من السريان الأرثوذكس من قبائل طيء تنوخ، عقيل، والكوفيين، ونقلوا الإنجيل إلى العربية وقدموه للأمير (تاريخ ميخائيل السرياني الكبير، ج2 ص328، ويؤكد بعض المستشرقين وجود هذه الترجمة، انظر (جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج6 ص533)، وقد نشر منكانا كتباً كثيرة منها دفاع الجاثليق طيمثاوس +823م عن المسيحية أمام الخليفة المهدي، وكتب مقالات بخصوص الحالة السياسية والاجتماعية في الشرق، ورحل إلى لبنان وسوريا والعراق وإيران سنة 1924م، 1925م لجمع المخطوطات السريانية والتي شكَّلت مجموعة منكانا، وسنة 1925م نشر وثيقة فليكسينوس المنبجي التي أثبت فيها تبعية كنيسة المشرق لأنطاكية السريانية، ورحل سنة 1929م إلى مصر وجزيرة سيناء لجلب مخطوطات كثيرة بلغات متعددة، واستطاع جمع ما يقرب من 2000 مخطوط شرقي، وهو جهد شخصي فريد في التاريخ، وتم نشر مخطوطاته وأعماله بمجلدات عديدة، وتعد مخطوطاته الثالثة في الغرب بعد المكتبة البريطانية ومكتبة الفاتيكان، وتوفي العلاَّمة في 5 كانون أول سنة 1937م غريباً في المهجر.
ألفونس منكانا وتاريخ أربيل لمشيحا زخا
سنة 1907م اكتشف منكانا تاريخ أربيل لمشيحا زخا سنة 550م تقريباً، وهذا التاريخ مذكور في فهارس عبديشوع الصوباوي 1318م، ويثبت هذا التاريخ كنيسة المشرق (الآشوريين والكلدان الحاليين الجدد) هي كنيسة أنطاكية أساساً، ، وقد قامت الكنيسة الكلدانية والمستشرقين بمعاداة منكانا، لنشره الكتاب ولأن منكانا كان عصامياً واتسمت حياته بالمنازعات بسبب نزاهته العلمية وقلِّة دبلوماسيته مع الرئاسة الكنسية الكلدانية والمستشرقين، ففي تحليل منكانا لكتاب تاريخ أربيل، شكَّكَ في قصة أدّي وماري التي يعتمد عليها الكلدان والآشوريون الحاليون في تبشير مدينة ساليق قطسيفون (المدائن) المقر الأول لكرسي كنيسة المشرق، وعَدَّها منكانا أسطورة، وأثبت أن كنيسة المشرق في المدائن هي سريانية أنطاكية، وأكد رسالة آباء أنطاكية السريان لأول أسقف للمدائن فافا +329م، ونشر ذلك في الطبعة الفرنسية سنة 1907م، ص78 ، 122، فطلب منه البطريرك الكلداني عمانوئيل الثاني توما +1947م حذف هذه الأمور كما حاول إيقاف طبع الكتاب، لكن منكانا رفض وأصرَّ على طبعه، وطبعه بموافقة المطران أدّي شير، فساءت علاقته بالبطريرك وغضب البطريرك على منكانا وأدّي شير أيضاً، وعلى إثرها هجر منكانا كلية اللاهوت والكنيسة الكلدانية (ويُقال إنه طُرد) وغادر العراق في ريعان شبابه في 17 آذار سنة 1913م ليستقر في بريطانيا، وقطع علاقاته مع جميع العراقيين باستثناء صديقه الحميم البطريرك السرياني العلاَّمة مار أفرام الأول برصوم (1933–1957م).
