منذ سقوط نظام صدام في 2003 والعراق يشهد احداث متلاحقة و متسارعة على مختلف الصعد وشغل الوضعين السياسي والأمني الحيز الاكبر من اهتمامات المراقبين للشأن العراقي حتى تفاوتت الرؤى تجاه ما يحدث في بلاد الرافدين.
لسنا هنا بصدد تقييم المواقف والاتجاهات والافكار المتكونة للتغيير الذي حدث في العراق وليس نحن بموضع الدفاع عن هذا التغيير او تحديد المثالب التي نتجت عنه ولا تبرير المساؤى او الاخطاء التي ارتكبت لهذا النظام السياسي الجديد واحزابه المتنوعة والمتعددة، لكن نريد البحث بصورة مختصرة مبسطة عن طريقة تناول وسائل الاعلام العربية المقروءة منها او المرئية للاحداث في العراق وخاصة بعد سقوط محافظة نينوى والانكسارات العسكرية التي لحقتها وصولا الى الاوضاع الراهنة التي نعيشها.
في البدء دعونا نتحدث بشكل مبسط عن التضليل الاعلامي وكيف يكون وما اغراضه ووسائله ثم نعرج عما تمارسه عديد وسائل الاعلام العربية من دور كبير في تضليل الرأي العام العربي حول ما يخص العراق.
بقدم فولكوف تعريفاً مقتضباً للتضليل بقوله “إن التضليل يتم عند معالجة خبر معين بطرق ملتوية من أجل تحقيق أهداف سياسية قبل تحويل أنظار الجماهير و إستغلال تلقايتهم و جهلهم بالأشياء.
ويرى الباحث الفرنسي فرانسوا جيريه – في كتابه :”قاموس التضليل الإعلامي”- أن عملية التضليل الإعلامي تتم دائماً بصورة واعية، من أجل صوغ رأي عام مؤيد لأولئك الذين يصدر عنهم هذا التضليل، إذ يعتمد على مشروع منظّم يهدف إلى تشويش الأذهان، والتأثير على العقل، كما على العواطف، والمخيّلة.
هذا التضليل ليس له سوى هدف واحد -كما يقول جيريه- هو إدخال الشكوك، وصنع الاضطراب، وهدم المعنويات، مضيفًا أنه يجب التمييز بين التضليل الإعلامي باعتباره “فن التستّر وراء قناع” وبين “الدعاية” التي تسعى إلى تأكيد وجهة نظر ما، ونشر مقولات، وأفكار إيديولوجية وعقائدية، مثلمل تفعل الأنظمة الشمولية، وتهدف إلى “خداع العدو”، ودفعه إلى إقامة حساباته على معطيات خاطئة.
ويسعى من يمارس التضليل الاعلامي الى تحقيق جملة من الاهداف ولايعني انها اهداف مشروعة او مباحة لكن هذه الوسيلة الاعلامية او تلك لديها من البرامج التي ترغب من خلال استخدام التضليل الاعلامي الى تحقيها عبر عدة اساليب حتى وان كانت فيها انتهاك لاخلاقيات العمل الصحفي والاعلامي ومن هذه الاساليب:
*عدم تقديم المعلومات إلى المتلقي كما هي.
* إجراء التعديلات في النص أو في الصورة بشكل مدروس ومنهجي مما يؤدي إلى تغيير في المفاهيم.
* هذه التعديل يهدف إلى خلق واقع جديد لا علاقة له بالواقع المتحقق فعلاً، وذلك بهدف خدمة مصالح أو أغراض خاصة.
ومن ضمن الاهداف التي يراد تحقيقها من خلال التضليل:
*انتاج واقع جديد من خلال التلاعب بدلالات الحدث.
*تسويق افكار ودلالات جديدة تختلف عن الحقائق من خلال التلاعب بلزمان ومكان الحدث.
*إعادة ترتيب أولويات الحدث بما يخدم افكار الوسيلة الاعلامية او من يقف وراءها.
*التحكم بالمتلقي للمعلومة.
* التأثير على توجهات الرأي العام.
