العراقيون ولوثة “الدكتور”
ثامر حميد

كان التقدم بطلب لاكمال الدراسة العليا للحصول على شهادة الماجستير والدكتوراه في أواخر فترة حكم البعث يمر بالضرورة عبر التزكية الحزبية وبذلك اصبحت القدرة الفكرية والتفوق الدراسي وما يرافقها من مزايا أخرى مهمة يجب ان تتوفر لدى المتقدم أمرا ثانويا. و كانت هذه السياسية “التعليمية” استكمالا لسياسة “تبعيث” التعليم العتيدة والتي ابتدات قبل ذلك في الكليات بحيث عمدت السلطة الى حصر القبول في بعض الكليات بمن يحصل على تزكية منظمة “الاتحاد الوطني”.
كيف انتهى الامر بالتعليم والمستوى العلمي لطلبة الجامعات والكليات نزولا الى الدراسة الثانوية والابتدائية في العراق نتيجة لهذه السياسة نشاهد اثاره المدمرة باقية ليومنا هذا ويقع ضمن اختصاص الدارسين والباحثين مهمة استقصاء اثار تلك السياسة وهي مهمة ليست سهلة. وهنا لا يجوز نسيان التاثير المدمر للعقوبات الدولية على العراق اثر غزوه الكويت و قبلها الحرب العراقية الايرانية 198.-1988 على مجمل البنية الاجتماعية للعراق ومنها التعليم.

ما الذي حدث بعد 2003 لاصلاح الدمار في البنة التعليمية؟ لم نر خططا ترتقي بالتعليم واصبحت وزارتا التعليم والتعليم العالي جزءا من الصراع على الحصص الحزبية وقبلها الطائفية ولم نر كفاءات تستلم هاتين الوزارتين رغم اننا سمعنا ان اثنين من حملة “الدكتوراه” قد شغل واحدا من الوزارتين هما الدكتور خضير الخزاعي للتعليم والدكتور عبد ذياب العجيلي للتعليم العالي.وكانت النتيجة هي مواصلة الجهل والتجهيل حتى بالمعايير العراقية لفترة الستينات حيث كان يمتاز المعلم والمدرس بسعي شخصي للارتقاء بمستواه العلمي والفكري ناهيك عن اساتذه الجامعات واكثرهم من حاملي شهادات عليا من جامعات اوربية عريقة خاصة الجامعات البريطانية.
ماذا لدينا الان اذا جمعنا هذا على ذاك؟ “دكاترة” يخرجون على التلفزيون يتحدثون بلغة عربية ركيكة بعضهم ينتمي للطبقة السياسية الجديدة التي هي ايضا اصابتها لوثة “الدكتور” بينما لا يمنح تلميذ المدرسة الابتدائية في اليابان مثلا شهادة الارتقاء للصف الذي يليه ما لم يم يحصل على درجة النجاح في اللغة اليابانية حتى لو كان متفوقا في بقية المواد.
وقرات ان السلطة المعنية في بلد مثل كندا تقوم بالغاء او سحب شهادة الدكتوراه من حاملها ما لم يقدم بحثا كل ثلاث سنوات. ونحن عندما نتحدث عن بحث لا نقصد ان يقوم “الباحث” بتجميع وتصفيف معلومات مستنسخة من الكتب تقدم على انها بحث كما في العراق بل عن منتج علمي جديد يشبه التوصل لكشف تكتولوجي يضيف الى سجل الانجاز العلمي ويفتح بابا جديدة امام مزيد من البحث.
في العراق مقدمو برامج في التلفزيون يطلقون لقب “دكتور” على كل من يجرون مقابلة معه والمضحك في الامر انك لا تسمع واحدا منهم يقول لمقدم البرنامج “انا لست دكتورا” بل “يغلس”ويقوم بعض هؤلاء بمنح لقب “دكتور” لمقدم البرنامج فيما يبدو “ردا للجميل”.
