حمد جاسم محمد الخزرجي/مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية
يهدف أي نظام سياسي تحقيق أهداف عامة متعلقة بضمان الأمن والاستقرار، وتعزيز التنمية البشرية، عبر سياسات تعزز القدرة على الاختيار وتضمن الأمن وتقلص الفوارق الاقتصادية بين المواطنين، وتوفر الرفاهية والتعلم، وتجاوز الحرمان) في إطاري الحاضر والمستقبل (سواء ما تعلق منه بالرفاهية والأمن والقدرة على الاختيار، وبعبارة أوسع فان هدف أي نظام سياسي هو ممارسة إدارة صالحة للدولة والمجتمع الذي تحكمه، ولا يمكن تصور أن العراق ببعيد عن هذه الحالة، فنظامه السياسي يفترض به ان يلبي هذه المطالب، فهي جزء من مكونات وجوده، كما أن طبيعية الظرف الذي يمر به البلد يجعلنا لا نتغافل عن هذه الغاية، فالمواطن هو اللبنة الأساس في بناء الدولة، دولة المستقبل، إذا ما جعلت كغاية سياسية للقوى المختلفة الداخلة في اللعبة السياسية.
استخدام مصطلح الحكم الصالح (Good – governess) منذ أكثر من عقد من الزمن تقريباً من قبل الأمم المتحدة ومؤسساتها لتقويم ممارسة السلطة السياسية في إدارة الشأن العام للمجتمع باتجاه التطوير والتنمية والتقدم. وقد عرف بأنه ” ذلك الحكم الذي تقوم به قيادات سياسية منتخبة وكوادر إدارية ملتزمة بتطوير موارد وقدرات المجتمع وبتقديم الخدمات للمواطنين وبتحسين نوعية حياتهم ورفاهيتهم وذلك برضاهم وعبر مشاركتهم ودعمهم.
وهذا يعني ان الحكم الصالح يعرف بدلالة (الحكم الديمقراطي الفعال) الذي يعتمد حسب البنك الدولي على مجموعة معايير أبرزها، التمثيل –المشاركة–المنافسة–الشفافية–المساءلة والمحاسبة، او ربما معايير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة المتمثلة بـ(المشاركة–حكم القانون –الشفافية – حسن الاستجابة – المساواة – التوافق – الفعالية – المحاسبة – الرؤيا الإستراتيجية).
وهو أيضا ممارسة السلطة السياسية وإدارتها لشؤون المجتمع بما فيها الجوانب الاقتصادية والاجتماعية وإدارة الموارد الطبيعية والبشرية، وهو بذلك يعني مفهوما أوسع من مفهوم الحكومة، لأنه يتضمن عمل أجهزة الدولة الرسمية والمؤسسات غير الرسمية كمنظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص، وتتحدد معالم هذا المفهوم ابتداء من إدارة وممارسة السلطات.
تعد الدولة بكل مؤسساتها الطرف الرئيسي والفعال في تجسيد مبدأ الحكم الراشد، وذلك باعتبارها الجهة صاحبة الإشراف على تحديد ووضع السياسات العامة في البلاد، وهذا بواسطة تدخلها في مجال وضع القوانين والتشريعات والنظر في كيفية تطبيقها، وبذلك تستطيع الدولة وضع الآليات التنظيمية المناسبة لتكريس متطلبات الحكم الراشد، وهذا عن طريق فتح المجال أمام المشاركة الشعبية، واحترام حقوق الإنسان وضمان حرية الإعلام واحترام معايير العمل، وحماية المرأة وحقوقها، وتحديث البرامج التعليمية والتكوين المهني بما يخدم مصالح المجتمع، وتوفير السكن وحماية البيئة والعدالة في توزيع الموارد، فالدولة وحدها الكفيلة والقادرة على تجسيد التوازن بين المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتي تقوم على الترابط بين كافة مستويات النشاط السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي، بالاستناد الى نهج متكامل يعتمد على مبدأ المشاركة والتخطيط الطويل الامد في حقول التعليم والتربية والثقافة والإسكان والصحة والبيئة وغيرها، ويتوخى قدراً من العدالة والمساءلة والشرعية والتمثيل، ومن هنا نشأت العلاقة بين مفهوم الحكم الصالح الراشد والتنمية الإنسانية المستدامة، لأن الحكم الراشد هو الضامن لتحويل النمو الاقتصادي إلى تنمية إنسانية مستدامة.