أمَّا سبب معاداة المستشرقين لمنكانا فهو أنه كان يستخف بالغربيين وعاملهم باستعلاء واشمئزاز لعدم معرفتهم بالثقافة السريانية ومعاني اللغة السريانية وأبعادها الفكرية وأنهم لا يستطيعون قراءة وفهم السريانية إلاَّ بالعودة إلى القواميس السريانية أو الاستعانة برجال دين سريان خبراء في اللغة، وكان يسخر منهم ويرد عليهم بعنف وصيغ تهكمية ساخرة، ويُسَمِّيهم: (المُتسرينين المعاصرين nos syrologuse modernes)، وقد دحض محاولتهم الطائفية والمذهبية والسياسية لتقسيم السريان وتشويه تاريخهم، وأثبت أن كنيسة المشرق في المدائن هي سريانية أنطاكية، وأن قصة أدّي وماري هي أسطورة، كما أن المستشرقين كانوا يغارون منه فاتهموه زوراً بحجج تافهة منها أنه عندما طبع كتاب ميامر نرساي السرياني سبق اسمه على غلاف الكتاب حرف D.، ففسرها الغربيون أنها لقب دكتور، لكن ذلك غير صحيح لأنه كتب اسمه بالسريانية على غلاف الكتاب (القس ألفونس منكانا) وحرف D. مختصر لكلمة الكاهن باللاتيني (Dominus) التي اعتادت الجامعات الكاثوليكية استعمالها وتقابل كلمة كاهن (Reverend)، لذلك لقد صدق منكانا في استخفافه بالغربيين الذين لم ينتبهوا لذلك.
لذلك ادعى قسم من المستشرقين أن منكانا ألَّفَ كتاب تاريخ أربيل ونسبه إلى مشيحا زخا، وأن شخصاً اسمه أوراها الألقوشي ساعده بذلك، وسانده آخرون، وقاد حركة التشكيك لاحقاً الفرنسي جان فييه الدومنيكي +1995م بأسباب واهية بدون أي دليل على كلامه، ونسي هؤلاء إن كان إدعاؤهم صحيحاً أم لا، فتلك معجزة وأكبر شهادة على أن منكانا كان عبقرياً، فكيف استطاع شاب عمره بحدود 27 سنة تأليف تاريخ نادر بلغة سريانية بليغة ومعلومات كنسية وتاريخية اكتشفت فيما بعد؟، فلو عمل كل العلماء الذين عارضوه مجتمعين لمدة 27 سنة لما استطاعوا تأليف كتاب كهذا، والجدير بالذكر أن صديق منكانا الحميم العلاَّمة البطريرك السرياني الأرثوذكسي أفرام الأول برصوم كان يُشاطر منكانا في رده واستخفافه بالمستشرقين، أمَّا بالنسبة لأوراها الألقوشي +1930م فهو كاهن من بيت إسرائيل الألقوشي من عائلة شكوانا ذات الأصل اليهودي المعروفة بتزمتها الذي لم يرقْ له كلام منكانا وإثباته أن كنيسة المشرق هي أنطاكية حيث كانت قد ظهرت النظرة العبرية من جديد لدى قسم من كُتَّاب ومثقفي كنيسة المشرق بشقيها واسميهما الجديدين الكلداني والآشوري بداية القرن العشرين والقول إن كنيسة المشرق سليلة ووريثة كرسي أورشليم، وقد ساير المستشرقين بمعاداتهم لمنكانا وكتابه بعض كتبة السريان من الكلدان والآشوريين بمحاولتهم جعل كنيسة المشرق نشأت مستقلة عن أنطاكية كالمطران أدّي شير الذي كان معتدلاً إلى سنة 1912م ولكنه تعصَّب لأغراض سياسية واخترع زوراً تسمية كلدو-أثور، وكذلك عاداه البطاركة عمانوئيل توما، لويس شيخو، الأب يوسف حبي، لأغراض سياسية وطائفية، وإلى حد أقل البطريرك دلي الذي قال: إن صَحَّ تاريخ أربيل، فهو الأكثر أصالةً وتماسكاً مع المعطيات التاريخية، أمَّا استعمال البطريرك دلي عبارة، إن صَحَّ، وليس، تاريخ أربيل الصحيح، فسببه أن البطريرك دلي مع أنه معتدل، لكنه لا بد أن يقول ذلك لأسباب سياسية وطائفية ويساير ولو قليلاً ما دَرج عليه كُتَّاب كنيسة المشرق بعد سنة 1912م، ومن طريف الأمور أن المطران بطرس عزيز الكلداني مُترجم تاريخ أربيل إلى العربية في مجلة النجم 1929-1931م، توقف عن الترجمة عندما وصل إلى القرن الخامس بسبب بروز العقيدتين الأرثوذكسية والنسطورية ورموزها في الكتاب، كما أنقل ملاحظتي الشخصية عن جان الدومنيكي أنه كان يحرض الأطفال في الموصل بترك مدرسة مار توما للسريان الأرثوذكس الابتدائية والالتحاق بمدرسة المُنذرية للكلدان الكاثوليك.
