السياحة الدينية في العراق خسارة فادحة

علي الكاش

قال تعالى في سورة الإسراء/29 (( وَلَا تَجۡعَلۡ يَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ فَتَقۡعُدَ ‏مَلُومٗا مَّحۡسُورًا)).‏‎ ‎
تعتمد كثير من دول العالم على السياحة بشكل عام كمصدر رئيس لإيرادات الدولة، مثلا قضى ‏السياح في فرنسا (322) مليون ليلة للفترة من شهر نيسان ولغاية ابلول من العام الماضي، وكان ‏عدد السواح (11.6) مليون سائح رغم جائحة كرونا، وفي تركيا بلغ عدد السياح اكثر من (40) ‏مليون سائح، وبلغت الايرادات (46) مليار دولار عام 2022. وعلى مستوى الدول العربية بلغ ‏عدد سواح مصر (3.4) مليون سائح، جاءت الجزائر افي المرتبة (52) عالميا في السياحة، وعلى ‏الرغم من جائحة كورونا فقد ازداد عدد السياح حسب منظمة السياحة العالمية عام 2022 (900) ‏مليون أي ما يعادل ضعف السياح عام 2021. وهذه النسب في بعض الدول لا تمثل العدد الحقيقي ‏بسبب الجائحة، مثلا في زيارة لفرنسا تحدث لي أحد المسؤولين الفرنسيين عام 2018 بأن عدد ‏السياح تجاوز (89) مليون سائح حسب الإحصائيات الرسمية، وأكد بأن وزير السياحة غير راضِ ‏على هذا العدد، ويأمل بتجاوز (100) مليون سائح خلال السنة القادمة. تأتي اسبانيا بعد فرنسا في ‏عدد السياح، فقد بلغوا عام 2018 ما يقارب (83) مليون سائح، رغم انها قريبة من فرنسا وأقل ‏جمالا منها، لكن لا يوجد بلد يرتاح فيه السائح تفسيا اكثر من اسبانيا وتليها فرنسا بسبب طباع أهلها ‏الجميلة وتعاملهم الطيب مع السياح، على العكس تماما من تركيا، فجمالها يعكره غلاظة وخشونة ‏أهلها واستغلال السياح سيما في اسطنبول، وهذا ما ينطبق على ايطاليا والمانيا. وهذا الكلام ناتج ‏عن عدة زيارات لتلك البلدان.‏
السياحة الدينية
تعتبر الزيارات الدينية من أقدم انواع السياحة في العالم وهي تتعلق بزيارة المناطق المقدسة عند ‏أصحاب الديانات السماوية والوضعية، وهذا الأمر يشمل معظم الديانات، ولعل ابرزها زيارة مكة ‏والقدس والمعابد في الهند والصين وبعض البلدان الآسيوية، وميزة السياحة الدينية ان الحكومات ‏هي التي تأخذ على عاتقها تنظيمها، واحيانا حصرها في فترة زمنية محددة وتهيئة مستلزماتها، ‏وهناك أماكن مفتوحة يمكن للسياح زيارتها في أي وقت، فالزيارة لمكة لأغراض الحج والعمرة ‏محددة في أوقات معينة، حيث تأخذ السلطت السعودية على عاتقها مسؤولية تنظيمها والمحافظة ‏على أمن وسلامة الحجاج، وتوفير كافة مستلزمات الحج، وتقوم المملكة بتوفير فرص الحج للدول ‏حسب حصص معينة لتلافي الإكتظاظ والإختناق خلال موسم الحج بشكل خاص. ‏
يوجد في المملكة العربية السعودية (6300) موقع أثري، واهمها المدينة المنورة والمسجد النبوي ‏وجبل أحد والمسجد الحرام ومقبرة البقيع. وتحقق المملكة ايرادات كبيرة من زيارة الحجيج، حيث ‏يزيد عددهم عن (2) مليون حاج، ويبلغ متوسط نفقات الحاج الواحد (2500) دولار، وقد قدم ولي ‏العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مشروعا هائلا لتنظيم الحج خلال عام 2030 من خلال ‏التوسيعات في المدن والفنادق والخدمات لإستضافة (30) مليون حاج ومعتمر، مما سيوفر للملكة ‏ايرادا قدره (50) مليار دولار سنويا، اي ما يعادل نصف وارداتها النفطية عام 2021 والبالغة ‏‏(119) مليار دولار. سيكون ايراد الحج في السعودية منافسا لتصدير النفط علاوة على بقية ‏الإستثمارات الإقتصادية التي حولت الإقتصاد السعودي من أحادي الجانب الى متعدد الأطراف.‏
لنأتي الى الطامة الكبرى حول السياحة الدينية في العراق
يوجد في العراق عدد كبير من المناطقة السياحية والمهيئة للسياحة وتقدر بحوالي (12000) معلم ‏سياحي وأثري، لكن مع الأسف لم تأخذ جميع الحكومات قبل وبعد الغزو الإهتمام بهذا الجانب ‏المهم، وأهمها مدينة أور التي بناها الملك السومري (أور نمو) والتي زارها قداسة بابا الفاتيكان ‏فرنسيس، وهي أول زيارة يقوم بها بابا الفاتيكان الى أور. كانت أور المعروفة بزقورتها عاصمة ‏السومريين، وهي مولد النبي إبراهيم الخليل (ع) والتي يعتقد انه ولد فيها بين 2000 ـ 1700 ‏ق.م. ومنها مدينة نمرود عاصمة الآشوريين وتقع في مدينة الموصل، وتعود الى شلمنصر الأول ‏في القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وتوجد فيها مجسمات الثيران المجنحة إضافة إلى بقايا قصر ‏آشور ناصربال الثاني. ومدينة الحضر التي تحتوي على معابد مزخرفة وتعود الى العصر البارثي، ‏واعتبرتها منظمة اليونسكو من مدن التراث. ومدينة نيبور، في منطقة عفك وتقع على هضبة، وهي ‏العاصمة الدينية للبابليين، وتضم مكتبة كبيرة وملعب رياضي ومعابد وآثار مهمة. ومنها مدينة ‏سامراء التي بناها الخليفة المعتصم، وتضم الجامع الكبير الذي بناه المتوكل، وفيه مئذنة المليوية ‏التي يبلغ ارتفاعها (52) مترا، علاوة على قصور منها قصر العاشق والمعشوق الذي بناه الخليفة ‏المعتمد، وقصر الخليفة المعتصم. علاوة على مئات المناطق الاثرية كالجنائن المعلقة والمدرسة ‏المستنصرية ومقامات النبي جرجيس ويونس والكفل وغيرها من المناطق الأثرية والدينية.‏

