لم يتحول بلد على مرّ التاريخ تقريبا الى سوق يتاجر فيه الفاسدين من تجار السياسة بكل شيء سوى العراق، ولن يرينا التاريخ على المدى القريب سوقا يبكي روادّه سارقيه وهم يحملون لهم مسروقاتهم كما شعب العراق. ولم يرينا التاريخ الا نزرا سوقا لا يوجد فيه من يحمل شهامة ورجولة ليقف بوجه اللّصوص ويصطف معه كل المسروقين والمنهوبين الا العراق. وسيقف التاريخ لأمد طويل متعجبا من رواد هذا السوق الذّين يتقاسمون فيه الذل والجوع بإنقسامهم في الوقوف الى جانب هذا اللص او ذاك، ولا شك أن التاريخ سيقص على أجيالنا القادمة قصّة “ألف حرامي وحرامي” بدلا من “ألف ليلة وليلة” أو لسنا نفس ذلك الشعب ونحمل ذات التراث؟ ولكن في القصّة القديمة كانت هناك “كهرمانة” وهي تصب الزيت على الحرامية بعد أن أشّرت على دورهم في “خضرائهم”، أمّا اليوم فإن “كهرمانة ” جارية تباع وتشترى في سوق نخاسة اللصوص أو خليلة عندهم بخضرائهم في أحسن الحالات!
منذ الإحتلال لليوم حوّل اللصوص العراق الى بازار يباع فيه كل شيء، ففيه بعنا الوطنية لصالح الدين والقومية، وفيه بعنا الدين لصالح الطائفة، وفيه بعنا الطائفة لصالح الميليشيات ، لكي تحمي اللصوص ليعيدوا دورة السرقة والقتل من جديد . في هذا البازار الذي هو أشبه بـ “سوق الهرج” بعنا حتّى أعضاء أطفالنا الصغار وليرحل مع تلك الأعضاء فرحهم وطفولتهم البريئة الى الأبد. في هذا البازار بعنا تأريخنا الموغل بالقدم ففتحنا مواقعنا الأثرية لينهبها لصوص محترفون أو ليدمرّها لصوص وقتلة جئنا بهم نتيجة حمايتنا لهذا اللص مقابل لص آخر. في هذا البازار بعنا ثروات أجيالنا القادمة لصالح مجرمين وقتلة ولصوص ليس لشيء الا كونهم من طائفتنا، في هذا البازار بعنا ضمائرنا مقابل “بطانية” ليستمر اللصوص بسرقتنا. في هذا البازار “يقشمرنا” لص بصلاة وآخر بتقديمه لنا صحن من الطعام وثالث بـ “چكليته” !!
في هذا البازار دمّرنا مدارسنا وأنشأنا بدلا عنها آلاف المساجد التي لم تصّدر لنا الّا الجهل والتخلف والحقد والكراهية والموت، في هذا البازار تعلّمنا تقبيل يد السارق بكل ذل كونه “تاجر دين أو شيخ عشيرة”. في هذا البازار بعنا أعراض نسائنا وفتياتنا في دور بغاء دينية بعد أن هدّهن الفقر والعوز، في هذا البازار وقفنا ببلادة ننتظر من اللصوص أن يعيدوا لنا شيئا ممّا سرقوه، يا لخيبتنا أيعيد اللص مالاً سرقه!؟ ومتى وقف اللص الى جانب المسروق، ولماذا سرقه أساساً ؟
لقد أنهك اللصوص أساسات البازار ولم تعد تتحمل أية عمليات ترميم، فالأرضة نخرت فيه كل شيء من الآجر الى الأرض الى المياه بل وحتّى السماء، وعندما لا تتحمل الأساسات عمليات الترميم لا يبقى لأعادة البازار الى حالته الأولى قبل أن يغزوه اللصوص الا الهدم والعمل على بناء بازار جديد ذو أساسات قوية قادرة على تحمل البنيان الجديد.
إنّ أي عملية إصلاح لهذا البازار بوجود اللصوص فيه هو ضرب من الخيال، ولنتساءل بعيدا عن الطائفة والقومية وتأثير لصوص الله ومعهم تلك المؤسسة المتخلفة التي أسمها العشائر، إن كان هناك مسؤول في هذا البازار لم يسرق أو يقتل أو يغتصب؟ إن البازار لا يحتاج الى إصلاح بل إعادة بناء جديدة على أنقاض ما هدّمه اللصوص، وإن كان الإصلاح أمرا لا مناص منه فلا يجب أن يأتي من زمرة اللصوص هؤلاء ، لان “الإصلاح” في هذه الحالة يجب أن يوافق عليه جميع اللصوص ضمن حزمة واحدة لا تخرج بعيدا عن مصالحهم الشخصية والحزبية والفئوية، إن الإصلاح الذي يريده اللصوص لرواد هذا البازار هو في أعادة ترتيب اللصوص ضمن نفس القائمة التي هيمنت وتهيمن على حكم البازار. إن تجار الله ومعهم تجار القومية والبعث وأيتامه باعوا كل شيء في هذا البازار ، فمتى يبيعون البازار نفسه؟
علموني الكفر بكل شيء – “خليل الكافر” – من قطعة قصصية لجبران خليل جبران