اوراق عراقية 
هذه المعلومات القديمة والقيمة والمفيدة، استقاها قلم الصحفي الراحل عبد القادر البراك قبل اكثر من نصف قرن من دفتر يوميات التاجر البغدادي المرحوم الحاج محمود الشابندر صاحب مقهى الشابندر الاصلي.. نقدم جانباً منها لقراء المدى ومحبي التراث والتاريخ بعد حادث تدمير هذا المقهى العريق لعل فيه بعض المتعة.

بعد الحادث الاجرامي المروع، الذي شهده (شارع المتنبي) الذي كان من تداعياته، تدمير اعرق مقهى بغدادي، كان يمثل اقدم ملتقى يومي للادباء والمثقفين ولابرز الوجوه البغدادية والاجتماعية، الا وهو (مقهى الشابندر) الذي يقع في نهاية شارع المتنبي قبالة مدخل سوق السراي، (القشلة، سراي الحكومة) القديم، والذي كان يديره الشخصية البغدادية المعروفة (الحاج محمد الخشالي)، الذي خسر هو الآخر (4) من اولاده جراء انهيار مبنى المطبعة المجاور لبناية المقهى عليهم اثر الحادث الاجرامي ضمن (الاوراق العراقية) الموجودة لدينا منذ سنوات،    
معلومات افاض بها قلم الصحفي العراقي الراحل عبد القادر البراك صاحب جريدة (البلد) التي كانت تصدر في بغداد في ستينيات القرن المنصرم، يسلط فيها الضوء على مراحل من بدايات تاسيس مقهى (الشابندر).. ويعرف بشخصية صاحبها الاصلي، ومن هو.. وما هو موقعه في الحياة البغدادية قبل قرن من الزمان.

اول مطبعة اهلية..!
تشير معلومات البراك مؤسس مقهى الشابندر، هو المرحوم الحاج محمود الشابندر احد تجار ووجهاء بغداد المعروفين في بداية القرن العشرين، فهو اول عراقي قام بتأسيس اكبر مطبعة اهلية في اواخر العهد العثماني، والتي كانت تفوق في طاقتها وامكانياتها الفنية، امكانية (مطبعة الولاية) التي استوردها واسسها والي بغداد العثماني (مدحت باشا) لاصدار اول جريدة عراقية طبعت في هذه المطبعة باسم (الزوراء) باللغتين العربية والتركية.
ويشير المرحوم البراك الى عثوره على مذكرات ويوميات تخص المرحوم الشابندر توضح ان (مطبعة الشابندر) التي كانت تقع في نفس بناية المقهى الحالية، أي في الركن المقابل لسوق السراي والمحاكم المدنية في محلة (جديد حسن باشا) تولت طبع العديد من الكتب الادبية والعلمية والقانونية.. وكان من بين ما طبعته كتاب (العقد المفصل) وهو من اهم المؤلفات الادبية عن الادب العراقي في القرن التاسع عشر الذي ألفه الشاعر الكبير السيد حيدر الحلي، والذي اهداه الى صديقه العالم التاجر والشاعر (الشيخ محمد حسن كبه) والد الشيخ والسياسي العراقي محمد مهدي كبه زعيم حزب الاستقلال العراقي، وعضو مجلس السيادة العراقي بعد ثورة 14/تموز/ 1958..
(الشابندر) تطبع
(مهيار الديلمي)
ويضيف ان مطبعة الشابندر قامت بطبع مؤلفات علامة العراق المرحوم (ابو الثناء الالوسي) وبصورة خاصة كتب رحلاته ومقاماته،كما طبعت اول تحقيق لديوان الشاعر العباسي (مهيار الديلمي) الذي تولى تحقيقه رجل العلم والادب والسياسي الشيخ محمد رضا الشبيبي والاهم من ذلك ان دار الكتب المصرية اعتمدت على ما طبعته هذه المطبعة، عند اعادة طبع ديوان (مهيار) لاحقاً بالشكل القشيب الذي ظهر عليه في ثلاثينيات القرن الماضي.
ويواصل البراك؟ ان المذكرات تشير الى قيام المطبعة المذكورة بطبع الآثار القانونية لعدد من كبار رجال القانون يومذاك من امثال (ابراهيم ناجي) و(خالد الشابندر) وبعض اعداد مجلة (لغة العرب) الشهيرة التي كان يصدرها العالم اللغوي الاب انستاس ماري الكرملي، ومجلة (الرياحين) التي كان يصدرها الكاتب المعروف ابراهيم صالح شكر، والشاعر ابراهيم منيب الباجه جي، وبعض المجلات التي اصدرها المؤرخ العراقي (سليمان الدخيل).
هذا ما كانت عليه بناية الشابندر.. ترى متى تحولت من (مطبعة) الى (مقهى) بل من اشهر مقاهي بغداد؟.

