يتبين لأي مستقرئ لأنبثاق واقع السياسة كعلم انه وليد علم الاخلاق والفلسفة والعلوم التي كانت سائدة في اثينا بالدرجة الاساس, اذ نجد انها تبلورت على يد الفيلسوف اليوناني الفذ افلاطون بعد ان انتقل من مرحلة الخوض في غمار علم الاخلاق لينتقل وجوبا لعلم السياسة الذي تربى على يديه في جمهوريته المثالية ليجد نفسه في غمار وطيس الحياة السياسية والتي لم تكن بذات النضج الذي كان على يدي نيقولا مكيافيلي من خلال قوانين ثابته ومتسقه حيث كانت بعيدة كل البعد عن مخيلة الفلاسفة وقتئذ كعلم مستقل له مجاله واستقلاله عن بقية العلوم التي كانت تشغل حيزا كبيرا من بال الفيلسوف المتنور ومهمته في قراءة ما يجري من حوله.
هذه اللمحه نجدها جلية في قراءة للدكتور طه جزاع في كتابة الموسوم (يوتوبيا, جدل العدالة والمدينة الفاضلة من افلاطون الى ابن خلدون) انه يعطينا التصور عن اسباب ولادة ذلك العلم وتنشئته على يدي افلاطون كجزء من موجبات تلك المرحلة المهمة: “ان الذي دفع افلاطون لتحديد العلم السياسي والبحث عن معنى رجل الدولة (السياسي) ومواصفاته ما رآه من فساد للأخلاق, واخطاء الدولة, وصراع بين القوى السياسية الاثينية مما ادى الى الوصول لحكومة الطغاة الى سدة الحكم ثم تخليها عن السلطة الى حكومة ديمقراطية ارتكبت اعدام استاذه سقراط, وكذلك ما رآه من نتائج لسياسة (بركليس) التي ادت الى جعل الاثينيين كسالى وجبناء ومهذارين وشرهين للمال, كل ذلك قاد افلاطون لتوجيه نقد قاس للمجتمع الاثيني ولحياة السياسة…”.
ان الحياة السياسية اذا ما سلمنا بأنها ولدت من رحم فلسفي (ثقافي) فلا بد لها ايضا من ان تتربى في حجر ذات الثقافة التي ولدتها, وهو اصل او اس ينبغي الركون اليه دوما في تحديد مهمة الثقافة – بمفهومها العام – في ان تكون احدى الدعائم السياسية التي ترتكز عليها الحياة العامة في الدولة, والذي يعبر عنه جزاع باجتماع السلطتين الفلسفية والسياسية لكي يتمكن من حكمة وهو اساس المدينة الفاضلة, وهذا لا يعني انها (الثقافة) تخلّت عن وليدها بهذه السهولة; انما المراد ان لنضوج السياسة كتجربة وعلم مستقل جعلها تستقل شيئا فشيئا عن الثقافة والفكر الفلسفي بعد ان بلغت النضج الكافي والذي يؤهلها لان تغور سبر ابحاثها بمعزل عن الافكار الفلسفية المتعلقة بعلم الاخلاق وما سواه من العلوم التي بقيت ولا زالت فحوى الفكر الفلسفي.
ولهذا اجد عبارة مهمة لمدني صالح وردت بتقديم الكتاب (آنف الذكر) وهو تعليق تركة صالح على مسودة الكتاب, يمكنها ان تعطينا التصور الكافي عن التحول والتدوير بين علم السياسة والاخلاق: “السياسة من عالم الممكن النسبي, الاخلاق من عالم المبدأ, ما الذي يحدث اذا صارت السياسة من عالم المبدأ والاخلاق من عالم الممكن؟. تصير السياسة من عالم الحلم السعيد بالمدينة الفاضلة, والحلم الفاضل بالمدينة السعيدة, ويزدهر بناء المستقبل, ويندحر الفيلسوف الملك, والملك الفيلسوف, صورة لاندحار افلاطون!”.
 
ان عالم الحلم السعيد الذي يعنيه مدني صالح بتوطئته تلك يكمن في جوهر علم السياسة ودورة في تدعيم كل العلوم, او لنقل كل الواقع الحياتي المعرفي, لان بخراب السياسة وابتعادها عن الهدف الحقيقي سوف يجرّ وراءه مختلف الاحباطات التي ستجعل افلاطون وامثاله يحلم بدولة فاضلة عمادها صلاح السياسة, ولهذا كانت من عالم الممكن النسبي, بينما بقيت الاخلاق من عالم المبدأ, وهو دورنا كمثقفين في ان نلتزم ذات المبدأ لنحلم بمدينة فاضلة, بدور داعم فاعل توجيهي, حتى نجعل من الحلم واقع مدرك رغم انه صعب المنال.