الحوار الصحفي قبل أن يتحول الى نعيق ..نهيق وخُوار !
احمد الحاج
نجحت ثورة أكتوبرالشعبية في إحداث عصف هائل بالمنظومات الإجتماعية والفكرية والثقافية العراقية على المستويات كافة ، وفجرت من الإبداعات ما فجرت ، أظهرت من المكنونات ما أظهرت ، صقلت من المواهب ما صقلت، كشفت من المعادن ما كشفت، حتى أنك وحين تمر بنفق التحرير وما حوله فضلا عن ساحات وميادين التظاهر الأخرى ضد أفسد طغمة سياسية عرفها التأريخ في عموم الشرق الأوسط وترى بأم عينيك ما تفتقت عنه العقلية المحلية من إبتكارات تخلب الألباب فكأنك ترى عراقا غيرعراق ما قبل الأول من تشرين الأول 2019 ، تتعرف على مواطن غير ذاك الذي ألف الطغيان وتعايش معه بعد أن إستيأس من إزالته لنقل حكمه الى آخرين هم أفضل منه بكل المقاييس ولاشك ، وبت ترى إبداعات خلاقة وغير مسبوقة في أساليب خدمة المتظاهرين ، طرائق متجددة في التعبيرعن الرأي ، في فنون الكرافيتي ، التصويرالفوتوغرافي ، الشعر، الخط ، الرسم ،الكاريكاتير ، الصحافة الإلكترونية أو صحافة المواطنة بما أذهل القاصي والداني ، بإستثناء فئة الحوار الصحفي التي ظلت تراوح مكانها عصية على التغيير لأسباب عدة لعل من أبرزها تركيزها كعادتها على الطبقة السياسية الفاسدة من دون جموع الجماهيرالغاضبة ، ربما خشية من تعرض الصحيفة ، الاذاعة ، القناة كنظيراتها التي تعرضت للاغلاق بقرارات كيفية مجحفة لتكميم الأفواه أصدرتها هيئة الإعلام والاتصالات العراقية (CMC) مؤخرا شملت تسع فضائيات وخمس اذاعات مع توجيه إنذار نهائي لخمس قنوات فضائية أخرى ، ولو أن الحوارات شملت مثقفي الساحات ومبدعيها وناشطيها لأحدثت إنقلابا في القوالب المعتادة للحوارت الصحفية التي سئمها الجمهور المحلي ولتخلصت الصحافة المقروءة والمسموعة والمرئية من نمطيتها المعهودة التي أجهضها الوصولوين الذين ألفوا نعيق السياسيين ونهيقهم وخوارهم وهم يُغربون ويُشرقون ويوزعون الاتهامات يمينا ويسارا خلال الجلسات الحوارية معهم بإستثناء أحزابهم الفاسدة وزعاماتها الأفسد .
وأنوه الى أن فنون الحوار الصحفي تتضمن ثلاثة أنواع رئيسة ،أولها (حوار المعلومات ) وهذا النوع يتم إجراؤه مع شخص له دراية كافية وخبرة واسعة في مجال تخصصه وبالتالي فإن كم المعلومات والخبايا والأسرار التي سيفصح عنها تكون مثمرة إن أجاد الصحفي توجيه الأسئلة بشكل مهني بعيدا عن المحاباة وتمتع بشيء من الحزم وقوة الشخصية والجرأة والوضوح في طرحها بما يثري الحوار ويشبع نهم المتلقي الذي يتحرق شوقا للإجابة على تساؤلاته الحائرة من أرباب الإختصاص وعلى ألسنتهم ، ومن الخطأ بمكان ، أن ” يتم التركيز في هذا النوع من الحوارات المهمة على الجوانب الشخصية للشخص المُحَاوَر فهذا ليس محلها ولأن الموما اليه سيجد في ذلك فرصة للتهرب أو التملص من الإجابة فضلا عن المراوغة وعدم الاستجابة لمن يحاوره بما يلبي رغبة القراء والمتابعين بذريعة انه لم يتلق أسئلة كافية بشأنها ، ومن الأخطاء الجسام في هذا المجال أيضا أن يكون السؤال أطول من الإجابة لأن بعض الصحفيين يحاول أن يستعرض معلوماته أكثر من محاولة إستقبالها من الشخص المعني ، كما إن إستفزاز الأشخاص المعنيين مطلوبة لإستخراج كل ما في جعبتهم من معلومات قيمة غير متوفرة عند سواهم ،كتوجيه سؤال اعتراضي على شاكلة ( ولكنك وحزبك تتهمون بالشوفينية واقصاء وتهميش الآخرين لغرض التفرد بالقرار السياسي !) ، ومن الخطأ كذلك التركيز والمراهنة على منافع الحوار الشخصية كتوطيد العلاقات ، تمشية المعاملات ، حيازة التكريمات ، الحصول على المكافآت إبتداءا وان كان لابأس بها عرضا أو انتهاءا برضى المُحَاورين أنفسهم وقناعتهم عن طيب نفس مع كراهة ذلك برغم إباحته عرفا ، لأنها فضلا عن كونها مثلبة بحق الصحافة والصحفيين فإنها ستجعل أحدهم مداهنا اكثر من كونه محاورا وبالتالي سيخرج الحوار بائسا وغير مجد ولاينفع الجمهور بشيء ولا يجيب ولو بالحد الأدنى عن أسئلته التي وكلَّ الصحفي أو فوضه بتقديمها بإعتباره ابن السلطة الرابعة ومهنة المتاعب وصاحبة الجلالة “.
