د. علاء الحسيني/مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات
عرفت الأمم والحضارات القديمة نظام الإرث بين الأبناء والآباء، إلا أن التباين في التقسيم كان السمة الغالبة، بل إن بعض تلك الثقافات كانت تحرم الأنثى من ارث زوجها أو والدها، وتبرر بعض القبائل العربية قبل الإسلام هذا المنهج بحجة إن النساء لا تحمل السيف وتذب عن الحياض ولا يأخذن بالثأر أو يغرن على القبائل الأخرى لجلب المنافع والمغانم.
لذا حرصت الشرائع السماوية على تبني نظام دقيق يبين كيفية تقسيم التركة بشكل عادل ومنصف بين جميع الورثة من اجل استقرار المعاملات وشيوع حالة من الاطمئنان والعدل بين الناس بلا تمييز بسبب الجنس أو العمر، وهو ما سارت عليه الشريعة الإسلامية السمحاء التي أرست دعائم أسرة متماسكة يشعر جميع أفرادها بالرضا والقبول لما رسمته السماء، في الوقت الذي واجه النبي محمد (ص) صعوبات جمة في تغيير القيم الاجتماعية البالية، إذ أُرسِلَ لمجتمع رجولي ينظر للمرأة بعين الاحتقار والاستصغار، بل كان بعضهم يعمد إلى قتل الإناث من ذريته، وهو ما يقصه علينا القرآن الحكيم بقوله تعالى “وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ”.
في خضم هذه التحديات سارت سفينة النبي الأكرم باتجاه الارتقاء بالمجتمع المسلم واتخذ من المساواة بين الرجال والنساء منطلقاً ومنهجاً، مذكراً بشكل دائم بالمشتركات بين بني البشر، إذ يقول تعالى “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا”، وقال تعالى “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا”، وبهذا يسجل للإسلام فضل السبق في إقرار مبدأ المساواة بين بني البشر، ومعيار المفاضلة هو التقوى والقرب من الله عز وجل والالتزام التام بتعاليم الدين.
وكان الاختبار الحقيقي الذي واجه النبي (ص) لا يتلخص بإشاعة ثقافة حقوق المرأة ومساواتها بالرجل، بل في إقناع المجتمع المسلم إن الرجال والنساء من أصل تكويني واحد وان الفوارق بينهما تكاد تختفي في كثير من الجوانب، بل إنها تشكل نصف المجتمع ولها مثل الذي عليها من حقوق وواجبات قال تعالى “وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”.
ولعل الدرجة التي يقصدها القرآن الحكيم تحمل الرجل للأعمال الشاقة وعبئ الدفاع عن الوطن والدين وإعالة أفراد الأسرة ما يسوغ إعطاءه الأولوية أحياناً، من هنا بدأ القرآن يرسى معالم النظام المالي للدولة الإسلامية ووضع أسس التوارث وانتقال الأموال عقارية كانت أو غيرها للأبناء بنحو من العدالة، إذ جاء قوله تعالى في محكم قرآنه المجيد “لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا”.
وبهذا يؤسس الإسلام لثقافة اجتماعية جديدة في الدولة الإسلامية التي امتدت لمساحة شاسعة لاسيما بعد فتح مكة وما تلاها ودخول أقوام متباينة في خلفياتها الثقافية وانصهارها في المجتمع المسلم، قال تعالى في موطن آخر “يوصيكم للَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ “، وفرض تعالى ميراثا للام محدد بنسبة من التركة إذ جاء قوله تعالى “فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ”، كما حدد ميراث الزوجة بقوله تعالى “وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُن”، وبهذه الآيات البينات يتبين بما لا يدع مجالاً للشك إن الإسلام كان سباقاً بكل ما للكلمة من معنى في إنصاف المرأة والارتقاء بها وتقرير حقوقها بنصوص محكمة قطعية الدلالة وبذا تعد المواثيق والمعاهدات الدولية التي تضمنت مبادئ مقاربة متأخرة بقرون عدة عن شريعة السماء وعدالتها.
