الصيام جنة من النار / 1
بقلم : عبود مزهر الكرخي
هذا الحديث النبوي قَالَه رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه و آله ) : ” الصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنَ النَّار ” (1) (2) .
والصيام هو ليس فقط الفلسفة فيه هو الانقطاع عن الأكل والشرب فقط كما يعتقد الكثير من الناس ، ولو أنه أحدى الركائز الأساسية من الصوم وليست كلها ، يقول الله سبحانه وتعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (3).
و” لعل “في لغة العرب تفيد الترجي فالذي يرجى من الصوم تحقق التقوى ، اي من أحد الأسباب للتقوى هو الصوم الذي فيه الامتناع عن كل الأمور المحرمة ، والأهم هو صوم الجوارح والذي باعتقادي المتواضع أن الصوم هو من أحد الوسائل المهمة في الجهاد الأكبر أي جهاد النفس والذي أشار اليه الرسول الأعظم محمد(صل الله عليه وآله) ، عندما قال : { رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر} ، قيل: وما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟ قال: “جهاد النّفس”(4).
أمّا الجهاد الأكبر فهو جهاد النّفس. ولعلّ أحد أوجه تسمية مجاهدة النّفس بالجهاد الأكبر كون مجاهدتها أمراً يومياً لا ينقطع، فالإنسان المؤمن يفترض أن يكون في حالة مراقبة ومجاهدة مستمرّة لنفسه حتّى آخر حياته.
ومن جهة أخرى تعدّ المعركة في الجهاد الأكبر أصعب وأقسى منها في الجهاد الأصغر، فكم من رجال كانوا يعدّون أبطالاً في ساحات الوغى، ولكنّهم انهزموا أمام أهوائهم ونفوسهم الأمّارة بالسّوء.
ومن هنا نعرف أنّ مجاهدة النّفس وتربيتها خير معين على الجهاد الأصغر أيضاً. فالّذي جاهد نفسه بالجهاد الأكبر يتوجّه بنفس مطمئنّة وروح مقدامة إلى قتال الأعداء. والعكس صحيح أيضاً، فالجهاد الأصغر بما فيه من مشقّة وترك لملذّات الدّنيا ونعيمها خير معين للإنسان على تربية نفسه وتهذيبها.
وعلى ضوء ذلك فليس الصوم هو الامتناع عن الأكل والشرب والشهوات فحسب بل الأهم هو صوم الجوارح أيضاً ، ، فاليد لا بد أن تكف عن أذى الناس ، والعين لا بد أن تكف عن النظر إلى المحرمات ، والأذن لا بد أن تكف عن السماع للمحرمات ، واللسان لا بد أن يكف عن المحرمات كالغيبة والنميمة والكذب ونحوها ، والرِجل لا بد أن تكف عن المحرمات فلا تمشي إلى ما حرم الله . إن الصائم مأمور بتقوى الله عز وجل وهي امتثال ما أمر الله واجتناب ما نهى الله عنه ولهذا جاءت الأحاديث الشريفة للنبي الأكرم محمد(صل الله عليه وآله) تشير إلى هذه المسألة المهمة ، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل إني صائم إني صائم }(5) ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { رب صائم ليس له بصيامه إلا الجوع ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر } (6).
ولهذا نقول أن الصيام وبالمختصر ، هو أن يتوقف عن كل أنواع ( الشر) ، والمقصود بالشر هو ليس فقط اللفظي أو الفكري أو النفسي أو المعنوي ، بل حتى الشر المادي ، لكنه لا يصوم عن اغتياب الآخرين، وتجد لسانه يشهّر بالآخرين ويشوّه سمعتهم، ويحط من قيمتهم، ويلحق بهم التهم الزائفة زورا وبهتانا!. فالصوم هو عملية مادية معنوية إيمانية تختلط بها الإرادة المادية والمعنوية ، ويُختبَر فيها الإنسان بمدى قدرته على تجاوز الأخطاء المادية واللفظية وسواها، باختصار الإنسان الصائم مطلوب منه أن يكون نظيفا من جميع الأدران.
فالصوم بالمعنى الأصح هو صوم الجوارح أي صوم الحواس ، النظر يجب أن يُغض ، والسمع يجب أن لا يسيء إليه ، والأهم هو حفظ اللسان الذي به تجلب به كل الذنوب والمعاصي ، والذي به يحفظ كرامات الناس ومكانتهم ، واليد التي مغلولة عن ارتكاب الحماقات بأنواعها.
ولهذا فأن العلاقة سببية، فصوم رمضان سبب يورث صوم الجوارح ويدل عليه، ويفضي إليه.
وعلى ضوء ذلك في تفسير نهاية الآية التي ذكرناها آنفاً (لعلكم تتقون)حيث قال القرطبي رحمه الله: “قيل: لتتقوا المعاصي” (7).
وفي الآية قول آخر ذكره الطبري رحمه الله بقوله: “وأما تأويل قوله: {لعلكم تَتقون}، فإنه يعني به: لتتقوا أكل الطعام، وشرب الشراب، وجماع النساء فيه” (8). والآية يراد منها هذا وهذا أي الصوم من الأكل والشرب والشهوات مضاف إليه صوم الجوارح(اي الحواس).
في حال تحققت هذه الشروط يكون الصوم قد ادى المهمة الموكلة من قبل العبد المؤمن الصائم بحيث أن يتحول الصائم وفق شروط الصوم الصحيحة ، الى إنسان مؤمن متكامل الإيمان ، وخال من كل الأدران والشوائب التي تجرح صيامه ، وبالتالي هو الفوز بجائزة الصيام وهي أعظم نتيجة طيبة تتكافأ مع صراعه العظيم مع نفسه وحواسه دون هوادة حتى حقق الانتصار عليها.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر :
1ـ أي أن الصوم حِجَابٌ مِنَ النَّارِ .
2ـ من لا يحضره الفقيه : 2 / 74.
3 ـ [ البقرة: 183].
4 ـ الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 12.
5 ـ رواه ابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم وصححه الشيخ الألباني
6 ـ رواه النسائي وابن ماجة وابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري وصححه الشيخ الألباني .
7 ـ [الجامع: (2/276)].
8 ـ في تفسير الطبري[3/413].