في مجلس ضم عشرات العراقيين وانا منهم قدم “دكتور” نفسه انه كان يشغل منصب مدير عام في العراق وانه قابل رئيس الوزراء عبد المهدي “وقدم له نصائح” لكنه لم ياخذ بها وهو يقيم الان في بولندا ويعمل لصالح محطة فضائية كندية باللغة العربية سوف ينطلق بثها قريبا (لم استطع لحد هذه اللحظة ان “اجمع”- بتشديد الميم وتعني بلغة اهل الشام الربط بين القضايا – كيف جمع بين كل هذه المهمات وهو ليس بعمر التقاعد و ماذا يفعل في بولندا وما هي الميزات التي تؤهله للعمل بقناة كندية منها ضرورة اجادة اللغة الانكليزية حتى وان كانت القناة تبث بالعربية).
لنستمع قليلا لصاحبنا الدكتور. قال ان قناته ليس مهتمة بالقضايا السياسية بل بالقضايا الاجتماعية العامة ومنها راي العراقيين المقيمين في الخارج بعمل السفارات العراقية. لم يلبث قليلا حتى عرج على ايران وصار يتحدث عن دور ايران في الاضرار بالاقتصاد العراقي وخاصة الزراعة العراقية. كيف؟ قال “الدكتور” ان ايران تصدر للعراق طماطم فقط بعشرة مليارات دولار.
قاطعته سائلا من اين جئت بهذا الرقم:
اجاب “عندي اجيبلكياه”.
فعلقت بالقول: ان كل تجارة ايران مع العراق تبلغ 16 مليار دولار يذهب حوالي 4 مليارات دولار ثمن الغاز والكهرباء المستورد من ايران (12.. كيلواط حسب تصريح لوزير الكهرباء) يتبقى منها 12 مليار هل تذهب 1. مليار لوحدها لاستيراد الطماطم الايرانية؟
لم يجبني وفضل الالتفات للحديث مع شخص اخر من الحضور.
وبحساب بسيط (قمت به فيما بعد) سوف يتبين لنا ما يلي ان سعر كيلو الطماطم الايرانية لا يزيد عن 5.. دينار عراقي واذا حذفنا من هذا المبلغ ربح البائع وتاجر الجملة والمستورد العراقيين والمصدر الايراني فلن يبقى لنا اكثر وربما اقل من نصف سعر الاستيراد وبذلك يكون الدولار الامريكي يشتري حوالي 5 كيلوغرامات من الطماطم الايرانية وهذا يعني اننا نشتري 5 مليارات كيلو طماطم ايرانية بمليار دولار و 5. مليار كيلو بمبلغ 1. مليار دولار واذا افترضنا ان عدد عوائل العراق 6 ملايين عائلة بواقع 5 افراد لكل عائلة ( 3. مليون نسمة باستثناء كردستان) وقسمنا 5. مليارات كيلو على 6 ملايين عائلة فسيكون حصة العالئلة العراقية من الطماطم الايرانية سنويا هو ناتج قسمة 5. مليار كيلو/6مليون عائلة يساوي 833. كيلو اي ثمانية اطنان ونصف تقريبا استهلاك كل عائلة عراقية سنويا من الطماطم الايرانية فقط غير العراقية او التركية وبحساب اخير تستهلك العائلة العراقية قرابة 23 كيلو طماطم ايرانية في اليوم الواحد اي 833./365 يوم في السنة)..
ويضيف لنا الدكتور واحدة اخرى من ابدعاته الفكرية فيقول محتجا على ايران انها بنت مصانعها قرب حدودها مع العراق لتدمير الصاناعة العراقية. لم اشا ان الرد عليه مباشرة بل تحدثت مع حاضرين للقاء على انفراد فقلت: هل لو بنت ايران مصانعها على بعد 1000 كيلو مترعن الحدود لكانت الصناعة العراقية قد نهضت. اليس الفكرة تقوم على تخفيض كلفة الانتاج باختصار كلفة النقل بما ينعكس على التكلفة العامة لسعر المنتج لصالح المستهلك العراقي..