و ثانيها هو (حوار الرأي) و يتم من خلاله إستضافة اكثر من شخص معني بموضوع الحوار ومضمونه لبيان وجهات النظر المختلفة أو المتفقة بشأن الموضوع مناط البحث ، المتقاطعة أو المتلاقية ، في قضية ما أو جملة من القضايا التي تتصف بوحدة المضمون للحصول على إجابات وافية بإمكان المتلقي الإفادة منها وإضاءة جوانب معتمة كان عصي عليه فهمها الى قبل دقائق من بث الحوار تلفازيا أو نشره في اية صحيفة أو مجلة ورقية أو الكترونية .
وثالثها هو ( الحوار الشخصي ) الذي يركز على الشخص الذي يتم محاورته وإستعراض حياته الشخصية ، مسيرته الابداعية ، ابرز محطاته ، مؤلفاته ، دواوينه ، شهاداته ، اخفاقاته ، تكريماته ، صوره ، أسراره ، ذكرياته ، يومياته ، ونحو ذلك على أن لاتتكرر صيغة الاسئلة على شاكلة ” ماهي ابرز محطاتك ، ماهو الكتاب الذي تحب ، ماهي صفات المرأة التي تعشق ” انها صيغة استفهامية تبدأ كلها بـ ( ما هي ، ما هو ) ما يسبب مللا لدى القارئ والمتابع ، كما انها تعطي انطباعا بأن الصحفي لايمتلك غير صيغ إستفهامية جامدة ومكررة يطرح من خلالها اسئلته ولابد من الاطلاع الواسع على سيرة الشخص المعني ، مؤلفاته ، لوحاته ان كان فنانا ، مدرسته الفنية ، نتاجه المسرحي أو السينمائي ، خلفياته الايدولوجية والعقائدية ، سبر أغواره ،كشف كنهه ، متابعة خلافاته قبل محاورته ليتلقى سؤالا مفاجئا على نحو ” قالت لي العصفورة ان هناك خلافا بينك وبين المطرب الفلاني بعد اتهامك إياه بسرقة لحنك الأخير فماهو ردك على ذلك ؟ “وما يصدق على الملحنين يصدق على التشكيليين والممثلين والمطربين والسينمائيين والاكاديميين والبرلمانيين والسياسيين وهكذا دواليك .
ولايفوتني هنا أن أذكر بأن المقدمة الممهدة للحوار بأنواعه الثلاثة مهمة جدا على أن تكون بليغة ، جامعة مانعة ، وبصوت مسموع لإستنفارالشخص المُحَاور، إستفزاز مشاعره ، تثويرمخيلته ، شحذ ذاكرته ، رفع همته ، وتهيئته نفسيا للاجابات بقدر كبير من المسؤولية والمصداقية ، كذلك الخاتمة يجب ان تكون تشويقية بما يكفي ليجعل القارئ أو المتابع يغادر الحواروهو راض بما حازه من معلومات قيمة واجابات وافية شفت غليله وأضاءت له الطريق إزاء موضوعات تم تناولها على لسان أصحاب الشأن والإختصاص كل في مجال تخصصه كان المتلقي يجهل الكثير من تفاصيلها وحيثياتها الى وقت قريب .
وعلى الصحفي أن ينوع أساليبه ويجدد مضامينه ويرقى بحواراته فضلا عن محاوريه الى افق ومديات أرحب ، فما أجمل من أن تجري حوارا مع ” معاقي التحرير ” ، ” سائقي تكتك التحرير ” ، ” مصوري التحرير ” ، ” رسامي التحرير ” ، ” صحفيي التحرير ” ، “طبابة التحرير “وهكذا دواليك في كل ميادين وساحات التظاهر السلمي المطالب بالوطن الحر غير التابع لدول الجوار وسواهم من قراصنة البحار ، فهؤلاء سيدلون بدلوهم في بئر تحاشى الصحفيون إخراج مائه من قبل خوفا من إغضاب السلطة الحاكمة وعلى رأسها الأخ الاكبر ما كان سببا في تغييب الطاقات طيلة السنين الماضية قبل ان تأتي ثورة اكتوبر لتنفخ فيها الروح ثانية وتبديها للعيان مجددا.اودعناكم اغاتي