د. سليم كاطع علـي/مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية
إن دراسة السياسة الخارجية للدول، لاسيما الكبرى منها تدفعنا للتمييز بين الأهداف الدائمة التي تسعى لتحقيقها، والتي تنبع من الفلسفة السياسية التي يقوم عليها النظام السياسي، والمصالح الحيوية التي تتركز حول المنافع والمكاسب التي تستفيد منها الدولة وشعبها، وتشمل النواحي الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية وغيرها. ولا شك فإن تحقيق الأولى يساعد في الحصول على الثانية التي تعزز بدورها قوة الدولة اللازمة لحماية أمنها واستقرارها.
إذ انطلقت الصين في سياستها الخارجية من حكمة صينية مفادها لا تركبوا في عربة واحدة، وتتجسد هذه الحكمة عملياً في نزوع الصين الى توظيف سياستها الخارجية من اجل تأمين مستلزمات الارتقاء بالداخل. فحرص الصين على إقامة علاقات دولية واسعة وتوظيفها يؤشر إدراكاً صينياً ان الألمعية السياسية والدبلوماسية تعد أيضاً طريقاً مهماً لإكتساب قوة التأثير الفاعل في القضايا الدولية، ومن اجل ان يكون ذلك التوظيف مفيداً من الناحية العملية ذهبت الصين الى توزيع الدول الى مستويات متباينة وفقاً لمدى اهمية الدولة بالنسبة للمصالح الصينية.
وفي هذا الإطار، وفي سياق رؤية الصين لمصالحها، فقد استندت السياسة الخارجية للصين بعد انتهاء الحرب الباردة في رؤيتها للتطورات العالمية إلى تحليل موضوعي لحقائق الواقع السياسي الإقليمي والدولي، ورؤية الصين لذاتها ودورها في إطار هذا الواقع، الأمر الذي كان له تأثيره الواضح على حركة السياسة الخارجية الصينية.
وقد كان من نتائج تلك المراجعة إدراك الصين إن عالم ما بعد الحرب الباردة يختلف عن ظروف الحرب الباردة من حيث علاقات القوة والمصالح الإستراتيجية لاسيما بين القوى الكبرى في العالم، وان عالم اليوم يقوم على المنافسة بين أطرافه ولاسيما في الجانب الاقتصادي، ولذلك حرصت الصين على بناء بيئة أمنية إقليمية مستقرة تساعدها على تحقيق النمو الاقتصادي، والاستمرار بعملية التحديث وفقاً لخطوط براغماتية عملية. فضلاً عن اعتماد إستراتيجية صينية جديدة تقوم على مبادئ واضحة لتعزيز موقع الصين العالمي كقطب سياسي وإقتصادي يساعد على إعادة التوازن في العلاقات الدولية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، ولكسر إستراتيجية الإحتواء السياسي والإقتصادي الموجهة ضدها.
ومما ساعد على ذلك إن العامل الإقتصادي أصبح له دوراً بارزاً في تحديد مراكز القوة في النظام الدولي، لاسيما بعد تراجع دور المتغير العسكري في العلاقات الدولية، وبالشكل الذي أصبح معه من الصعوبة بمكان الإشارة إلى إعادة توزيع مراكز القوى دون التطرق إلى الأوليات الإستراتجية المتضمنة إعادة توزيعها على أساس إقتصادي وليس عسكري، ومن هنا برز إلى الساحة الدولية العامل الإقتصادي كأساس مهم لبيان قوة الدولة في ظل المتغيرات الدولية الجديدة.
لقد انطلقت الصين في سياستها الخارجية من قناعة مفادها: إن طبيعة المتغيرات الدولية بعد إنتهاء الحرب الباردة فرضت بروز إهتمامات جديدة على صعيد العلاقة بين القوى الكبرى في النظام الدولي، تمثلت في دعم القاعدة الإقتصادية والتكنولوجية، مما أدى إلى ظهور مفهوم الإعتماد المتبادل والترابط بين الدول، ليصبح هذا الترابط مقوماً من مقومات القوة التي لم تكن موجودة في حسابات القوة التقليدية. وإحدى الخصائص التي يتميز بها عالم اليوم هو كونه عالم تتشابك فيه المصالح وتتنوع فيه الحاجات، وتتداخل إلى درجة أوجدت نوعاً من الإستحالة في أن تعيش وحداته بمعزل عن الإعتماد على الآخرين.
فضلاً عن ذلك، فان طبيعة العلاقات الدولية المعاصرة أصبحت لا تتوافق مع النموذج النزاعي بين الدول، إنطلاقاً من أن التطورات المرتبطة بالثورة الصناعية، وتزايد التبادل العالمي قد ساهم في إنشاء شبكة متشعبة من الترابط المتبادل بين مختلف الدول، كما فرض مهام إجتماعية وإقتصادية جديدة على الدولة، التي إتضح أنهـا غيـر قـادرة بمفردهـا علـى تلبية هذه المتطلبات الجديدة. وهو ما جعل علاقات المشاركة والتعاون في تحمل الأكلاف والمسؤوليات الدولية وتوزيع المنافع تتم عبر التعاون بصيغة توزيع المصالح وليس بصيغة علاقات عدوانية كما كانت خلال حقبة الحرب الباردة.
