لعل بيت الجواهري، الذي يحمله عنوان هذه الكتابة، يوجز ما آمن به الشاعر الخالد من فلسفة في الحياة، ويثبّت مقاييسه نحو الانسان الفرد أولا، والمجتمع عموما.. بل ونزعم أكثر فنقول بان تلك الخلاصة التي يشي بها ذلكم البيت، تضع الجواهري امامنا، كاشفاً بأن قناعاته برموزية “الضمير” تعلو حتى على ما عنده من ميزات ومواهب معطاء، ولو ان الأمر متشابك ومتداخل دون مديات .
وبيت الشعر المعني، مستل من “مقصورة” الشاعر الشهيرة، في الاربعينات الماضية،وما أحوجنا اليوم لترسيخ تلك المذاهب” الجواهرية” في حياتنا العملية والخاصة.. وواضح أنه كان يخاطب الذات في مناجاة حميمة، كما يحققه البيتان السابقان لـ”بيتنا” شرحاً وتكملة، وإثباتاً راسخاً بـ”ديانة” الضمير:
أقول لنفسي أذا ضمها وأترابها محفلٌ يُزدهى
تساميّ، فأنك خير النفوس، إذا قيسَ كلٌ على ما أنطوى
وأحسن ما فيكَ أن الضميرَ، يصيحُ من القلبِ أني هنا
… قلنا “ديانة” الضمير، وللجواهري حولها وعنها صولات وجولات، وقيم ومعايير لا حدود لها، تتفرد حيناً، وتتكامل وتتداخل احايين أخر، وفي اجمالي تفردها، أوتداخلها، تعبر بوضوح ويقين جليّين بأن ذلك “الشعور” الروحي، الداخلي، الذي توجزه المعاجم العربية بانه: “استعداد نفسي لادراك الخبيث من الطيب من الاعمال والاقوال والافكار، والتفرقة بينها”.. يبقى الاوسم والاسمى عند الشاعر الخالد، كما يثبته في اكثر من بيت وقصيدة، في منجزه الثري، كما سنرى.. بل ويحسبه مقاييس للثبات والجرأة والصيرورة الانسانية.
ندعي ذلك وبالاعتماد على الذاكرة وحسب، اذ لم ننطلق في هذه الايجازات من سعي لتوثيق، او تحقيق كامل، أو دراسة مفصلة، بل جاء الرابط والايحاء دون تحديد او قصد، اذ تلاحقت، وتلاقحت في الذاكرة، ابيات جواهرية من قصائد مختلفة في الزمان والمكان والهدف، وفي كلها يفيض “الضمير” لفظة ومعنى وتعبيرا في مناحٍ متنوعات الاغراض، والمناسبات، وكلها تسعى لاشاعة المفردة الرمزية تلك في الوجدان المجتمعي، والشخصاني قبلها ..
وفي سياق ما نحن فيه، وعنده، ثمة مواقف ومعطيات آخرى، سابقة أو لاحقة – ولا فرق – ومنها ما تلج الذهن، لتفرض نفسها عنوة: رباعية شعرية، في الاربعينات الماضية، حين راح الكون يشهد طفرات مهمة في منجزات العلوم، ومن بينها الطب والتطبيب، وفي انعطافات نوعية على صعيد حياة الناس.. وحينذاك يهدر الجواهري ويفيض بمكنونات عن القيم الحياتية، وثوابته تجاهها، وأولها – كما ندعي من جديد- الضمير، في تفضيل مباشر، فينظم، في حال سائل ومجيب:
قالوا قد انتصرَ الطبيبُ على المحالِ من الامورِ
زرعَ القلوبِ وشدّ اقفصةَ الصدورِ
فأجبتهم: ومتى سترفعُ راية النصر الاخيـــرِ
زرعُ الضمائر في النفوس العارياتِ من الضميرِ
وفي عام 1952 يرحل الرصافي، الشاعر المميز، وكانت له مع الجواهري وجدانيات ومواقف مشتركة في العديد من الشؤون، ثقافية وساسية ووطنية، اباح بهما الشاعران لبعضهما البعض عبر ابيات قصيد عديدة.. وقد أختار الجواهري الصفة الثقافية الانسانية الأميّز بحسب قناعاته، لتأبين الرصافي، وبمطلع يشي، بل يثبّت ذلك بجلاء صافٍ لا يقبل الكثير من الجدال:
لاقيت ربكَ بـ”الضميرِ” وأنرتَ داجية القبورِ
وأشعتَ في الأبد البهيمِ، طلاقة الأبد المنيرِ
وفي شأن بالغ التعبير، والتأصيل، ودون الاعتماد على السياق الزمني، لقصائد الجواهري، لا بدّ لنا الّأ ان نتوقف على فريدة “آمنت بالحسين” المنظومة عام 1947 لنقتبس منها دلالة إضافية على ما ذهبنا – ونذهب اليه – في التوثيق لـ”مذهب” الضمير عند الشاعر الخالد، حين اشاع في احد ابيات القصيدة مفهومه وقراءته لثورة الامام الحسن، على الظلم، وتصديه للحال والوقع السائد حينئذٍ، والتضحية الأجل، بالنفس، سبيلا لذلك .. مقيماً – الجواهري- وبأفتخار عالٍ، توجهات الثائر العديدة، مبرزاً من بينها، سعيه وهدفه لاعلاء “الضمير” الانساني المفترض، او المطلوب:
وطفتُ بقبرك طوفَ الخيالِ، بصومعة الملهم المبدعِ
كأن يداً من وراء الضريحِ، حمراءَ “مبتورة الاصبعِ”..