السياحة المذهبية في العراق
تتعلق هذه الزيارات بالأضرحة والعتبات الشيعة وأهمها مرقد علي بن أبي طالب في النجف، ‏والحسين والعباس في كربلاء والعسكريين في سامراء، ومرقد الكاظم في بغداد، ومسجد الكوفة، ‏وغيرها من المراقد والعتبات يؤمها الشيعة من العراق والدول التي تضم شيعة سيما ايران ‏وباكستان وافغانستان ولبنان ودول الخليج العربي، ولا توجد معلومات صحيحة عن عدد الزوار، ‏فغالبا ما يبالغ فيها والا كيف نفسر ان عدد الزوار يترواح ما بين 2 ـ 12 مليون زائر حسب ‏التصريحات، علما ان كربلاء لا تسع حتى المليوني زائر، والغرض من ذلك منافسة مكة في عدد ‏الزوار، مع ان الدين الشيعي يعتبر زيارة كربلاء أفضل من حج الكعبة (بمغالاة ايضا) ما بين 100 ‏حجة الى مليون حجة. والحقيقة انه كلما زاد عدد الحجيج الشيعة (تسمية إمامية للزوار) لكربلاء ‏كلما تعاظمت المشكلة وخسارة العراق، لأن السياحة الدينية في العراق تكبد الدولة وشيعة العراق ‏المليارات من الدولارات التي تنفق على الزوار الشيعة، فالسياحة الدينية في العراق هي السياحة ‏الوحيدة في العالم التي تكبد البلد الخسارة.‏
الزوار الايرانيون مثلا غالبيتهم بأتوا مشيا من المعبر الحدودية في مندلي والشلامجة وبدرة ‏وزرباطية، البعض منهم لا يحمل نقودا، فكرم البلاهة والإستحمار هما من يغطيا نفقات حجهم في ‏العراق.‏

مرحلة السخاء الأولي
تبدأ قبل دخول الحجاج الأجانب الى العراق، حيث الكرم الخرافي، فسمات دخول العراق مجانية، ‏ولا يحتاج الزائر الى جواز سفر او وثائق تثبت شخصيته، ولا يوجد تفتيش للزوار في نقاط ‏التفتيش الحدودية، لمعرفة ما يحملوه معهم، البعض منهم يحمل مخدرات معه، ذكر لي أحد ضباط ‏الحدود ان أحد الزوار الإيرانيين كان يحمل قرآنا كبيرا وعندما أخذ ليقبله وجد فيه رائحة غريبة، ‏وتبين انه محفور الأوراق من الداخل ومعبأ بالمخدرات، وشاهدنا البعض جاء راكبا الدرجات ‏الهوائية. ‏

