يشكك بعض المتابعين لمحنة المسلمين الروهينغيا في ميانمار في مصداقية الصور التي تتناقلها وسائل الإعلام المختلفة، ويتبادلها المتابعون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويرون أنها صورٌ مفبركة ومركبة، وموظفة ومسيسة لخدمة أهدافٍ وأغراضٍ معينةٍ، ويسوقون الأدلة على أقوالهم، ويقدمون البراهين على صحة شكوكهم.
وقد تم انتشار مرافعاتهم الفيسبوكية بصورةٍ كبيرةٍ وعلى نطاقٍ واسعٍ، وكادت محاولات المكذبين للمحنة والمنكرين للفتنة أن تنال من إيمان المؤمنين بعدالة قضية مسلمي الروهينغيا، وتهز ثقة المؤيدين لقضيتهم والمدافعين عن حقوقهم، إذ دفعت الكثيرين منهم لمتابعة ما ينشر والتدقيق فيما يكتب، والتركيز على الصور المرفقة ومقارنتها مع غيرها للتأكد من حقيقتها، وأنها خاصة بمسلمي ميانمار، وأنها لم تجلب من مكانٍ آخرٍ، ولم تلتقط في كوراثَ وأحداثٍ مختلفةٍ وفي دولٍ متعددة، لكنها تشبه ما يحدث في ميانمار، الأمر الذي جعلها تنجح في إحداث بلبلةٍ وخلق أجواءٍ من الشك والريبة وعدم الثقة في كل ما ينشر.
قد نحترم المنهجية في العمل والمصداقية في الإعلام والمهنية في البحث والاستقصاء، ونقدر عالياً الساعين لنشر الحقيقة وكشف الزيف والكذب والخداع، لأن هذه الصفات هي عماد الحقيقة المنشودة، وأساس المنهج العقلي العلمي السليم، وهي التي يتطلع إليها الجادون ويسعى إليها المخلصون، ولكننا ندين محاولات لي أعناق الحقائق، وتسطيح الأزمات، والتهوين من المحنة، ونكره عمليات الكذب والغش والتدليس والنفاق، ونستنكر محاولات توظيف القرائن واستيلاد الشواهد، فقط من أجل طمس الحقائق وإخفاء الوقائع، ومحاولة رسم صورٍ جديدةٍ لا أساس لها من الواقع في شئ، اللهم إلا لخدمة أهدافٍ سياسية وأغراضٍ عنصريةٍ، مشبوهة في أصلها وقذرة في غايتها، وغير شريفةٍ في وسيلتها.
ينبغي أن نتساءل لماذا تعب المتابعون وكدوا، وبذلوا الجهود وصبروا، واجتهدوا واستقصوا في جمع المتشابهات، وتوظيف المشتبهات في هذه القضية، ولماذا كل هذا الحرص على تبرئة سلطاتٍ لا تريد أن تبرئ نفسها، ولا تحاول الدفاع عن جريمتها، بل تتفاخر بما عملت، وتتيه عجباً بما ارتكبت، وتصر على المضي في ذات السياسية والمنهج، فهي تنفذ سياسةً قديمةً التزم بها المؤسسون العسكريون، ومضى عليها السياسيون والتابعون، وتعهد القيام بها الجيش والشرطة والمؤسسة الدينية وكافة مرافق الدولة، وعلمت الأمم المتحدة بالجريمة قديماً ونددت بها واستنكرت جرائم الحكومة وأفعال جيشها حديثاً، الأمر الذي يؤكد أن هذه الجرائم إنما هي سياسة دولة ومنهج جيش وسلوك شعبٍ وعادة مجتمعٍ، وأن الدولة البورمية لا تنكر جريمتها ولا تتطهر منها، ولا تريد من أحدٍ أن ينبري للدفاع عنها أو تبرير فعلتها.
غريبٌ ما يقوم به فريق المحامين المتطوع للدفاع عن جرائم سلطات دولة ميانمار المتعاقبة، فقد تنطع لهذه المهمة مختاراً، وأقدم عليها منحازاً، وأنكر أدلتها وتجاوز شواهدها، واستحضر من أجهزة الحواسيب ومستودع البيانات ما ينكر جرائم التطهير، وما ينفي عمليات التنكيل والمجازر الدموية، وآلاف القتلى والغرقى والمحروقين.