لقد أثبتت كل الوقائع صحة تاريخ أربيل الذي نشره منكانا، بل أصبح الكتاب يُعدُّ الأكثر متانة وتماسكاً ومصداقية في تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية على الإطلاق وأجاب عن غموض البداية، والحقيقة أن زخا اعتمد على مؤرخ قبله يُسَمِّيه العلاَّمة هابيل، وطبع الكتاب في مطبعة وزارة التربية أربيل 2001م وقام الأستاذ عزيز نباتي بتحقيق علمي رائع له أثبت بما لا يقبل الشك صحة الكتاب ومكانة العلاَّمة منكانا، فبعد سنين من وفاة منكانا تم اكتشاف آثار لوقائع وتواريخ وظواهر كالكسوف مذكورة في كتاب زخا بدقة كاملة، وقمتُ أنا بتحديد أسماء خمس قرى قديمة من سبعة لم تكن معروفة لمنكانا أو المحقق، وهي: ريشي في كتاب تاريخ أربيل ص55، حيث أنها قرية رشو الأربجية قرب نينوى في دليل المواقع الأثرية في العراق، وزارة الإعلام، مديرية الآثار العامة، بغداد 1970م ص239، وقرية زيرا عند زخا ص58 هي زيورة قرب شقلاوة في الدليل ص20، وقرية تلنيحا (تل نيخا) في كتاب زخا ص112، هي مقبرة قرب عينكاوا التي اسمها تلنيتا في الدليل ص11، ودايرونا ص101، هي ديورنه قرية آشكه، أربيل في الدليل ص20، وبيث بهقرد (مهقرد) عند زخا ص101، هي أسقفية بيت الكورد في مجمع إسحق 410م (مجامع كنيسة المشرق ص78)، وأضيف دليلاً آخر على صحة ومتانة تاريخ أربيل هو استشهاد الأساقفة الأوائل كان من نصوص العهد القديم المعروفة، ثم تم الاستشهاد من العهد الجديد بالتدريج، وهو دليل واضح على وصول وانتشار تعاليم العهد الجديد شيئاً فشيئاً في القرون الأولى، ويُعدُّ دي فريز تاريخ أربيل وقضية نشأة كنيسة المشرق أفضل ما قدم من المصادر، وكل العناصر فيه صحيحة، وهارناك في أعمال الشهداء يجدد تأكيداً للوصف الذي يعرضه تاريخ أربيل بشأن انتشار المسيحية في بلاد فارس، ونفس الأمر عند ساخو الذي يخلص إلى التحقق من الانسجام بينهما، وكذلك أوربينا، وتدعم آراء أفراهاط الفارسي ما جاء في تاريخ أربيل (مجلة بين النهرين 1975م، نشأة بطريركية كرسي المشرق، ترجمة المطران سرهد جمو، مستنداً على هارناك، إرساليات2، ص694، 5، وساخو، انتشار المسيحية في آسيا، أكاديمية المعارف البروسية، قسم الفلسفة والتاريخ، برلين 1919م، ص10، ألماني).
وشكراً/ موفق نيسكو