لم يقتصر دور الصور في عالم مابعد الحداثة التقني على تجسيدها للواقع وعكسها لابعاده المختلفة، بل بدأت تأخذ وظائف وادوار اخرى تمثلت في صنعها للحقائق وتجسدت في خلقها لواقع وعالم جديد يختلف، واحيانا يتناقض، مع العالم والواقع الذي يتسق مع الحقيقة ولايلفق مضمونها او يزيف مدلولاتها.

وتمتلئ مواقع التواصل الاجتماعي كالفيسبوك وتوتير والانستغرام بالكثير من الصور المزيفة وغير الحقيقية التي تتعلق بشخصيات سياسية او عامة او التي تشير الى احداث وتتحدث عن وقائع معينة في خارج سياقها واشتراطاتها الزمانية والمكانية. 

و بسبب غياب الوعي الحقيقي، يقوم الكثير من المشتركين وروّاد هذه الصفحات بنشر هذه الصور، بل والمشاركة بها كي يتم توزيعها وتعميمها من اجل ان تقع تحت أعين أكبر قدر من المنتمين لهذه العوالم الرقمية التي اصبحت مصدرا للاخبار عند الكثير من الناس بدلا عن المواقع والوكالات الاخبارية الرسمية والمتخصصة.

أنتشار مثل هكذا صور “مزيفة” على هذا النحو الذي يشبه الغزو في عالمنا السيبري ووجوده الرقمي يدفعنا للبحث عن الاسباب التي تقف وراء ذلك، خصوصا ان صورة معينة، يمكن ان تفتقد لأبسط المقومات الفنية، قد تأخذ حيزا من الانتشار والشهرة ما لايمكن ان يكون لغيرها من الصور الحقيقية الصحيحة والموثوقة والمعروفة المصدر. 

في رأينا ان هنالك ثلاث اسباب رئيسية تقف وراء ذلك. 

أولا: الايمان بالصورة وثقافتها وقدرتها على تمثيل وتجسيد الحقيقة ونقل الواقع واختصار الحدث والتعبير عنه الى حد كبير، فنحن نعيش في “عصر الصورة”، ومايترشح عن هذه الصورة من دلالات ومعاني، حتى في لحظات العبث بها وتضليلها، يؤثر على نحو أكبر وبشكل اسرع من اي خبر اخر يتم صياغته من غير استخدام الصورة، بل لا يأخذ الخبر المنتشر على صفحات الفيسبوك بدون صورة نفس المديات التي تُتاح للخبر الذي ترافقه صورة معينة، بغض النظر عن اعتبار الصورة مزيفة او حقيقية. 

ثانيا: وجود نية مقصودة لدى بعضهم في نشر هذه الصور وتوزيعها من اجل اغراض معينة سياسية او اجتماعية او فكاهية على الرغم من ادراكهم لحقيقتها، وهو الامر الذي ازداد بوضوح وانتشر على نحو غير مسبوق في موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك وتويتر بواسطة الصفحات التي تديرها اطراف مرتبطة باحزاب وشخصيات سياسية استخدمت الصور المفبركة من خلال برامج الفوتوشوب كأداة للتسقيط السياسي والهجوم والنقد وعلى نحو خلا، في كثير من الاحيان، من ادنى درجات الاخلاق وافتقر الى معايير وقيم التنافس الانتخابي الشريف. 

ثالثا: قلة الوعي والمعرفة وعدم امتلاك الحد البسيط من الادراك والحس النقدي للشخص الذي يؤمن ان الصورة حقيقية ومطابقة للواقع، وهو أمر لا يتعلق بوجود معرفة فنية بالصور الحقيقية وقدرة الشخص على تمييزها عن غيرها من الصور المفبركة، مع ان هذا المعرفة الاخيرة مطلوبة ايضا في بعض الصور التي يتطلب الحكم على صدقها من عدمه امتلاك معرفة بفنون الفوتوشوب. 

مناقشة الـتأثير الذي تمتلكه الصورة والمديات التي تأخذها والحيز الذي تحتله في العالم الحالي يرتبط من غير شك بالجدال والنقاشات والبحوث الكثيرة التي اثارتها تمظهرات العصر الرقمي الحالي الذي نعيش في زمن “ما بعد حداثته”، حيث تطورت وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات بشكل اضحت فيه الحقيقة تتخذ أشكالا “سيبرية” ويُجسد وجودها “رقميا” بشكل جلي وبصورة اختلفت بل تناقضت مع تشكلات الحقائق وصياغاتها في الازمنة التي سبقت انبثاق العالم الرقمي والسيبري الجديد. 

المشكلات التي تتعلق بالصورة نابعة تحديدا من قدرة الاخيرة المتزايدة يوما بعد يوم على تشكيل وعي وبناء حقائق ورسم معالم تصورات جديدة يؤمن بها وبدورها الجديد وفاعليتها المؤثرة الكثير من الاشخاص الذين يعتقد بعضهم بان الصورة، في مجملها، باتت مصدرا لمعرفة الحقيقة وتساهم بشكل كبير في بناء وعي ما شأنها شأن التعبيرات والمصادرالثقافية الاخرى في عالمنا المعاصر كما جاء في تحليلات ودراسات الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه الذي صال وجال في بحثه عن الصورة وكل مايترشح عنها من تأثيرات ودلالات ادت لصياغة ادراك جديد للعالم. 

المطلوب الان أزاء هذا الضخ الهائل لملايين الصور يوميا سواء ما كان يظهر في وسائل الاعلام المرئية وفضائياتها او ما يُنشر منها في منصات التواصل الاجتماعي الرقمية كالفيسبوك وتويتر وغيرها، ان ندرك ونعي “محدودية” الصورة وعدم تمكينها من السيطرة على الحقيقة ولوي عنقها وتحريك المشاعر بالشكل الذي اراده من وقف وراء تزييف حقيقتها او من مررها، من غير وعي، الى شخص آخر. 

لقد تحولت في رأيي مقولة “الصورة تغني عن الف كلمة” التي يتمسك بها الاعلاميون ورجالات الصحافة الى “الصورة تغني عن الف كذبة وتضليل”، حيث يمكن لصورة واحدة مزيفة ان تُرسل رسائل وتقوم بعمليات تضليل وخداع ما لا تستطيع ان تقوم بها عشرات التصريحات والعبارات بغض النظر عن قربها او بعدها عن الحقيقة.

مسؤولية الصحفيين ازاء هذا التزييف والتضليل الكبير الذي يرافق انتشار الكثير من الصور مهمة ولا ينبغي الاستهانة بها، اذ ربما تنطلي هذه الصور المفبركة على الانسان العادي ممن لا يمتلك معلومات تتعلق بجمل مايحدث في العمل الصحفي الرقمي المعاصر، اما ان يقع الصحفي في هذا الخداع او يقوم بتمريره دون نقد وتمحيص، فالأمر غير مقبول ولايمكن استساغته. 

على الصحفيين قبل غيرهم تفحص الصورة و”اعمال” العقل في مضامينها ودلالتها وماتشير اليه حتى لا يسرق “الفوتوشوب” الحقيقة، ويزيف ما هو “موجود” ويحيله الى اشلاء “حقائق ” كما نراه الان ونعيشه واقعيا في الكثير من الاحداث والاصداء التي ترافقها نتيجة صورة مزيفة تافهة انطلت على عقول الكثير ممن مرّت عليه ومررها بدوره ، من غير وعي، الى الاخرين.