هذا نموذج من “دكاترة” العراق اليوم.
ولهذه النكتة اضيف نكتة ملحقة. وانا في طريقي لخروج من اللقاء اقترب مني شاب قدمه زميل له على انه “دكتور”فلان فقال لي:”عفوا دكتور هل انت متخصص بالاقتصاد”. فرددت بالقول “اولا انا لست دكتورا وما قلته لا يزيد عن معلومة اقتصادية عامة (استقيت ارقام التجارة مع العراق من تصريح لمسؤول ايراني نقلته محطة فضائية رصينة).
في عمان التقيت برجل عراقي يحمل درجة “ماجستير” في الادب العربي كان يدرس في ليبيا زمن القذافي. صار حديث بيننا علمت منه انه قد حصل على شهادة الماجستير من جامعة بولندية وعندما سالته بحسن نية باي لغة ناقش اطروحته اجاب انه ابتدا المناقشة باللغة البولونية وعندما وجد نفسه انه غير متمكن منها واصل المناقشة باللغة الانكليزية. يعني ماجستير بالادب العربي من جامعة بولندية نوقشت بخليط من البولندية والانكليزية.
رجل مرفه ارسل ابنه لدراسة الدكتوراه في اوكرانيا وهي دولة تعيش اعمبق ازمة اقتصادية في تاريخها منذ بداية صراعها مع روسيا التي كانت السوق الرئيسية لمنتجاتها حيث انخفض ناتجها القومي بمقدار 3/2 (الثلثين) بعد ان رفض الغرب استيراد اي بضاعة من مصانعها بذريعة انها متدنية النوعية واصبح متوسط
الدخل فيها يعادل مستوى الدخل في بلدان شمال افريقيا حسب بعض التقارير الاقتصادية )Russian insider(
وشمل التدهور كل مناحي الحياة بما في ذلك التعليم. عاد هذا الشاب للعراق مطالبا الحكومة بتعيينه “استاذا في الجامعة” وبالطبع مثله عشرات ان لم يكن مئات ربما نجدهم في ساحة التحرير..
حدثني صديق طبيب قال “كنت جالسا وثلة من اصدقائي الاطباء في احد النوادي في بغداد تقدم مشروبات كحولية وكان الى جانب مجلسنا رجل يجلس وحيدا وامامه مشروب وكنا اثناء حديثنا نخاطب بعضنا بلقب “دكتور”. مر بعض الوقت واذا بنا نسمع صاحبنا الجالس قريب منا وقد لعبت الخمر براسه يقول: “خوات ال…كل واحد شربله ربع وصاروا ها دكتو ومها دكتور…”. بالطبع تحدث صديقي الطبيب بلغة الاستهزاء من الرجل غير مدرك ان من الفجاجة بمكان ان يتخاطب الاصدقاء بلغة الالقاب لاننا لو طبقنا منطق صاحبنا الطبيب فنخاطب كل شخص بما يحمله من شهادة لكنا خرجنا بمشهد يصلح لكوميديا مسرحية.
واخيرا:
التقيت منذ سنوات في بلد اجنبي بقريب لي يحمل شهادة الدكتوراه في القانون وبصحبته زوجته وهي طبيبة اسنان وبدلا من ان يتخاطبا بالاسم كما هو معروف في كل دول العالم او باسم الابن او الابنة اي “ام فلان وابو فلان” على الطريقة العراقية راح كل منهم يخاطب الاخر هي ب”دكتور” وهو ب”دكتورةا.
اختم كلماتي وانا قلبي على حاملي الشهادة ذوي الاستحقاق من ان ياتي يوم ليس ببعيد يصبح فيه من يريد ان ينتقص من عراقي يناديه ب “دكتور”..
فان لم تك هذه “لوثة” فماذا تكون؟