كثير من الروايات والقصص اهتمت بهذا الجانب , عن حالة السقوط , الاسباب والنتائج , وكيف ولماذا ؟ بالنبش التشخيص والتحليل , من كل الجوانب المختلفة , وبمختلف الروى السياسية والاجتماعية والنفسية والثقافية , والغور في علم تشريح الشخصية او بطل الرواية الذي يعتبر المحور الرئيسي فيها , بالاشباع والتمحيص واستعراض مقومات هذه الشخصية التي سقطت سياسيا او اجبرت على السقوط , وكيف وصل بها الحال الى حالة الانهزام , والسقوط في دائرة الفشل والاخفاق . فقد احتلت هذه الروايات مساحات واسعة من الاهتمام والدراسة , في الادب العربي المعاصر , وكذلك في دائرة النقد الادبي بكل جوانبه , كما حظيت هذه الروايات بالاهتمام الكبير من جانب القراء والمتابعين , وكذلك احتلت جوانب العطف والالم الى شخوص هذه الرويات , او حالة رفض تبرير حالة السقوط , وتحليل الشخوص التي لبست ثوب السقوط والانهزام , ووضعها في ميزان التقيم , من كل جوانبها السياسية والنفسية والاجتماعية والاخلاقية , وكيفية سيطرت اوهام الاغتراب والانسلاخ عن الواقع الفعلي لمجتمعاتنا المغضوب عليها بالحكام الطغاة والمستبدين , والحالة العامة لهذه الشخوص التي تجرعت كأس الانهزام والسقوط في حضن السلطة القمعية , يسود حالاتها العامة , نظرة سوداوية بالمنظار الاسود المتشائم من الحياة العامة , ويأكل اليأس والخيبة والاحباط , كأن في داخلهم شيئ مقتول او مكبوت اومنهزم . لا شك ان حياة السجون والمعتقلات , تحت رحمة الانظمة الشمولية , تتعدى اساليبهم الوحشية , قدرة الانسان السوي في التحمل والتحدي والمقاومة , ولن يكفوا عن استخدام كل وسائل التعذيب الهمجية , حتى ينتصروا على ضحاياهم بتجرع علقم السقوط , لذا سقط الكثير من اصحاب الرأي السياسي والمعتقد , بالموت تحت التعذيب البربري او في مسخ حرمة وكرامة المعتقل , وفئة اخرى تحملت العذاب والقهر ولم تستسلم , اذ ظلت محافظة على صمودهم , وهذه شجاعة كبيرة , لكن فئة اخرى لم تستمر ولم تتحمل ثقل المنازلة , قد تعود لجملة اسباب تدفع المعتقل السياسي , في نهاية المطاف ان يرفع راية الاستسلام , قد يكون وقع تحت ظروف قاسية , او قد تكون بدافع الجزع والفشل والحرمان , او ظروف الاهل ومعاناتهم , او قد تلعب دورا الروح البرجوازية المتقلبة , والتي تموج بين التقلب وعدم الاستقرار , وهي تفشل في تحقيق مصالحها الذاتية . لذا يكون الهروب هو المخرج الوحيد . ولكن الشيئ المؤكد ان بعد السقوط , تعتريهم حالات التشرد والضياع والندم والخيبة والخذلان , والصراع الفكري الداخلي العنيف , ومناجاة الذات الضائعة , في مجتمع مكبوت بين مطرقة السلطة الحاكمة التي لاتعرف الرحمة والشفقة واحترام حقوق الانسان , وسندان العادات وتقاليد المجتمع المتخلف , والصراع بين الافكار القديمة , والافكار التي تؤمن بالتحرر والانفتاح والانعتاق , لذا فان الاغتراب حالة شمولية لشخوص هذه الروايات , في الاخفاق في الحياة السياسية , وعدم تحقيق آمالهم العريضة المرسومة في اذهانهم , اي انهم يدخلون في ازمة فكرية ونفسية حادة , لن يكون مخرج او حل لها سوى الانهزام الكلي , وخاصة ان شخوص او ابطال هذه الروايات فئات متعلمة ومثقفة , ولها اهتمام واسع بصنوف الادب , او حتى بعضهم يمارس مهنة الكتابة الادبية , لذا في كل الاحوال , يعتبرون ضحايا العنف والارهاب السياسي , وضحايا القهر والحرمان , ولاسيما انهم ضاقوا الهوان والمصائب والعذاب في معايشة حياة السجون القاهرة , وممارسات الرهيبة , التي تركت جروح لاتندمل بسهولة , في ظل استمرار السلطات القمعية , من هذا المنطلق , لابد من اختيار نماذج متنوعة ومختلفة من هذه الروايات التي تطرقت الى حالات السقوط السياسي , لذا اخترت ثلاث نماذج من هذه الروايات , حتى ابرهن على الدلائل التي سلفتها وذكرتها , وهذه الروايات هي : ( الشرق المتوسط ) للكاتب عبدالرحمن منيف . و ( الوشم ) للكاتب العراقي عبدالرحمن مجيد الربيعي . و ( الشحاذ ) للكاتب الكبير والحائز على جائزة نوبل للاداب , الكاتب نجيب محفوظ .
