حينما قرأت أن معهد التنمية السياسية يقيم ندوة بعنوان “أهمية الخطاب الديني في نشر ثقافة السلم الأهلي” فرحت لأمرين: استحسنت اختيار الموضوع لأهميته، ووددت رؤية المرجعية الشيعية المعتدلة السيد علي الأمين متحدثا وجها لوجه، ولكن مما يؤسف أنني لم احظ بأي منهما، ولا ألوم المعهد، فهذه طبيعة الخطاب الديني العربي اليوم،

 

لم تتغير ملامحه مع تغيير الزمن ولم يطور نفسه، ولم يستفد من تراكم النظريات والتقنيات، وظل خطبا منبرية معتادة، فالكلمات مكتوبة مقروءة بلغة رسمية رتيبة خالية من العواطف، آيات قرآنية كريمة وأحاديث نبوية شريفة متواترة، وهذا الأسلوب لم يعد مجديا في الندوات السياسية والاجتماعية وليس ذات جدوى مقارنة بالجهد المحمود المبذول في كتابة الخطاب وقراءته. غابت الشواهد وغابت الأمثلة والموازنة، غاب الواقع، كما غاب المرجع السيد علي الأمين وقرأ كلمته ابنه. ولولا وجود نفحات شهدتها المناقشة اجتهد فيها الحاضرون إخراج المتحدثين من قوقعتهم لكنت ندمت على الوقت الذي صرفته وجهد البحث عن موقف لسيارتي في الفندق.

لقد أعجبني تعليق السيد ياسر العلوي في حديثه بين الكلمتين حينما أفصح إحصائيا أن 53 % ممن يحضرون خطب الجمعة المنبرية لا يعرفون موضوعها! وأجاد التساؤل، من المسؤول؟ الخطيب؟ المستمع؟ اللغة؟ وهو ما لم يجب عليه احد من المعنيين، مثلما لم يفصح السيد ياسر عن مرضى ونرجسيين لا يجدي معهم الخطاب وعن دوره في ذلك، وكان ينبغي توجيه الخطاب إليهم حيث الخلل. ما كنت أتمناه وأطمع فيه أن يكون للخطاب هدف محدد قابل للقياس، ويفترض أن نسبة منه تتحقق بعد ان ينهي المتحدث خطابه،

 

وأتساءل إذا كانت كل النصوص التي تلاها المتحدثون في الندوة موجودة في التراث ومعلومة وقابلة للتطبيق، لماذا جنح المجتمع إلى التطرف؟
الحقيقة المرة أن الخطاب الديني الوسطي وأعني المناسب، له أربعة عناصر: متحدث، ومستمع، ورسالة، وحوار تفاعلي حاسم، وهي غير متوافرة في الخطاب الديني العربي، العلماء اليوم هم أئمة المساجد، موظفون عند الحكومة أو الأحزاب أو مالكو الأموال، علماء يأكلون من تعب غيرهم، ليس فيهم فلاحا ولا عاملا ولا تاجرا ولا رب عمل، هم منزوون في الزوايا والمساجد لا يسمعون الأخبار ولا يقرأون الصحف ولا يتفاعلون مع الناس، فمن أين تأتي الموضوعية؟

 

المستمعون بين مثقفين وأنصاف مثقفين يجهلون معاني اللغة ودلالة تراكيبها، ولا يعرفون شيئا عن تفسير القرآن، ولا عن تخريج الأحاديث، ولا يفرقون بين المرفوع والمنصوب، يأتون إلى المسجد لقضاء فرض بحكم العادة. الرسالة مكررة ومكرورة دوريا، تهديد ووعيد وإنذار وأوامر ودعاء، ولم أسمع يوما حوارا بين الخطيب والحاضرين، فالتغذية العكسية منعدمة. فأين المرسل؟ وأين الخطاب الديني؟ أما الخطاب الديني في الإعلام فغاياته موجهة سلفا، وإذا انعدم الإعلام المهني المستقل انعدم الخطاب الديني الحر، وأتساءل لماذا نجح الخطاب الديني الإيراني قليلا، وفشل الخطاب الديني العربي كثيرا؟
الدكتور عفيفي تحدث في ثنايا المناقشة عن تصدر الجهلة للخطاب والتنطع وأعتقد يريد التنظيمات الإسلامية الجهادية المتشددة على الساحة العربية، وأنا أشاركه الرأي، ولكن، من ترك لها المجال؟ هؤلاء استغلوا الفراغ الذي خلفه صمت العلماء ومجاملاتهم، فملأوا الفراغ بالرايات السود والبيض والخضر والصفر، وسار وراءهم الأنصار بعد أن أفتت المرجعيات بوقف الجهاد الحقيقي بوجه الغزاة الأجانب، وفرضته في شُعب التناحر بين المسلمين. السيد السيستاني اكبر مرجعية للشيعة لم أره يحضر صلاة الجمعة أو يلقي الخطبة، ولم يره احد يتجول بالأسواق ولا يزور العتبات التي يأمر بزيارتها،

 

ولم اسمعه يتكلم العربية، كيف يستقيم له الخطاب والاجتهاد؟ وشيخ الأزهر المرجعية السنية انعزل ولم أره في الحج بين جموع المسلمين يتعرف إلى أحوالهم، خمس عشرة سنة حوصر العراقيون عربيا بالغذاء والدواء ولم يتكلم، ولم يحاور أيا من المنظمات التي ندعي أنها إرهابية، ولم يؤيد الثورة على مبارك إلا بعد نجاحها والبقية معروفة، هذه هي المرجعيات فماذا نتوقع من الخطاب الديني؟ حبذا رؤية مسيحي يحاور مسلما بشأن خطاب كل منهما يحلله بندية وشفافية، أو بين سني وشيعي، وفارسي وعربي،

 

فالحسن يظهر حسنه الضد، ليتهم تركوا الحديث لمفكر علماني يحلل الخطاب الديني وينتقده، أو لمفكر إسلامي ينتقد الحوار المتحضر للدول العظمى التي تحاورنا بالطائرات والبوارج. فبضدها تتميز الأشياء، فالخطاب الديني المطلوب يجب أن يكون في الصميم وليس بالاعتدال فحسب، شكرا لمعهد التنمية السياسية والقائمين عليه، أتاحوا لنا فرصة التكلم في الموضوع ولو مع أنفسنا، وليس بالإمكان أحسن مما كان.