البناية من (مطبعة) الى (مقهى)..!
ويشير البراك حسب مذكرات صاحب البناية الحاج محمود الشابندر ان بناية المطبعة تحولت الى مقهى يرتادها وجهاء وسراة بغداد في اول النهار، وذلك لقربها من دوائر المحاكم والطابو وامانة العاصمة و(القشلة) ويرتادها بعد الظهر عدد كبير من ادباء وشعراء بغداد من امثال الشاعر (الفصيح والشجي والصحفي) عبد الرحمن البناء صاحب جريدة (بغداد) في العشرينيات والثلاثينيات في القرن الماضي، والشاعر ابراهيم ادهم الزهاوي، والشاعر خضر الطائي مؤلف المسرحيات الشعرية، والشاعر عبد الستار القره غولي، المربي المعروف، ومؤلف كتاب (الالعاب الشعبية) ورجل السيف والقلم الشاعر الضابط نعمان ثابت عبد اللطيف صاحب ديوان (شقائق النعمان) وعدد من الكتب التاريخية وعلي ظريف الاعظمي صاحب مجلة (الاقلام) وعدد من الكتب التاريخية، وولده الشاعر الحقوقي حسين علي ظريف، والشاعر والباحث عبد الكريم العلاف صاحب مجلة (الفنون) وهو من شعراء الاغنية العراقية، ومؤلف كتاب (الطرب عند العرب) و(قيان بغداد) وصاحب مجاميع (الموال البغدادي) و(الاغاني العراقية) التي اصدرها وغيرهم وكان من بين رواد هذا المقهى المرحوم مطرب العراق الاول محمد القبانجي، الذي كان يزور اصدقاءه الشعراء، وكذلك الشيخ جلال الحنفي الذي يأوي اليه في اوقات فراغه وغيرهم ممن لا تحصيهم الذاكرة.

ليالي رمضان تجمع اهل المقام
ويوضح المرحوم البراك، ان مقهى (الشابندر) كانت له ايام وامسيات متميزة بالنسبة لرواده قبل اكثر من 80 سنة.. حيث كان المقهى يتحول في ليالي شهر رمضان سنوياً الى (ملهى) حيث يقدم مطرب المقام العراقي رشيد القندرجي مع جوق (الجالغي البغدادي) المقامات والبستات البغدادية الى ان يحين وقت السحور.. وكان رواد هذه الليالي الرمضانية يفـدون اليه من ابعد المحلات للاستمتاع بالغناء البغدادي الخالص.
ومن مقرئي المقامات الذين كانوا يترددون على هذا المقهى، المرحوم (حسن خيوكه للاجتماع ببعض زملائه العاملين في مهنة (السراجة) في الماضي، والمرحوم عبد الرحمن العزاوي في السنوات الاخيرة أي في سبعينيات القرن الماضي.

الادباء العرب يترددون على المقهى
ومن بين من تردد على (مقهى الشابندر) ايضاً مجموعة من الادباء العرب الذين حلوا في بغداد، من بينهم الدكتور زكي مبارك صاحب كتاب (ليلى المريضة في العراق) الذي اشار للمقهى في كتابه المذكور وكتبه الاخرى (من وحي بغداد) والاسمار والاحاديث) والاديب خيري حماد المترجم الشهير الذي عمل في الصحف التي يحرر فيها بالقرب من (الشابندر) والمرحوم محمد هاشم عطية الذي كان يرتادها مع الشاعر الراحل حسين بستانه.
وحتى سبعينيات القرن الماضي، فان عدداً كبيراً من الادباء والمحامين كانوا يرتادون هذا المقهى ليلاً ونهاراً للالتقاء باصدقائهم من المخضرمين المحامين مظهر العزاوي وصبيح المشاهدي، ومحمود العبطة، وجودت هندي وغيرهم.
ويكشف المرحوم عبد القادر البراك في تلك الوثيقة، ان صاحب المقهى الحاج محمود الشابندر، كان صديقاً للشاعرين الرائدين معروف الرصافي، وجميل صدقي الزهاوي الذي رثى الشابندر، عند رحيله بقصيدة شجيه.
ويضيف: انه بالرغم من تميز محمود الشابندر بكونه من ذوي العقول المتفتحة في التجارة واسهامه في تأسيس (جمعية الهلال الاحمر) العراقي، وجمعية حماية الاطفال ومحاولاته السابقة في تأسيس اول شركة لايصال الطاقة الكهربائية لبغداد، ومشروع خط (الترامواي – الكاري) بين بغداد وضواحيها.. وكذلك اعداده ابناءه اعداداً علمياً جيداً.. وبالرغم من معرفة اصدقاء (الشابندر) بهذه المؤهلات لديه.. لكنهم كانوا لا يعرفون انه ملم باجادة كتابة المذكرات واليوميات لهذا فان (المعاصرين) له وقد رحلوا الى جوار ربهم، لو توفرت لهم فرصة الاطلاع على تلك المذكرات بعد طبعها في كتاب مستقل سيتعاظم تقديرهم لصاحبها.