1 – رواية ( الشرق المتوسط ) عبدالرحمن منيف . تتحدث عن سجين سياسي ( رجب ) بعد خمس سنوات من منازلة ادارة السجن وتلقى اقسى اشكال المعاناة والقهر , من ممارسة اشد انواع الاساليب الوحشية من التسقيط السياسي والاجتماعي والنفسي العنيف من وسائل التعذيب , داخل اسوار السجن , وفي محاولات مسخه وتحويله الى بهيمة خانعة وقانطة يأكلها الخيبة واليأس والاحزان والتشاؤم والضياع النفسي , ووضع مصير حياته على كفه راحته , واوشك المرض ان يقتله ويحوله الى جثة هامدة في لحظة ما , في حين المساومات بالتسقيط تبدأ منذ اليوم الاول للاعتقال , فيتهاوى ويسقط كالورقة اليابسة من اغصان الشجرة , ويستسلم الى السلطة الحاكمة التي تمثل سلطة ادارة السجن . اذ لم يعد يقاوم ويتحدى ويصمد للقمع والارهاب , وقد اضعفه المرض والمشاكل العائلية وهمومها بالضغط عليها من اجل اجباره الى الاعتراف والتعاون , لذا تبدأ سوق المساومات الذليلة تطرح بكل استهتار , ليس فقط في الاعتراف والتخلي عن المعتقد السياسي , وانما جره الى التعاون والتجسس , مقابل الافراج عنه , وتدبير سفره الى خارج ليكتب تقارير دورية عن نشاط المعارضة للنظام الحاكم في الخارج , وهو في قرارة نفسه ان يقدم التقارير الى منظمات حقوق الانسان الدولية لكشف عن القمع والارهاب والطغيان , لكنه يجد الاجواء المضادة له , باعتباره خائن وعميل , وهنا تبدأ رحلة الخيبة والندم , وتهجم عليه هواجس السقوط والانهزام والتخاذل , فيلبس ثوب الضياع والاغتراب , وحتى لم يجد السند الذي يقوي عزيمته , او الذي ينقذه من الورطة التي وقع فيها , فتسوء حالته الصحية اكثر من السابق , ولم يعد له خيار سوى ان يسلم جثته الى السلطة الطاغية , بعدما نفذ صبره , وخاصة ان عائلته اصبحت رهينة وضحية عند النظام القمعي , لانه لم يوفي بعهده بكتابة التقارير الموعودة , وخوفا من ضياع حياته في الغربة , مع ضياع مصير عائلته , يرجع الى بلده وروح الانهزام والضياع والانكسار تسيطر على افكاره وعقله .