مرحلة السخاء الثاني:‏
ما ان تطأ أقدام الزوار أرض العراق، حتى تبدأ مرحلة السخاء الشاذ، حيث تؤمن للزوار خياما ‏للنوم مع المأكل والمشرب، بل حتى غسل الأقدام وتدليكها، ومع الأسف تقبيلها من قبل بعض ‏المستحمرين والجهلة، ويستمر الحال نفسه طوال الطريق من الحدود العراقية الى العتبات الشيعية، ‏وهناك باصات تؤمنها وزارة النقل العراقية لنقل من يرغب ركوب الباص مجانا، ويمكنهم زيارة ‏سامراء والكاظم بباصات الدولة مجانا أيضا.‏
حساب تخميني لإيرادات ضائعة
لو حسبنا ان عدد الزوار الأجانب على أقل تقدير (2) مليون، وان كلفة سمة الدخول (100) دولار، ‏وان ما ينفقه الزائر (1000) دولار خلال مدة الزيارة، فتكون ايرادات سمات الدخول (100) ‏مليون دولار، وايرادات الزيارة (2000000000) دولار فقط خلال شهر محرم فقط، ناهيك عن ‏بقية الزيارات، والأغرب منه ان بعض الزوار الايرانيين يجلبوا معهم اضافة الى المخدرات سجاد ‏وبضائع ايرانية يبيعوها في العراق، فتكون زيارة وتجارة رابحة معا. ‏
ان عدم حمل الزوار الأجانب جوازات سفر واوراق ثبوتية خلال زيارتهم للعراق يعني فسح ‏المجال امام الارهابيين لدخول العراق في ظل الفوضى العارمة في المراكز الحدودية، سيما ان ‏قيادات تنظيم القاعدة الإرهابي يقيمون في ايران، وعلاقة النظام الايراني بالدواعش جيدة. والدليل ‏ان داعش لم تنفذ اية عملية ارهابية في ايران، وعندما طلب منهم النظام الايراني الابتعاد عن ‏الحدود العراقية الايرانية لمسافة (40) كم، نفذوا الأمر بحذافيره. سبق أن صرح قائد القوات البرية ‏في الجيش الإيراني (أحمد رضا بوردستان) عام 2015 ان ايران ارسلت خمسة الوية من جيشها ‏على الحدود العراقية خشية من تنظيم داعش، ثم سحبت هذه الألوية ” بعد أن التزمت داعش بخط ‏الـ 40 وصرح الجيش الإيراني يومها بأنه لا ضرورة لاستمرار حالة التأهب على الحدود الغربية ‏مع العراق بعد التزام داعش بالابتعاد عن الحدود”. (موقع ديكر بان)‏
ويمكن القاء نظرة على واردات العراق من زيارة الشيعة الأجانب الى العتبات في الماضي القريب ‏‏” أن مجموع ما أنفقه سلاطين العجم وملوك‎ ‎الهند من الشيعة على هذه المساجد يناهز عشرة ملايين ‏ليرة. والشيعة تقصد‎ ‎زيارة المراقد الطاهرة من ديار قاصية فيأتي إلى العراق كل عام نحو مائتي‎ ‎ألف شيعي من الهند وثغور فارس وسواحل الخليج وبخارى وخيوه والصين لزيارتها‎ ‎وتقديم الطاعة ‏الدينية لها فإذا أن متوسطة ما ينفقه كل زائر خمسة جنيهات‎ ‎كان نصيب العراق سنوياً لا يقل عن ‏مليون ليرة فهناك القومة والحجاب‎ ‎والمرشدون إلى آداب الزيارة والعلماء المجتهدون يعيشون من ‏هذه الزيارات‎ ‎وعددهم يقدر بالألوف ومنهم من لا يقل ريع أحدهم سنوياً عن بضعة آلاف من‎ ‎الليرات وقد كان في النجف قبل حوادث فارس الأخيرة والحرب العامة نحو ثمانية‎ ‎آلاف طالب علم ‏يقتاتون طوال السنة بما يربحونه في بضعة أيام من الزائرين‎ ‎ولو كان في البلاد خطوط حديدية ‏لكثر عدد السياح والزائرين واستفاد العراق‎ ‎أضعاف ما يستفيده اليوم وفي استطاعة أهل الحل ‏والعقد أن يمدوا خطاً حديدياً‎ ‎من خانقين إلى النجف ماراً بكربلاء فإن خزائن الأئمة المملوءة ‏بالمجوهرات‎ ‎والعقود الثمينة تكفي للقيامة بأعظم من هذا الخطة وحينئذٍ يرتبط العراق‎ ‎بفارس ربطاً ‏محكماً ويتدفق سيل الثروة على الأمة العراقية من كثرة ورود‎ ‎المتدينين إلى زيارة العتبات ‏الشيعية”. (مجلة المقتبس/مجلد 4/ جزء 11 عام 1911). قارن هذه الحالة بما يجري اليوم في بلد ‏تبلغ فيه نسبة الفقر 40% من السكان.‏
السياحة الدينية لو استغلت بشكل عقلاني وحكمة ووطنية، وليس بشكل عقائدي فقط، لكانت مصدر ‏ربح وليس خسارة للعراق، وهذه الخسارة تفاقمت بعد عام الغزو 2003، وتسلم الشيعة دفة الحكم ‏في العراق.‏
تصور شيعي أجنبي يأتي لزيارة العراق ولا يحمل قرشا واحد، ويأتي بمخدرات وسجاد ومواد ‏أخرى يبيعها في العراق ويستلم المال ويعود به الى بلده، يأتي العراق مفلسا ويغادره محملا بالمال. ‏يصدق القول على العراق:‏
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم.‏

علي الكاش