وعليه فأن مصلحة الصين وفق فلسفتها الجديدة القائمة على النهوض السلمي تحتم عليها إبراز نفسها على أنها ليست منافسة للقوى الأخرى ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، وإنما مساهمة في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي والعالمي.
ولا شك فأن الرؤية الصينية هذه إنما تُعد جزءاً لا يتجزأ من الدبلوماسية الأمنية الجديدة التي تتبعها الصين تجاه القضايا العالمية، والتي تنطلق من أن النزعة العامة للشؤون الدولية تتجه صوب السلام والتطور، وتنامي العولمة الإقتصادية وتعددية القطب وحلحلة عامة للتوترات.
وفي هذا الصدد فقد حث الرئيس الصيني الاسبق (دنج زياوبنج) الحكومة الصينية آواخر عام 1993 على التعامل مع الإدارة الأمريكية وفق مبدأ التوافق لا التعارض بقوله: “زيدوا الثقة، وقللوا المشكلات، طوروا التعاون، وتجنبوا المواجهة”.
كما إنطلقت السياسة الخارجية الصينية في علاقاتها الخارجية من إن الصين تمثل نمطاً مختلفاً ومستقلاً عن القوى الكبرى الأخرى في المحيط الدولي، من خلال التركيز على أنها دولة نامية تتفهم إحتياجات هذه الدول من الناحية التنموية والاقتصادية، فضلاً عن كونها مؤهلة للدفاع عن مصالحها في المحافل الدولية.
إذ أشار الرئيس الصيني السابق (جيانغ زيمين) إلى حاجة الصين إلى بيئة دولية مستقرة، وذلك في إفتتاح المؤتمر الخامس عشر للحزب الشيوعي الصيني عام 1997 بقوله “نحن إذ نقوم بتنفيذ برنامج التحديث الاشتراكي فإننا بحاجة إلى بيئة دولية يظللها السلام لفترة طويلة، وإننا بحاجة لإقامة علاقات طيبة مع كل الدول”، إن تطور الصين لن يشكل خطراً على أي دولة أخرى، ولن تسعى الصين أبداً إلى الهيمنة حتى لو قدر لها أن تتطور بصورة اكبر في المستقبل.. إن الشعب الصيني الذي وقع طويلاً فريسة للعدوان والقهر والإذلال من قبل القوى الأجنبية لن يتسبب يوماً في تعريض الآخرين لهذه الآلام”.
كما أكدت الصين على إن سياستها تجاه مختلف القضايا العالمية تختلف عن توجهات السياسة الأمريكية، والتي تعتمد أسلوب (العصا والجزرة)، بخلاف الصين التي تعتمد شعار (تحقيق الربح والمنفعة المتبادلة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول).
بل ذهبت الصين إلى ابعد من ذلك، عندما اعتمدت مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى مهما كانت المبررات، وعارضت فرض أي دولة وبأي شكل من الأشكال لنظامها السياسي وآيديولوجيتها على الدول الأخرى. فضلاً عن ذلك فقد أكد القادة الصينيون إن مسألة حقوق الإنسان هي مسألة نسبية، ويجب أن يسمح لكل بلد بممارستها حسب تعريفهم الخاص بهم، وظروفهم الإجتماعية والثقافية السائدة. إذ إنطلقت رؤية الصين في هذا الجانب من ان لكل دول من دول العالم خصوصيتها التي تنبع من خصوصية الثقافة والتاريخ والحضارة، ومن ثم فانه ليس بالضرورة ان يلتقي مفهوم هذه الدول مع المفهوم الغربي ـ الامريكي بهذا الشأن.
ولا شك فأن الصين استندت في سياستها الخارجية على المبادئ الخمسة للتعايش السلمي التي اعتمدتها كركيزة أساسية في سياستها الخارجية، وضرورة عدم التدخل في شؤون الدول الداخلية، فهي لا تهدف إلى أقامة تحالفات أو مواجهة عسكرية أو استهداف لأي من الدول، بخلاف السياسة الأمريكية المتبعة في العالم.
وبهذا فقد انتقدت الصين السياسة الأمريكية الرامية إلى نشر الديمقراطية والحكم الرشيد في العالم وفقاً للإنموذج الأمريكي، ودعت بدلاً من ذلك إلى ضرورة الحفاظ على الحقوق الثقافية والاقتصادية الخاصة بالشعوب، والتي تسمح للدول أو الحكومات بالسير وفقاً للمنهج الخاص منها، والذي يخدم متطلبات التنمية في مجتمعاتها، والى احترام سيادتها، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. كما دعت إلى خلق نظام عالمي جديد تشترك فيه جميع الدول سواء كانت غنية أو فقيرة، قوية أو ضعيفة، وعلى رفض إنفراد دولة واحدة بالهيمنة على العالم، في إشارة إلى نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية ومصالحها في العالم.
