أن التعصب بمختلف مظاهره من عنصرية, وطائفية دينية أو مذهبية, أو سياسية, أو قومية أثنية, أو حزبية وفكرية, تمثل اتجاها نفسيا جامدا ومتحجرا مشحون انفعاليا أو عقيدة وحكم مسبق مع أو ضد جماعة أو أي شيء أو موضوع, ولا يقوم على سند منطقي أو معرفة أو حقائق علمية. أو هو موقف معاد ضد الجماعات الأخرى المختلفة في المعتقد أو المذهب أو الدين أو القومية, وخاصة عندما لا يكون هناك تفاعلا حقيقيا ومعرفة واقعية بين هذه الجماعات, وان هذا التحجر وعدم التفاعل يحول الوطن الأم إلى كانتونات منعزلة تسودها الريبة والشك والبغضاء فيما بعضها البعض, وبالتالي يحرم التعصب هذه المجاميع من فرص التقدم الاجتماعي والاقتصادي والتنمية المستديمة تحت مظلة الوطن, لأن التعصب بطبيعته يناهض العلم ويحارب التقدم ويعادي الحقيقة ويقاوم المبادرة الفردية ويخاف من الأفكار الجديدة ولا يقبل بالنقد البناء ويرفض التساؤل باعتباره مصدر الحقائق والمعارف, ويترك التعصب لدى أهله انطباعا وهميا بالكمال والامتياز والأهلية في مختلف المجالات, وهو بذلك يغلق أبواب الرحمة والتفاعل مع البيئة الخارجية, وهو بذلك يكتفي بالاسترجاع والاجترار ويغلق قابليات العقل ويخنق فعاليات العلم ويكرس الجهل ويملأ النفوس مسرة وفرحا بالجهل واستماتة في الدفاع عنه.

أن ما يؤذي الناس والشعب عموما وبمختلف أطيافه هو ليست الانتماء إلى طائفة, فذلك واقع حال, حيث عاش العراق فترات من المحبة والمودة بين الطوائف والمذاهب والأديان المختلفة, وهي فترات إنسانية حقه نعتز بها جميعا, لم نعرف فيها دين أو مذهب جارنا وصديقنا,ولم نؤسس تعاملنا الحياتي على أساس هذا الانتماء , ولم نجرئ لأسباب أخلاقية أن نسأل عن انتماءات جارنا وصديقنا المذهبية والطائفية, فكان ذلك من المعيب والمخزي في ثقافة التعامل اليومي, وان عرفنا بذلك فنكن له كل المودة والاحترام, حيث كان الانتماء للوطن هو سيد الموقف والثقافة السائدة !!!!.

ولكن الحديث عن مشروعية الانتماء إلى طائفة ما أو قومية ما أو هوية سياسية ما ناقصا بالتأكيد إذا لم يقترن بالحديث عن التعددية والديمقراطية كمنهج وكقيمة اجتماعية, والتعددية تعني قبول الآخرين المختلفين قوميا أو طائفيا أو سياسيا واحترام رأيهم وحقوقهم وطريقة حياتهم طالما أن ذلك لا يمس بحقوق بقية الفئات, ففي الوقت الذي ندعو به إلى حق الناس في ممارسة انتمائهم الطائفي يجب الدعوة بقوة إلى انتهاج التعددية والديمقراطية السياسية لكي يأخذ كل مكون اجتماعي أو ديني حجمه الطبيعي وألا يبقى خطر تحول الانتماء الطائفي إلى تعصب طائفي, كما تشهد على ذلك المظاهر العلنية والخفية للصراع في الساحة السياسية العراقية والمتلبس بثوب الطائفية والذي قام على خلفية نهج الاحتلال في التأسيس لنظام المحاصصة وزرع بذور الفتنة بين المكونات الدينية والمذهبية والطائفية والاثنية العراقية, والمتمثلة بالعديد من الإجراءات الانتحارية : مثل قانون إدارة الدولة, واجتثاث البعث, وحل القوات المسلحة العراقية, وشكل المنظومة السياسية, والدستور, وقانون مكافحة الإرهاب, ودمج المليشيات في القوات المسلحة وغيرها في العديد من الإجراءات التي تدفع صوب الاحتقان السياسي والطائفي, والذي اتضحت أثارها منذ الأيام الأولى بعد سقوط النظام الدكتاتوري عام 2003, والتي تجسدت في الحرب الأهلية السياسية ـ الطائفية, والتي سمحت لتنظيم القاعدة الإرهابي وفلول النظام المنهار أن تتصدر معارك ” الشرف والبطولة ” لإبادة شعبنا, ثم أتتنا اليوم “داعش ” الخلاصة المركزة والأكثر شراسة لتنظيم القاعدة الدموي في تحالفاته مع قيادات ورموز ومحاباة من البعث المقبور, مرتكبا أبشع الجرائم الإنسانية في الإبادة الجماعية للأقليات العرقية والدينية والمذهبية واحتلال 30% من أراضي البلاد, والتي كادت تطبق على مكونات شعبنا وسحرها الجميل , ولعل في نباهة شعبنا وتقاليده في التسامح الاجتماعي  واللاعصبية أن يضيق نار الفتنة في محاولة لإخمادها والقضاء على ” داعش ” !!!.
 