تمدّ الى عالمٍ بالخنوع، والضيّمِ ذي شرقٍ مُترعِ
لتبدلَ “منه” جديبَ “الضميرِ” بأخرَ معشوشبٍ ممرعِ
وتستمر رؤى الجواهري، ونزعاته في اظهار رموزية الضمير، وإعلائها على الصعيدين الذاتي والانساني، وهذه المرة عبر التأكيد على “صميمية” الرسالة – الفكرة – الموقف، اذا ما انطلقت من “الضمير” لدى السياسي والمثقف، والفرد عموما .. وحسبنا في ذلك ما ضمته لاميته عام 1991 وهو يخاطب المحتفى به، العاهل الاردني الراحل الملك حسين فيقول:
ياسيدى ومن “الضميرِ” رسالة، من حقّها بالعدل كان رسولا
ثم تتجلى الاوصاف والقناعات الجواهرية، مرة تالية وغيرها، ومن زاوية جديدة في هذه الحال التي ستلي، فيروح الشاعر يعيب، والى حد التكفير، اي خلق، وأية معرفة، ومهما علت في مرافع اخرى، ما لم تتكئ على “الضمير” وتستند اليه، وتستوحى منه، وهذا ما نراه في واحد من ابيات عصمائه الموسومة ” الى الشعب المصري” عام 1951:
آمنتُ بالخُلُقِ القويمِ، وإنني، بالعلم ـ منزوعَ الضميرِ ـ لأكفـرُ
اما في عام 1969 فيقف الجواهري يوجه ويوصي من عناه بقصد محدد، او عموما، فيقول في قصيدة – رسالة، حملت صفة “مملحـة” في عنوانها، ولكنها تعج في بواطنها بالمواقف والموحيات، في خطابية صريحة الى اولئك الذين يتصورون العقوبات البدنية أو القانونية روادع للـ”الخارجين” عن المألوف والتقاليد والاعراف، أو “الوصايا” والسنن وغيرها.. ومن بينها، وهنا تحديداً: مقاضاة و”بهذلة” من كنّ يرتديّن الملابس القصيرة، مثلاً !!!…. وبشأن ذلك، ومن جديد- ودائما كما يبدولنا على الاقل- يرى الجواهري بأن كل الوعيد والتهديد، والاجراء العقابي، أو الجزائي سيذهب هباء منثورا، مالم يكن الضمير الرادعَ الاول والأخير للنفس البشرية، المجبولة في آن واحد على سمات الخير والشر :
أترى العفافَ مقاس أقمشة؟ ظلمتً إذن عفافا
هو في “الضمائر” لا يخاطُ ولا يقصّ ولا يُكافى
مـنْ لـم يخـفْ عـقبى “الضميـر” فمـنْ ســواه لـنْ يخافــــــا
وهكذا الموقف ذاته أو يكاد، وإن كان في مجال أرحب هذه المرة، يرى الجواهري ضرورة، بل واجباً، بان يبوح الانسان الحر، او المتحرر حقاً، بما يؤمن به، مواقف أو قناعات أو أفكار، حين تنبجس من الضمير، لدى المفكر المثقف والكاتب والاديب والاعلامي، وترتكز عليه، وحتى ان كان وراء ذلك التصريح – لا الايماء- ما قد يتسبب به من ايذاء ومسؤولية، وردود أفعال حقيقية أو مفتعلة، في اجواء كالتي كانت تسود البلاد العراقية اوخر العشرينات الماضية، وفي عام 1929 تحديدا :
سأقذفها وإن حُسبت شذوذاً، وإن ثَقُلتْ على الأذن استماعا
فما للحـرِ بدٌ من مقالٍ يرى لـ”ضميرهِ” فيـه اقتناعا
وإذا نتابع ما نتابع في كتابتنا، عن الموضوع ذي الشأن، تطفو في الذاكرة رائية الجواهرى، اللبنانية عام 1950 ذات التكريم والتوثيق، والايحاءات والتوجيهات الشعرية، خاصة وقد كان هناك بعض صحف أسفّت فأباحت، دون “وازع من ضمير” فتلقت جزاءها ببيت شعري هادر، ووصف يتناسب وإيذائها الاعلامي، والرأيوي- ان جاز التعبير:
وصحافةٌ صفـرُ “الضمير” كأنها، سلعٌ تباع وتشتـرى وتُعارُ
ولأن كل الأمور – كما سبق القول – تعود في مقاييس الشاعر الخالد الى الضمير، اولاً، لا غيره، ها هو متحدثا مع نفسه هذه المرة، في مقطع من ميميته الشهيرة “كوردستان.. أو يا موطن الابطال” عام 1963 التي يشكو خلالها لا هموم الاخرين وهضيمتهم وشجونهم، وحسب، بل وهمومه وشجونه ايضاً، رائياً في الجانبين تلازماً، لصيقاً، بين الواحد مع الاخر، فراح يقول:
ولقد يلذّك من شكاةٍ أن ترى، فيها “الضميرُ” بنفسه يتكلمُ
ولوطأة، وشدة قناعاته، ولربما حد المبالغة احياناً، بعلو مكانة الضمير الانساني، ومغازيه، راح الجواهري يستدرك، فيوصي نفسه، ويعني أخداناً، وغيرهم، لكي لا يُطلق العنان دون قيود للضمير النابض، دون تحسّب لقساوة المجتمعات، وبالي مقاييسها، وظلاميتها في جوانب مختلفة، مجتمعية كانت او سلوكية فردية، وما بينها، فقال في لاميته عام 1982:
ودعْ “ضميركَ” يحذرْ من برائتهِ، ففي البراءةِ مدعاةٌ الى الزللِ
وفي ضوء كل ما سبق، وهو غيض من فيض كما نحسب، يترائى لنا كم أولى الجواهري الخالد اهمية وحرصاُ بالغين في اعلان فلسفته عن “الضمير” وفهمه ومفاهيمه عن ذلكم الوازع – الشعور الانساني، ودوره الذاتي والمجتمعي والحياتي، حين يكون حياً وعندما يموت، أو مستيقظا فينام … عندما”يستحسنُ الحسنَ” أو”يستقبحُ القبيح” .. ولقد عانى ما عانى الشاعر الخالد من جزاءات وعواقب ضخام جراء التزامه – جهد ما استطاع- بقناعاته “الضميرية” التي بقى أميناً عليها لا في اشعاره واحاديثه وكتاباته فقط، بل وفي حياته العملية، والشخصية على مدى عقود، وأولئكم أهل البيت- ونحن في صميمهم- شهود عيان على تلك الوقائع والحقائق الموثقة بكل الأدلة. ولكم راح – الجواهري، معترفاً وصريحاً اذا ما “أنشغل” عن ضميره – دينه، فسها وقتاً ما، او “راوغ” عليه وقتاً أخر.. وإحترازا من كل هذا وذاك، نراه ينشر مستبقاً من ناصب العداء أو حسد، أو تصيد هنا وهناك، فقال في نونيته المعنونة” جيش العراق” عام 1958:
أنا ذلك الفرد المخلّدُ أمةَ، في ما آصطلى، وبما آرتعى، وبما جنى
خير الشفاعة لي بأني كاشف حـر “الضمير” وقائل: هذا أنـا
ستون عاماً لم أحاول ساعة، أن اختفي عما هنالك أو هنا
والعفة الكبرى بحوزة ماجدٍ، غمروه بالحور الحسانِ، فأحصنا
وختاما لا يجوز – كما أظن – أن اختم دون أن أعيد ما سبق وأبحت عنه في سطور سابقة، بأن ثمة الكثير الكثير مما يمكن الاستدلال به، وعليه، بشأن ما أردنا التوثيق له، والكتابة عنه في موضوعة الجواهري ومتبنياته، ومفاهيمه عن الضمير، ومواقفه منه.. ولمن شاء المزيد، حرصاً وعمقاً أزيدّ، ذلك هو الديوان العامر، ذي الاكثر من خمسة وعشرين الف بيت وبيت، متوفر، ووافر العطاء. وأجدد القول بأن كل الابيات التي اقتبسناها في المتن، جئن من الذاكرة، عجولةً، وعسى أن يتمم القادرون ما هو اشمل وادق، وأكثركمالاً، في التزامات الجواهري الضميرية، وسنقول دينه الدنيوي، ولا نخف .