لا أحد ينكر أن الجامعة العربية حين أسست انبثقت تحت ضغط الشعوب العربية الحديثة العهد بالاستقلال، وتؤمن بضرورة وحدة العرب بوجه تحديات الاستعمار ومخلفاته “الجهل والفقر والمرض”، التي ورثوها من عصور التخلف والانحطاط، حيث حكم البلاد العربية حكام من غير العرب على مدى قرون، لكن الدول الأوروبية المتحكمة بمصير العالم الحديث رفضت أي مشروع للوحدة أو الاتحاد، واحتالت على إرادة الجماهير بتشكيل كيان عربي يفرق ولا يوحد، ويكون منبرا للخلافات والصراع وسياسات المحاور المتضادة، ومضيعة للوقت والجهد، تظاهرت بريطانيا بالنظر إلى أماني العرب بعين العطف خلافا لما أضمرت من السوء، حين أذنت لهم بتشكيل الجامعة العربية بمنة خبيثة، فولدت الجامعة بإرادة أجنبية في صالة الخدج ولادة غير طبيعية. ومنذ تأسيسها على مدى سبعين سنة خلت والعرب يتجاذبون على مسرحها التهم ويتبادلون ويتصارعون على حلبتها، فقضت على آمال الأمة وطموحاتها بالوحدة والاتحاد.
لا نريد نبش التاريخ والبكاء على اللبن المسكوب بالنكبات والنكسات، فالحقيقة التي لا مواراة فيها ولا مواربة لم تخدم الجامعة العرب بقدر خدمتها للأطماع الخارجية، وكانت بمثابة المعول الذي أطاح بالآمال والأحلام، فالشوك والخروب الذي يغرسه المستعمرون لا يثمر عنبا، وينبغي قلعه وإزاحته من الطريق إذا تطلعنا لمستقبل أفضل، الجامعة العربية منذ ولادتها تعاني العوق وشاخت وهرمت، ومن لم يخطط لنفسه خطط له الآخرون، وخطط لنا الغرب، ولدغتنا بريطانيا بوعد بلفور 1917، وثانية بولادة الجامعة 1945وتوالت اللدغات، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، وإلا أكل ثمار شجرة الزقوم.
الجامعة بدلا من ان تحتضن أعضاءها وتوحدهم كانت تقصيهم وتعلق عضويتهم مرة تونس وأخرى مصر ثم العراق فسوريا، ولو كانت الجامعة العربية قادرة على تنسيق الجهود العربية جماعيا أو ثنائيا لما شهدنا ولادة اتحادات جانبية مثل اتحاد الدول المغاربية تونس والجزائر والمغرب، ولا الاتحاد العربي مصر والعراق واليمن والأردن، ولا تحالف دول المجابهة ولا حتى “التعاون” الذي صمد وبرهن انه أكثر الاتحادات صلابة وجدوى لجهود المملكة العربية السعودية مشكورة. ورغم عقد الملوك والرؤساء العرب نحو أربعين قمة لم نحظ بثمرة مقررات قمة آتت أكلها كما يجب، وظلت كل القرارات حبرا على ورق.
ليس لنا موقف ضد الجامعة العربية كمؤسسة، وإنما لم نلمس للجامعة أية جهود وحدوية جادة تغلب فيها المصلحة القومية على المصلحة الجهوية، ولذلك نجد أنفسنا ضد عجز الجامعة العربية، وضد تخاذلها وتهاونها، وضد سياسات المحاور وصراعات لا تخدم الأمن القومي، ونرفض تبرير ضعف جامعة بخلافات الحكام العرب، فمهمتها لو صدقت درء الخلافات العربية وحلها وتعزيز ثقة العرب بأنفسهم، وقلب الصراع إلى تنافس يخدم القضايا المصيرية، وهو ما لم نلمسه، ورئيس الجامعة لم يكن أكثر من سكرتير يسهل تبادل الأوراق، فلم نشهد لأحد من رؤسائها موقفا صلدا بوجه من يريد الخروج عن الطوق، ورغم الفشل الذريع لم نر رئيسا للجامعة استقال لإخفاق أو لعجز في سياساتها وأداء دورها، إنما نجد الجامعة تنأى بنفسها عن كل خلاف، ونجد رئيس الجامعة دائما مجاملا على حساب المصلحة القومية يساير الأقوياء ويفتقر إلى الموقف الشجاع.
ونتساءل أين الجامعة العربية مما جرى في غزة والجزائر ولبنان والسودان، وأين هي مما يجري لأهالينا في سوريا والعراق وليبيا ومصر واليمن، وإذا كانت قد شلت سياسيا فماذا عن مساعدة المهجرين واللاجئين والمغدورين ماديا ومعنويا، ومعاناتهم ومكابدتهم ليست خافية ولا من معين. الجامعة لم تكن سورا عربيا واقيا بل كانت دائما البوابة التي يدخل منها الأجنبي وتعبر تحت راياتها الجيوش الغازية، وقراراتها الخاطئة وراء مآسي أهلنا وكوارثهم في العراق وسوريا واليمن وليبيا وفلسطين، وفي هذا الوقت العصيب تتنحى جانبا كأنها لم تكن ضمن الأسباب والعوامل التي دفعت بالبلاد إلى الويلات المحزنة التي أصابت أوطاننا من المحيط إلى الخليج، فهل نصحت الجامعة على سبيل المثال أحدا من رؤساء الدول التي اجتاحتها عاصفة الربيع العربي بأن يخفف من غلوائه بحق شعبه قبل هبوب العاصفة ومن ثم الخراب الذي تلاها.
الجامعة العربية اليوم مؤسسة جباية لحصص الدول المشاركة، تسير شؤونها ثلة موظفين يستأثرون برواتب عالية ومخصصات خرافية يتنقلون بين الدول، مؤتمرات واجتماعات وندوات وولائم ومن ثم محاضرات وبيانات لا قيمة لها ولا تساوي قيمة الحبر الذي تكتب فيه والورق الذي تكتب عليه، وشلت قلبا وقالبا وبقيت جسدا مسجى على نقالة ميتة سريريا بعد معاناة مزمنة مع الأمراض المستعصية، فهل من يطلق عليها رصاصة الرحمة لتستريح إلى الأبد وتشيع إلى مثواها الأخير غير مأسوف عليها؟ فمن إكرام الميت دفنه بسرعة. ومن الأخطاء القاتلة الرهان على حصان ميت.