إنهم إذ ينكرون شهادة عشرات آلاف اللاجئين الفارين من جحيم الإبادة، ويتهمونهم بالكذب والافتراء، فهل يستطيعون إنكار صور أجساد الأطفال المحروقة، أو المشنوقة والمدلاة من سقوف البيوت وأغصان الأشجار، وهل ينكرون حرق القرى بأكملها، وتدمير المساجد وحرق المصاحف وتدنيس صفحات القرآن الكريم، ألا يتابعون آلاف الصور التي تنقلها وسائل الإعلام الأجنبية من مخيمات اللاجئين الروهينغيا في بنغلاديش، فالصور مروعة، والظروف مأسوية، والأحوال قاسية، وفرص الحياة الكريمة معدومة، والذين يغطون هذه الجرائم ليسوا عرباً أو مسلمين، إنما هم صحفيون مهنيون يحترمون مهنتهم ويقدسون رسالتهم ويخلصون عملهم.
والأشد غرابةً في هذه القضية أن جزءاً كبيراً من هذا الفريق المدافع عن جريمة السلطات البورمية، هم من العرب والمسلمين، ومن الشبان والشابات المغرر بهم، المكذوب عليهم، الذين أغمضوا عيونهم وأغلقوا عقولهم ومضوا وراء مخططاتٍ شيطانية، ورواياتٍ محبوكةٍ بهدفٍ، ومصاغةٍ لغرضٍ، وظن هؤلاء أنهم بما يروجون من صورٍ مشابهةٍ إنما يخدمون الحقيقة، ويفندون أدلة الاتهام الباطلة، وما علموا أنهم ليسوا إلا أدواتٍ في لعبة ما يسمى “الميديا”، وأنهم ينفذون مخططاتٍ معاديةٍ لا تقل في جرمها عما يرتكب من جرائم دمويةٍ بحق أقلية الروهينغيا المسلمة، الذين يأملون منا النصرة، ويتوقعون منا التأييد والمساندة، خاصةً أنهم لم يقصروا معنا يوماً، ولم يتخلوا عن نصرة قضايانا أبداً، ولهذا فإننا نجرم في حقهم إذا كذبناهم ولم نصدقهم، وإذا نفينا معاناتهم وأنكرنا محنتهم، وصدقنا أعداءهم وأيدنا خصومهم، بل إنهم لن يغفروا لنا شكنا في محنتهم أو عدم ثقتنا فيهم.
ألا يتعلم هؤلاء من اليهود ومن الحركة الصهيونية، الذين يحسنون رواية المحرقة، ويسردون محنة “الهولوكوست”، ويحافظون على الرواية الحقيقة التي تناقلتها أجيالهم عن الناجين من المحرقة النازية، ومن الذين عاصروها أو كانوا شهوداً عليها، إلى الدرجة التي أصبح الإيمان بالمحرقة واجب، وإنكارها كفرٌ، والتشكيك فيها جريمة تستوجب العقاب والسجن والطرد والتشويه والحرمان، ومع ذلك فإن العرب والمسلمين لا ينكرون هذه المذبحة ولا ينفونها، ولا يشككون فيها ولا يبررون لمرتكبها فعلها، ولا يرون أنها مشروعة وأنها عملٌ مقبولٌ وغير مدانٍ، رغم أن الحركة الصهيونية التي استفادت من هذه المحرقة غدت لنا عدواً مريداً، وكونت بعدها عصاباتٍ مسلحةٍ وشكلت جيشاً احتل أرضنا واغتصب حقوقنا وشرد شعبنا، ودمر وطننا وبنى فوقه ومكانه كياناً أصبح يستهدفنا، ويسعى لشطبنا وإنكار وجودنا.
لا أحد ينكر أن الجرائم متشابهة والضحايا يتماثلون، والحرق واحدٌ والأجساد المتفحمة تتصلبُ وتسود وتضيع ملامحها، والمجازر والدماء تتوحد في لون الدم، ومشاهد الموت والتعذيب والسحل والغرق تتشابه، فكلها بطلها الإنسان المُعَذَّب والمُعَذِبُ، كما تتشابه السيول والعواصف، والأنواء والأعاصير، والزلازل والبراكين، وتتحد في ظواهرها وآثارها، وتترك الدمار نفسه والخراب ذاته، ولكن هذا التشابه في الصور والمشاهد لا يعني أن ننفي حادثة ونثبت أخرى وفقاً لأهوائنا ورغباتنا، وتبعاً لأهدافنا وغاياتنا، فما جرى ويجري في ميانمار حقيقة لا خيالاً، وواقعاً لا سراباً، ولا يقوى على تكذيبه أحد، ولا ينكره إلا جاهلٌ أو مريض، أو سفيهٌ مجنونٌ، يعمل خادماً ويستخدم أجيراً أو يشغل حماراً، يؤمر فيُطاعُ، ويُوجه فيسيرُ.