أما التنمية البشرية فهي محصلة عملية مركبة لتفاعل العناصر المرتبطة بحركة المجتمع، والتي تحدث تغيرات كمية ونوعية على حياة الناس في حقبة زمنية معينة، وقد توسع مفهوم التنمية من مجرد التركيز على النمو الاقتصادي، ليصبح جزءً من عملية التنمية المستمرة والمستدامة، لقد حظي مفهوم “التنمية البشرية” بمكانة مميزة في الفكر التنموي، عبر أدبيات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي؛ وذلك منذ عمله الرائد بإصدار تقرير التنمية البشرية الأول، عام 1990، ودأبه على تطوير المفهوم، واغنائه عبر التقارير الدورية التي واظب على صدورها، اذ لم يعد الرأسمال المادي هو وحده الضامن الحقيقي لرفاه وسعادة الإنسان، بل، لابد أن يكون هناك استثمار في الرأسمال البشري ذاته بغيت تحقيق الغايات الإنسانية الأسمى؛ بتجاوز المفهوم المادي للرفاه الإنساني، عليه فالتنمية البشرية عبارة عن صيرورة تؤدي إلى توسيع الخيارات أمام الناس، عبر وضع البشر في صميم عملية التنمية وجعلهم هدفها وموضوعها، مثلما تدعو إلى حماية الخيارات الإنسانية لأجيال المستقبل والأجيال الحاضرة وتشمل هذه الخيارات الحياة الطويلة والصحية واكتساب المعرفة والتمكن من الموارد الضرورية للتمتع بمستوى عيش مناسب، يضاف إلى ذلك الحرية السياسية والتمتع بحقوق الإنسان واحترام الذات، وبهذا فمفهوم التنمية البشرية يجمع بين القدرة وتنميتها واستعمالها، ويتجاوز المفاهيم التقليدية كرأس المال البشري وإشباع الحاجات الأساسية، والموارد البشرية، وينبه مؤشر التنمية البشرية إلى المقارنة بين رأس المال والبشر، وبين الثروة الوطنية وعائدها التنموي.
ان مفهوم التنمية البشرية أوسع من أي مقياس يمكن أن يقاس به ويصعب ايجاد مقياس شامل له، لأن هناك العديد من الأبعاد الحيوية للتنمية البشرية لا يمكن حصرها مثل المشاركة، فاختيارات البشر لا تحدها نهاية، وتتبدل مع الزمن، مع ذلك فان هناك ثلاث اختيارات أساسية تسمح للأفراد بحياة مديدة وصحية، يكتسبون خلالها المعارف، ويحصلون فيها على موارد تسمح لهم بمستوى معاشي لائق، ويقيس مؤشر التنمية البشرية هذه الأبعاد الثلاثة للتنمية البشرية، لكن يبقى مفهوم التنمية البشرية أعم وأشمل من أن تحتويه مقاييسها ومؤشراتها، مع ذلك فان ابرز الإسهامات التي سـاهمت بها تقارير التنمية البشرية في مجالها التنموي هو دليل التنمية البشرية (HDI) الذي يستخدم لقياس الإنجازات التنموية الخاصة بالقدرات البشرية ويحوي في طياته إمكانات واسعة للتطوير قد يجعله الأفضل حالياً، ويتضمن الدليل ثلاثة مكونات رئيسية هي: البعد الصحي ممثلا بالعمر المتوقع عند الولادة؛ والبعد التعليمي ويقاس بنسبة القراءة والكتابة؛ ومستويات المعيشة أو التحكم بالموارد بالصورة التي يجعل التمتع فيها بحياة كريمة لقياس بعد الدخل.
عموما، تتجسد علاقة التنمية بالحكم الصالح من خلال ثلاثة زوايا هي:
1- وطنية، تشمل الحضر والريف وجميع الطبقات الاجتماعية والفئات بما فيها المرأة والرجل.
2- عالمية، أي التوزيع العادل للثروة بين الدول الغنية والدول الفقيرة وعلاقات دولية تتسم بقدر من الاحترام والمشترك الانساني والقواعد القانونية.
3- زمنية، اي مراعاة مصالح الاجيال الحالية والاجيال اللاحقة.
ووفقاً لهذه الزوايا يمكن قراءة الابعاد الأساسية للحكم الصالح من خلال:
1- البعد السياسي، ويعني طبيعة النظام السياسي وشرعية التمثيل والمشاركة والمساءلة والشفافية وحكم القانون.
2- البعد الاقتصادي والاجتماعي بما له علاقة بالسياسات العامة والتأثير على حياة السكان ونوعية الحياة والوفرة المادية وارتباط ذلك بدور المجتمع المدني واستقلاليته.