وفي هذا السياق فقد حددت الصين موقفها من التهديدات الإرهابية، ولاسيما بعد أحداث 11 أيلول 2001 بالعمل على مواجهة تلك التهديدات بصورة مشتركة عبر التعاون مع القوى الأخرى، وعدم إتخاذ ذلك مبرراً للتدخل في شؤون الدول بصورة إنتقائية، مع التأكيد على ضرورة منح الأمم المتحدة دوراً قيادياً في الجهود العالمية لمحاربة الإرهاب، (وإن كان الهدف الصيني منه هو كبح التحركات الأمريكية)، إذ أشار مندوب الصين الدائم في الأمم المتحدة بعد أحداث أيلول 2001 إلى “أن الأمم المتحدة المنتدى المهم للدول لتتعاون مع بعضها البعض في محاربة الإرهاب، ويجب أن تلعب دوراً قيادياً في الجهود الدولية المبذولة في هذا الجانب، وضرورة عدم المزج بين الإرهاب ودولة بعينها أو دين بعينه، كما لا يجوز تبني معايير مزدوجة في الحرب على الإرهاب”.
كما أعلنت الصين أنه في عهد العولمة، لم تعد سياسة دولة بمفردها قادرة على النجاح في التأقلم جيداً مع أمن الطاقة، فالتعاون الأوثق في مجال أمن الطاقة يُعد ضرورياً بشتى السبل لأي دولة في العالم.
ومما تقدم يتضح إن السياسة الخارجية الصينية أصبحت قائمة على مبدأ الابتعاد عن التورط في المشكلات والنزاعات العالمية، أو اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية في معالجة تلك المشكلات، والإعتماد بدلاً من ذلك على (القوة الناعمة) من خلال توظيف الأدوات الدبلوماسية والثقافية كمبدأ رئيس في سياستها الخارجية. وفي تقديرنا فإن هذا الإحتمال إنما يبنى في جوهره على ثلاثة أسباب رئيسة: أولهما تنامي الإعتماد الإقتصادي المتبادل، وثانيهما، تزايد القوة التدميرية للحرب، وثالث الأسباب هو ظهور ما نسميه اليوم بالقوى العقلانية.
ولعل الإعتماد على عناصر القوة الناعمة من قبل الصين كان أكثر وضوحاً في سياستها تجاه دول قارة افريقيا، إذ قامت الصين بتوظيف الأداة الثقافية من أجل تسهيل تواجدها في القارة الأفريقية، إذ حرصت في هذا المجال على تأمين العديد من المنح التعليمية والتبادل الثقافي لعدد كبير من الطلبة الأفريقيين، فضلاً عن عقد ورش العمل المشتركة، والتدريب المشترك. فقد تضمنت ورقة السياسة الصينية تجاه أفريقيا عام 2006 بنوداً تحث على تعميق العلاقات الثقافية، وأعلنت الصين عن إطلاق برنامج لتدريس (15) ألف اختصاصي أفريقي، فضلاً عن رفع المنح التعليمية للطلاب الأفريقيين في الصين من الفين إلى أربعة ألاف منحة في عام 2009.
كما قامت الصين، في إطار تعزيز وجودها الثقافي في أفريقيا بفتح المعاهد والجامعات، والمؤسسات التعليمية في عدد من الدول الأفريقية للتبشير بالعلوم الصينية المختلفة. ففي عام 2005 قامت الصين بفتح معهد كونفوشيوس في كينيا، وهو أول معهد صيني في أفريقيا، ممول من الحكومة الصينية، كرس لنشر اللغة والثقافة الصينية، كما عقدت الصين في العام نفسه إتفاقية مع مصر لتأسيس الجامعة الصينية – المصرية في القاهرة، بوصفها أول جامعة صينية في أفريقيا، فضلاً عن ذلك، قامت الصين في عام 2006 بإفتتاح محطة إذاعة FM في العاصمة الكينية (نيروبي) والتي تبث برامجها لأكثر من (19) ساعة باللغات الصينية والإنكليزية والسواحيلية.
وإزاء تلك السياسة الصينية القائمة على أساس كسب المزيد من مقومات القوة، والتعاون مع القوى الأخرى ولاسيما الكبرى منها لتحقيق التوازن العالمي، عبر تفعيل السياسة الخارجية بإستخدام أساليب أكثر مرونة وفي مقدمتها الوسيلة الدبلوماسية بوصفها احدى الادوات الفاعلة في تنفيذ السياسة الخارجية للدولة. فقد اختلفت المدارس السياسية والفكرية في الولايات المتحدة الأمريكية في النظر إلى القوة المتنامية للصين، إذ يرى البعض بأن هذه القوة تمثل تهديداً للولايات المتحدة ومنافساً لها على المكانة الدولية، كما كان الاتحاد السوفيتي السابق، ومن ثم يجب مواجهتها واحتواؤها. في حين يرى آخرون أن الصين لا تمثل هذا التهديد ويدعون بدلاً من ذلك إلى الإرتباط والحوار والتعاون معها، وعلى الرغم من هذا الاختلاف، إلا أن ثمة إجماع على أن الصين تمثل أكبر تحدٍ للولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرون.