بقلم: عبد الجبار نوري
الجواهري —– نهرٌ ثالث
عبد الجبار نوري / ستوكهولم – السويد
الأحتفاء بذكرى شاعرنا العظيم ” الجواهري ” مصادفة مولده في 26 تموز 1899 ومماته في 27 تموز 1997 عن عمر ناهز 98 عام ، هو محمد أبن عبد الحسين مهدي الجواهري ، شاعر عراقي ، يعتبر من أهم شعراء العرب في العصر الحديث ، حيث لُقب ” بشاعر العرب الأكبر” وثُمّ “بشاعر الجمهورية ” وصدر لهُ ديوان ( بين الشعور والعاطفة) 1928 ، وُلِد في أسرة نجفية ، كان أبوهُ عبد الحسين عالماً من علماء النجف ، أراد لأبنهِ أنْ يكون عالماً دينياً بيد أنّ “جِنْ ” هاجس الشعر أراد لهُ غير ذلك ، وترجع أصول الجواهري إلى عائلة نجفية عربية نزلت النجف منذ القرن الحادي عشر الهجري ، وكان أفرادها يلقبون بالنجفي ، أما لقبها الحالي الجواهري نسبة إلى كتاب فقهي قيّمْ ألفهُ أحد أجداد الأسرة وهو الشيخ ” محمد حسن النجفي ” وأسماهُ ( جواهر الكلام في شرح شرائع الأسلام ) ، ويضمُ 44 مجلداً لُقِب بعدهُ بصاحب الجواهر ولُقِبتْ أسرتهُ بالجواهري ( الموسوعة الحرة / ويكيبيديا ) . وبهذهِ القامة الشعرية الثرّة والخصبة والأكثر من رائعة بطرقهِ أبواب عراقية أجتماعية وسياسية وبيئية يرتاب الكثير من الشعراء التقرب منها لصعوبة ولوجها لأسباب سياسية وسوسيولوجية المجتمع العراقي الزمكانية والتي هي غاية في التعقيد ففي رائعته الملحمية ( يوم الشهيد ) والعينية الحسينية ودجلة الخير مثلاً ودواوينهِ والمئات من قصائدهِ التي نسجها الجواهري بشكل لوحة بونورامية طرزها بخيوطٍ من الذهب ورصعها الجواهري بجواهرهٍ ولئالئه ونسجهُ كنهرٍ ثالث ونفخ فيه الروح من طموحات وآمال الشعب العراقي فأنظم إلى توأميه دجلة والفرات ليضعوا بصماتهم في الذاكرة الأدبية العراقية ،وذكرهُ الشاعر فالح الحجية الكيلاني في كتابه ( الموجز في الشعر العربي – شعراء معاصرون ) : { أنّ الجواهري لهو متنبي العصر الحديث لتشابه أسلوبه بأسلوبه وقوّة قصيدهِ ومتانة شعرهِ ، ولم يأتي بعد المتنبي شاعرٌ كالجواهري }
من مواقفهِ الوطنية / ** أشتغل بالصحافة وأصدر جريدة الفرات ، وجريدة الأنقلاب ، وجريدة الرأي العام وألغي أمتياز صدورها لمقالاته السياسية التحريضية ضد الأوضاع المتعسفة ، .** أُ نتخِب نائباً في مجلس النواب في 1947 ولكنهُ أستقال من عضويته في نهاية كانون الثاني 1948 أحتجاجاً على معاهدة بورت سموث مع بريطانيا وأستنكاراً للقمع الدموي للوثبة الشعبية الوطنية التي أندلعت ضد المعاهدة وأستطاعت أسقاطها ، ** وكان موقف الجواهىري من حركة مايس 1941 سلبية لتعاطفها مع الحركة النازية ، ** أشترك مع جماهير الشعب في ثورة العشرين 1920 ضد بريطانا العظمى ، ** وكان لهُ حظوراً مميزاً في وثبة كانون وعلِم بأصابة أخيه الصغير جعفر بطلق ناري في مظاهرة الجسر الشهيرة والذي توفي بعد عدة أيام متأثراً بجراحه ، فرثاهُ بقصيدتين ” أخي جعفر ” “ويوم الشهيد ” ، ** شارك عام 1949 في مؤتمر أنصار السلام العالمي الذي أنعقد في بولونيا ، أستُدعي حينها إلى مديرية التحقيقات الجنائية بتهمة المشاركة في التخطيط لمؤامرة قلب النظام الملكي في العراق فرد عليهم { ولماذا أشترك مع الآخرين وأنا أستطيع قلب النظام بلساني وشعري } ، ** وأيّد ثورة 14 تموز 1958 بحماس شديد وشارك في مسيرتها النضالية .** سياسي مستقل لم ينتمي ألى أي حزب . ** هويتهُ وأنتماؤهُ عراقية نظيفة لا شائبة فيها حين يقول { أني شاميٌ أذا نُسِب الهوى وأذا نُسبتُ موطن فعراقي } ويقول { أنا العراقي لساني قلبهُ ودمي فراتهُ وكياني فيه أشطارُ } ، وتغنى بالعراق —- وسلامٌ على هضاب العراق وشطيه والجرف والمنحنى .
آلأسلوب الشعري للجواهري أو( مذهب الجواهري الشعري) — وأستميحوني عُذراً كوني لستُ بناقد أدبي ولكني شغوفٌ بقراءة النصوص الشعرية لذا سأوضح بعض الخواطر والمدلولات التي أثارت مشاعر وأهتمامات الكتاب والنخبة المثقفة / 1-الجواهري مؤمن بخلود العظماء وذوي العطاءات المتميّزة وهو القائل :{ يموت الخالدون بكل فجٍ / ويستعصي الموت الخلودُ }
2- الأسطورة في شعر الجواهري تتعلّق بعناصر الجمال في اللغة والبلاغة وهي عند الجواهري تتجاوز مفاهيم النحو والصرف والبلاغة ، وللتوضيح أكثر البناء اللغوي عندهً يتلازم الزمكانية للأسطورة {فرّ ليلي من يد الظلم فتخطاني ولم أنمْ—- كلما أوغلتُ في حلمي خلتني أهوي على صنم }
3-وبهِ الحنين وهو القائل :{ أحنُ لهُ وكأنّ الحياة —- خضراءٌ من دونهِ صحصحُ // وأحبُ الكرى —- لسانحة منهُ قد تسنحُ // وأجمل ماقال في الحنين للوطن والأشتياق في قصيدة دجلة الخير // حييتُ سفحك عن بُعدٍ فحيني / يا دجلة الخير يا أمّ البساتينِ // حييتُ سفحك ضمآناً ألوذ بهِ / لوذ الحمائم بين الماء والطينِ // وأجمل أبياتها /أني وردتُ عيون الماء صافية /نبعاً فنبعاً فما كانت لترويني// وأنت يا قارباً تلوي الرياحُ بهِ / ليّ النسائمِ أطراف الأفانينِ // يا دجلة الخير قد هانت مطامحنا / حتى لأدنى طِماحٍ غير مضمونِ }
4- وهو الشاعر الذي ينحو بتوليفة بين قوّة قيمة المنطق والواقع الأجتماعي وهو القائل :{ أنا عندي من الأسى جبلٌ —- يتمشى معيّ وينتقلُ // أنا عندي وأنْ خبا أملٌ جذوةٌ في الفؤاد تشتعلُ }
5- يمزج في شعرهِ بين لغة المنطق مع الظواهر الأجتماعية والبيئية وهو القائل { يا دجلة الخير أدري من ألفٍ مضتْ دهراً — للآن تهزين من حكم السلاطينِ // يا أمّ بغداد من عدوى تأنقها —- مشى التبغددُ حتى في الدهاقينِ // ويا دجلة الخير ما يغليكِ من حنقٍ —- يغلي فؤادي وما يشجيكِ يشجينِي }
6- ونسج في الشعر الملحمي المتسمة بالقصائد الطويلة كقصيدة يوم الشهيد من مئة بيت والقصيدة العينية الحسينيى من 65 بيت شعر وكلا القصيدتين تمثلان أرقى ماتوصل أليه الشعر الكلاسيكي العربي من تطور لكونها تفوحُ بالأنسنة في تقديس الذات البشرية ويقول في يوم الشهيد : {يوم الشهيد تحيةٌ وسلامُ / بك والنضال تؤرخُ الأعوامُ // يوم الشهيد ! بك والنفوسُ تفتحتْ / وعياً كما تتفتح الأكمامُ } ومثل هذهِ الأيام من عام 1949 يلقي الجواهري مطولتهُ في باحة جامع الحيدر خانه بمناسبة مرور سبعة أيام على أستشهاد أخيه جعفر برصاص شرطة العهد الملكي ، أثر تظاهرات جماهيرية في شهر كانون الثاني 1948 وأحتجاجاً على توقيع معاهدة ( بورت سموث )البريطانية – العراقية {أتعلمُ أم أنت لا تعلمُ / بأنّ جراح الضحايا فمُ // فمٌ ليس كالمدعي قولهُ / وليس كآخرٍيسترحمُ // يصيحُ على المدقعين الجياع / أريقوا دماءكم تُطعموا // ويهتفُ في النفر المهطعين / أهينوا لئامكم تكرموا // أخي جعفر يا رواء الربيع / إلى عفنٍ باردٍ يُسلّمُ // لثمتُ جراحك في فتحةٍ / هي المصحفُ الطهرُ إذ يُلثمُ // وأنّ بطون العتاة من السحتِ تهضمُ ماتهضمُ // وأنّ البغي الذي تدعي من الطهر ما لم تحز ” مريم ” // ستنهدُ أنْ ثار هذا الدم / وصوت هذا الفم الأعجمُ}
7- وتبغدد الجواهري في بغداد قال { يا نسمة الريح من بين الرياحينِ/ حييّ الرصافة ثُمّ حييّني // رأيتُ بأفقهِ شمساً وبدراً/ كأحسن ماترى شمسٌ وبدرُ// هيهات ما بعد الرشيدِ ما رأت رُشداً / كلا ولا أمنت من بعدِ مأمونِ }
8- وعينية الجواهري أو آمنتُ بالحسين تُعدْ من عيون الشعر العربي الحديث : وهو القائل{ فداءً لمثواك من مضجعِ / تنور بالآبلج الأروعِ // يا عبق من نفحات الجنان/روحاً ، ومن مسكها أضوعِ // كأنّ يداً من وراء الضريح / حمراء مبتورة الأصبع// تخبط في غابةٍ أطبقت / على مُذئبٍ منهُ أو مُسبعِ }
9- وفي شعرهِ النبوءة وقراءة المستقبل والأيمان بحتمية التأريخ يقول { وكفاً تمدُ وراء الحجاب / فترسمُ في الأفق ما تُرسمُ // وجيلاً يجيء وجيلاً يروح / وناراً أزاءُها تُضرمُ }
10- لم أجد في شعر الجواهري ” أدب التشيّع “وأن كان من أسرةٍ دينية ، فهو يساري الهوى حداثوي في مذهبهِ الشعري ، يؤمن بالتغيير حسب منطق ” حتمية التأريخ”ولم ينتمي إلى حزب لكونه هو مدرسة وحزب .
11- طعّمَ الجواهري شعرهُ بمفردات لغوية قديمة مثل الأبلج ، الأروع وغيرها وجدتها في الكتب والمعاجم القديمة مثل لسان العرب لأبن منظور .
12 – وفهو شاعر مقاومة وشاعر سياسه ، وهو أبن بيئتهِ وحامل هموم وطنهِ ،وقصائده مفعمة بالعاطفة والذكريات حيناً ، وبتقديس الأيثار والتضحية أحايين أخرى ، فضلاً عن أشاعة المفاهيم الوطنية والتنويرية ، وقال فيها { أتعلمُ أنّ رقاب الطغاة / أثقلها الغمُ والمأتمُ // ستنهدأنْ ثار هذا الدمُ / وحوت هذا الفمُ الأعجمُ // وأنّ بطون العتاة / الذي من السحت تهضمُ ما تهضمُ }
خاتمة / يوم الأحد 27-تموز 1997 يومٌ لن ينساهُ العراقيون وكذلك الشعراء والمثقفون العرب ، ففي هذا اليوم فُجعتْ الساحة الثقافية العربية برحيل الشاعر ” محمد مهدي الجواهري” علم من أعلام الشعر العربي ، شغل القرن العشرين أبداعاً وموهبة ، وما أنحنى لغير الشعر من وثن ، ودُفِنَ في مقبرة الغرباء في السيدة زينب من ضواحي دمشق وكُتِبَ على قبرهِ { هنا بعيداً عن دجلة الخير }—– ومنع النظام الصدامي دفنهُ في تربة العراق ، وأسمحوا لي أضافة هذا البيت من الشعر { أضاعوني وأي فتى أضاعوا —- ليوم كريهة وسداد ثغرِ }
الهوامش / دواوين الجواهري ، نقد الشعر/ لقدامة ابن جعفر البغدادي ، لسان العرب / ابن منظور ، مقاتل الطالبيين / لأبي الفرج الصفهاني ، الموسوعة الحرة / ويكيبيديا
في 29- نموز 2015