إننا اليوم نعاني من الفتنة الطائفية القائمة على ذلك السلوك المتمثل في بث روح التعصب الطائفي أو إثارة النعرة المذهبية, وخاصة عندما يستخدم هذا السلوك للنيل والانتقام من طائفة على حساب طائفة أخرى, أيا كانت هذه الطائفة ” سنية, شيعية, زيديه, مسلمة, مسيحية, صابئية وغيرها ” وهي سلوكيات تستهدف التفرقة الطائفية والمذهبية والدينية حيث المساس المباشر لحياة الناس وأرزاقهم وحقوقهم ومصالحهم وكرامتهم وآمالهم وأمنهم وسلمهم, بل وقتلهم باعتبارهم مرتدين, والتفرقة الطائفية هنا هي جريمة بعينها, يكون ضحاياها شرائح واسعة من المجتمع المدني, وهو كذلك سلوك مخالف للأعراف والتقاليد الدولية, حيث تنص المادة ( 55) من ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان على عدم الفوارق بين الناس, حيث تؤكد المادة المذكورة على : ( احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع بلا تميز بسبب الجنس أو اللغة والدين, و لا تفرق بين الرجال والنساء, ومراعاة تحقيق تلك الحقوق والحريات فعلا).

إن شعبنا في العراق اليوم يطمح إلى بناء حكومة وطنية قوية في المركز, تحترم مصالح وحقوق كل الطوائف والأديان والأعراق والاثنيات, وتحافظ على وحدة البلاد وحمايته من التدخلات الإقليمية, تحظى بثقة العالم في تطبيقها للديمقراطية بعيدا عن المحاصصات, ويكون وزرائها وكادرها في مختلف المواقع من التكنوقراط  والأكفاء والقادرين على محاربة الفساد بمختلف مظاهره وبعث الاستقرار الأمني في حياة الناس, وهي مهمات ليست سهلة باعتراف الجميع, لأن تغير رئيس الوزراء بأخر جديد لا يعني بكل الأحوال تغير في البنية السياسية للنظام أو تغير جذري لطبيعة توليفته الطائفية والاثنية, بل هو يشكل بارقة أمل في ضوء الأخطاء التي حصلت للحكومة السابقة وتعديل مزاج الناس بعض الشيء نحو الجديد القادم. كما أن اغلب الأحزاب الطائفية السياسية المساهمة في البرلمان لها روابطها وتأثيراتها المتداخلة في دول الإقليم, والتي تفرض الأخيرة أجنداتها عليها في ضوء مصالحها الإقليمية, مما يضعف الخطاب الوطني العراقي في ظل غياب خطاب وطني سياسي ديمقراطي وقوى فاعلة عابرة للخطاب الطائفي السياسي. كما إن للمصالح الأمريكية وتحالفاتها مع دول الإقليم هو الآخر له أجندته ومصالحه واشتراطاته.

ونرى الآن بوضوح كيف بدأت الأحزاب الطائفية السياسية والاثنية منفتحة الشهية وفي جعبتها مئات المقترحات المدعومة خارجيا أو مشروط من قوى داخلية للاستحواذ أو الفوز بمختلف الحقائب الوزارية, والسيادية والحساسة منها بشكل خاص, على الرغم من إن السيد ألعبادي المكلف بتشكيل الحكومة كان واضحا في خطابه في اللجوء إلى تشكيل حكومة عراقية قائمة على أسس من الخبرة والمهنية والاختصاص والتكنوقراط, إلا إن تلك تبقى محاولات مشروعة تفتح المجال لتأسيس حالة صحية تؤدي في محصلتها النهائية إن كتب لها النجاح إلى الخلاص من الإرهاب و” داعش ” في مقدمتها واستتاب الأمن وإعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, إلا إنها ليست مهمة سهلة !!!.