3- البعد التقني والاداري، أي كفاءة الجهاز الاداري وفاعليته، فلا يمكن تصور ادارة عامة فاعلة من دون الاستقلال عن النفوذ السياسي، ولا يمكن تصور مجتمع مدني دون استقلاليته عن الدولة ولا تستقيم السياسات الاقتصادية والاجتماعية، بغياب المشاركة والمحاسبة والشفافية، هكذا اذاً يحتاج الامر الى درجة من التكامل.
ولعل نقيض الحكم الصالح او الراشد هو الحكم السيء الذي يتسم بالمعايير التالية:
1- عدم تطبيق مبدأ سيادة القانون أو حكم القانون.
2- عدم التمييز بين المال العام والمال الخاص وعدم الفصل الواضح والصريح بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة.
3- استشراء الفساد والرشوة وانتشار آليتهما وثقافتهما وقيمهما.
4- ضعف شرعية الحكام وتفشي ظاهرة القمع وهدر حقوق الانسان.
5- الحكم الذي لا يشجع على الاستثمار خصوصاً في الجوانب الانتاجية ويدفع الى الربح الريعي والمضاربات.
لقد عانى العراق لسنوات طوال من ضعف المشاركة ومركزية الدولة الشديدة الصرامة وعدم إعطاء دور كاف لهيئات الحكم المحلي، ناهيكم عن إبعاد مؤسسات المجتمع المدني من المساهمة وعدم توفر بيئة صالحة سياسية وفكرية واقتصادية واجتماعية لذلك، سواء على صعيد التشريعات او بسبب ضيق مساحة الحريات الخاصة والعامة وبشكل خاص الحريات الأساسية.
ان إدارة الدولة العراقية والمجتمع بصورة نموذجية، هي امور أساسية لتحقيق تنمية بشرية مستدامة، وان بناء القدرة على إدارة فعالة وسليمة باتت أولوية خصوصا وان العراق بعد احتلاله واجه تحديات جديدة، فضلا عن الفقر والامية، منها إن طروحات الإصلاح التي جاء بها التغيير السياسي للعراق) إزالة نظام شمولي وإصلاح نظام الحكم، وإشاعة الحريات،…(صار يواجهه تحدي الانغلاق السياسي والطائفي-الاجتماعي،… وموقفنا من ضرورة تحقق حكم صالح وتنمية بشرية فاعلة في العراق يتم ذلك عبر تهيئة القدرات على تحقيق تنمية تعطي الأولوية لمعالجة الفقر، وفرض الامن والاستقرار، وتماسك المجتمع، وتولد فرص العمل المطلوبة وبمستوى معاش مقبول وتدعم دور المرأة، والحفاظ على البيئة.
ولتحقيق ما تقدم يحتاج إلى تطوير واسع للموارد الإنسانية يساهم في دعم العناصر في أعلاه، ويعد الناس للمشاركة المثمرة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية. ان تطوير الموارد الإنسانية الأكثر فعالية في تحقيق التنمية المستدامة يتمثل في تحسين مستوى الصحة والتغذية والتعليم والتدريب المهني والمقدرة الإدارية، فالصحة والتغذية أساسيان بالنسبة إلى التنمية البشرية المستدامة، لوقعهما الفوري على استيعاب المعارف. كما ان التحسين في مستواهما يساعد على خفض نسبة غياب الموظفين بسبب المرض أو الكسل أو اللامبالاة، بما ينعكس إيجابا على تكثيف حيوية المواطنين وقدرتهم على الاحتمال ويعزز مقدرتهم الذهنية،.. ومع ان الدور الهام في توفير مستويات مرتفعة من الخدمات الصحية العامة في البلد يقع على عاتق الحكومة، الا ان المنظمات غير الحكومية ومؤسسات لمجتمع المدني عليها لعب دورا أوليا أكبر في توفير خدمات الرعاية الصحية والدفاع عن مصالح الفقراء ومناصرتهم.
إن العراق يواجه تحديات في مجال تطوير مؤسساته السياسية القادرة على إرشاد نموه الاقتصادي والاجتماعي في سبيل التنمية المستدامة، وعليه ان يعيد صياغة نظامه السياسي على نحو يثبت ويظهر شرعيته، ويؤمن المشاركة ويوفر حدا مقبولا من الاتفاق حول الأهداف السياسية، ويولد العوامل التي تدفع إلى التفاعل الإيجابي مع المجتمع المدني، ويشجع القادة السياسيين والمدنيين. وفي حقل الأعمال، عليه إطلاق أولويات اجتماعية واقتصادية ومتابعتها، ويرشد المتبقي من مؤسسات القطاع العام (طالما أن البلد قد اعتمد الإصلاح الهيكلي للاقتصاد) والمجتمع المدني إلى السير في خطى اجتماعية وثقافية واقتصادية تحقق المنفعة المستمرة للشعب.