2 – رواية ( الوشم ) , عبد الرحمن مجيد الربيعي . تتحدث عن سجين سياسي ( كريم الناصري ) يعتقل في سجن كان اصطبلا للخيل , يعيش ظروف قاسية في السجن كبقية السجناء معه , تمارس ضدهم كل الاساليب الوحشية , في كسر شوكة مقاومتهم , والتخلي عن التحدي والمقاومة والممانعة في التمسك بالصمود , واجبارهم بعنف وقوة في اسقاطهم سياسيا . لم يحتمل ( كريم الناصري ) هذه الظروف القاسية وهي اكبر من قدرته , وان السجن ماهو إلا مسلخ لمسخ وتشويه الانسان . فيبيع لهم كل شيئ في سبيل الافراج عنه , وشم رائحة الحرية خارج السجن , لكن يبدا يفكر , بانه خرج من السجن انسان ممسوخ من القيم السياسية والانسانية , والتخلي الكامل عن شؤون السياسية , بل يجب ان يكون خانع بدون ارادة واختيار , فيعيش حالات من الضياع والتشرد وتأنيب الضمير , والشعور بالخيبة والخذلان والاغتراب داخل ذهنه , ويشعر الخيبة المرة من تجربته السياسية الفاشلة , وضياع الامال , فتنازعه الهواجس السوداوية , ويعترف بانه ارتكب خطيئة وذنب كبير , وان حياته داخل السجن هي افضل مما عليه خارج السجن , وانه استسلم كالحقير بدون ثمن . ويحاول ان يغطي على هذا القهر النفسي , ويقتل همومه الضائعة , فيصاب في ازمة حادة , ويجرب ان يفتتها ويتخلص من وطئة العذاب الذي يقتله . ان يشغل نفسه باجساد النساء , بالتردد على دور الدعارة والخمر , والصداقات العبثية مع النساء ,, لكنه يفشل في التخلص من ازمته النفسية , ولم يسعفه هذا الملجأ , بل زاد في ضياعه وتشرده , بل ظلت حالات الهروب تلاحق افكار وحياته النفسية , ولم يستطيع ان يواجه موجة الانكسارات والانهزام . ويعترف انه وضيع ارتكب خطيئة , لايمكن التستر عليها , بل تظل وشم يلاحقه في التشرد والخراب , والهروب من الواقع , وفي عتمة الارهاق والقهر النفسي والفكري , يقرر الرحيل والانهزام الى المجهول .
3 – رواية ( الشحاذ ) , نجيب محفوظ . تتحدث عن حالة اليأس والهروب , بالبحث عن الذات وسر الوجود , وبطل الرواية ( عمر الحمزاوي ) المحامي الواسع الشهرة . وقد امتلك كل شي في الحياة , المقام الرفيع والمال , والاسرة السعيدة , لكن تأنيب الضمير والندم والخيبة والذنب , تلاحقه حتى في المنام , رغم انه حقق النجاح الكلي في حياته , ورغم انه تخلى عن معتقداته السياسية , ولم يعد يفكر بالسياسة , حتى ترك اهتماماته بالادب وممارسة كتابة الشعر , وترك القراءة بكل اصنافها , ولكن الهواجس تلاحقه وتظلم حياته وعقله , رغم انه ابتعد عن رفاق السياسة بعد اعتقال رفيقه ( عثمان خليل ) وودع في السجن وحكم عليه بعشرين سنة من الاشغال الشاقة , ورغم انه لم يدخل السجن , ويواجه الممارسات اللانسانية , بفضل مقاومة رفيقه ( عثمان خليل ) بانه لم يستسلم ولم يعترف على احد . وانه خارج السجن حقق كل آماله في الحياة , لكن الصراع النفسي العنيف يتصاعد ويكبر ويمزق حياته المستقرة , فيستسلم الى افكاره السوداوية والكئيبة , فيظل يناقش عقله عن سر الحياة وماهية الوجود , ويشعر بتفاهة حياته , بدون قيمة فكرية وثقافية , فيصاب بحالات الضياع والتشرد , لذا يكثر من ارتياد الملاهي ومعاشرة النساء , ويبتعد عن البيت ومكتب المحاماة ويتكاسل في المرافعات , لانه يشعر بالاحباط والغربة والازمة النفسية الى حد الجنون , انه يتشرد في داخله , ولم يعد يسطير على ازمته النفسية او المرض النفسي . ويشعر بالفجوة العميقة بين افكاره التي تتزاحم في ذهنه ,وبين الواقع الفعلي , انه مخاض وصراع عنيف , واخذ ينزوي ويبتعد عن كل شيئ , وتحول الى مأزق عويص , لعمله وتعامله مع اسرته , وزدات ازمته اكثر سوءا بعد خروج ( عثمان خليل ) من السجن وهو اكثر اصرار للعمل وبدأ حياة جديدة بثقة وعزيمة قوية , فيسلمه مكتب المحاماة , ويتقدم في الحياة بخطى ناجحة , حتى يتزوج ابنة ( عمر الحمزاوي ) , وهذا الاخير تتعمق ازمته بالاغتراب والضياع والتشرد , فيهجر الجميع , وهو في حالة الجنون والغربة والانهزام والتخاذل الكلي , فينهزم من الحياة العامة الى المجهول.