وقد ورثت السيدة فاطمة الزهراء أبيها النبي محمد (ص) مرتين، الأولى الميراث المعنوي المتمثل بالجوانب العلمية والتربوية وهو الأهم قطعاً من الميراث المادي حيث عرف عنها أنها كانت منقطعة النظير في عبادتها وسعة علمها ورجاحة عقلها برغم حداثة سنها، وكانت وبحق معلمة فاضلة للنساء في المدينة المنورة وقدوة في تقواها وزهدها وحسن تبعلها لزوجها، بل كانت هي السند والظهير للحق والعدل والفضيلة، أما المرة الثانية من الميراث، الذي أخذته عن أبيها فهو الميراث المادي بكونها ابنته الوحيدة، ولها الحق الكامل في أن ترث مع زوجات النبي ما خلفه رسول الله.
وقد أبرزت السيدة الزهراء في معرض دفاعها عن حق البنت والزوجة في الإرث الأدلة القرآنية الساطعة كالشمس في رابعة النهار، ولهذا يسجل لها بكونها من أوائل المدافعين عن حقوق المرأة ولاسيما في الإرث بشكل حضاري ومما يؤشر أنها انتهجت السبيل الأمثل في ذلك أي الطريق السلمي للمطالبة بالحقوق بإقامة الدليل والبرهان على حقها وحق النساء الأخريات ولا عجب فهي سليلة بيت النبوة وتربية السماء التي أمرت حتى النبي الأكرم (ص) بذلك، إذ قال تعالى “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ”، وبالفعل كان لصوتها الهادر الصادح بالحق والقرآن الأثر البالغ في توضيح الكثير من الحقائق التي شابها الغموض والتبست على البعض.
ومن الأدلة القرآنية التي استعرضتها السيدة الزهراء في إحدى خطبها لتبين للقاصي والداني إن للمرأة ميدانها في سوح الجهاد بقول الحقيقة والدفاع عن المظلومين واسترداد الحقوق المسلوبة “أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون أفلا تعلمون بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية أني ابنته أيها المسلمون أأغلب على إرثي يا فلان أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي لقد جئت شيئا فريا أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول وَوَرِث سُليْمانُ داوُدَ وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا إذ قال فهَبْ لِي مِنْ لدُنْكَ وَلِيا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقوبَ وقال وُأوُلوا الْأرْحامِ بَعْضُهُمْ َأوْلى بِبَعْض فِي كِتابِ الّلهِ وقال يُوصِيُكمُ الّلهُ فِي أوْلادِكمْ لِلذَّكرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثيَيْنِ وقال إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلى الْمُتَّقِينَ وزعمتم أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي ولا رحم بيننا أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها أم هل تقولون إن أهل ملتين لا يتوارثان أو لست أنا وأبي من أهل ملة واحدة أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم الله والزعيم محمد والموعد القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون ولا ينفعكم إذ تندمون ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم”.
وباستقراء ما تقدم نجد ان السيدة الزهراء تنطلق من فلسفة راسخة بني عليها الدين المحمدي الحنيف ألا وهي العدالة المشتقة من أحد أسماء الله الحسنى وتوجهها هذا لم يكن جزافاً بل هو متأتي من تربيتها القرآنية التي بذرت في قلبها منذ الصغر فنمت وترعرعت وازدهرت وأثمرت فانعكست على سلوكها وأصبحت بالنسبة لها منهج حياة، إذ يقول عز من قال “قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ”، وقال تعالى أيضاً “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ”، وبما إن هذه السيدة مخصوصة بسجايا الإمامة والقيادة للأمة، كان من الطبيعي أن تتصدى بنفسها للتأكيد على المثل والقيم الأساسية ومنها العدالة في كل شيء في الميراث وغيره، “وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ”.
وان من الحقائق الثابتة إن الدين الإسلامي جاء بمجموعة كبيرة من النظم والعقائد التي بنيت على العدل والإنصاف وكان الرسول محمد (ص) وأهل بيته (عليهم السلام) أولى الناس بتطبيقها وتجسيدها عمليا، قال تعالى “لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا”، ومن الواضح إن السيدة الزهراء قدوة للنساء والرجال في المطالبة بالحقوق فقد تصدت بعد وفاة والدها (ص) للحياة بمختلف جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية فكانت المثل الأعلى في رجاحة الرأي وسلامة المنطق وبلاغة الحجة.