لقد مرت على العراق احداث جسيمة منذ سقوط الطاغية عام 2003 ومنها احداث ما بعد تفجير مرقد الامامين العسكريين في سامراء والغلو الطائفي الذي اعقبها ثم الجرائم الارهابية لتنظيمي القاعدة وداعش التي استهدفت العراقيين جميعاً وتلتها احتلال الموصل وصلاح الدين واجزاء من ديالى والانبار وكركوك من قبل التنظيم الارهابي، وقد تعاطت الصحف العربية مع هذه الاحداث بأجندات مختلفة، بعضها تنقل الحدث من مصدر يعادي الدولة العراقية والعملية السياسية واخر من مصادر حكومية رسمية وثالث من مصادر تضع قدم في الدولة واخرى بالمعارضة وهكذا افتقدت هذه الاخبار مصداقيتها الحقيقية.
ونظر بعض الاعلاميين العرب وحتى العراقيين الى الاحداث من زاوية انتمائه الديني والعرقي وكان ان افقد نقل الاحداث الى الواقعية والمصداقية والمهنية التي يتطلبها العمل الاعلامي، بل ان بعض الصحف ومراسليها في العراق وكتابها شوهوا كثيراً من الحقائق ليصبوا نار الحقد والطائفية على الاوضاع في البلاد.
وكثير من الصحف العربية التي تابعتها وهي تتناول القضية العراقية والاحداث التي تمر فيه وعليه سعت الى اعطاء تصور للقارئ ان هذا البلد بعد سقوط صدام حسين تحول الى ضيعة ايرانية فارسية وان من يقوده او يحكمه ما هم الا صنيعة لساسة ايران وركزت بعض الصحف – للاسف الشديد- على ان طائفة واسعة من اهل العراق مهددة بالابادة والمحو ونصبت نفسها –هذه الصحف- محام ومدافع عن فئة من ابناء العراق دون اخرى.
وابسط مثل للتضليل الذي مارسته الصحف العربية حول العراق استخدامها مفردات لوصف تنظيم داعش الارهابي بعيدة كل البعد عن الواقع ومتناقضة مع ما تطلقه هذه الصحف على هذا التنظيم في بلاد عربية اخرى، فهي تصفه احيانا بالجهادي ومرات بثوار العشائر وتارة بثوار العشائر السنية المنتفضة ولم تطلق يوماً صفة ارهابي عليهم كما تصفهم في مصر او السعودية او بلدان عربية اخرى.
وظلت العديد من الصحف والقنوات الفضائية العربية على تأجيج المسألة الطائفية في العراق وسعت علناً او بالايهام او ما بين السطور ان توهم القارئ ان ما حدث ويحدث في العراق صراع شيعي – سني، عربي- -كردي، فكانت دوما تشير الى مكان انفجار او قتل او حادث ارهابي معين بصفة طائفية (منطقة سنية او منطقة شيعية) ورغم كثرة الدلائل التي اثبت عمق التلاحم بين ابناء العراق وانهم شعب واحد ان هذه الوسائل الاعلامية ظلت والى هذه اللحظة مصرة على تقسيم العراقيين حسب انتمائهم الديني والقومي وسخرت عشرات من الكتاب لتعميق هذه الفكرة المضللة وحتى عندما حدثت موجات النزوح من المناطق التي سيطر عليها داعش الارهابي وسكن عراقيون مهجرون ببيوت عراقيين في كل اجزاء الوطن الواحد من شماله حتى جنوبه ظلت هذه الاصوات مرتفعة ومصممة على بث روح الفرقة.
من يقرأ او يشاهد الكثير من وسائل الاعلام العربية يلحظ بصورة جلية حجم التضليل الاعلامي الذي تمارسه ضد العراق وشعب العراق والاهداف معروفة وكثيرة اولها واهمها الخوف من وجود عراق موحد ديمقراطي وسط منطقة يسودها حكم التوريث والعوائل، ثم وربما هذا من الاسباب الجوهرية لهذا التضليل الاهوج: كيف يمكن ان يحكم العراق غالبية عانت طويلا من التهميش ولماذا تعطى كل هذا الامتياز؟ رغم ان نظام الحكم في العراق برلماني تعددي وتجرى فيه انتخابات على عكس البلدان الاخرى.
لقد طغى صوت هذا التضليل على بقية الاصوات لا لانه على حق بل لان الاعلام العراقي وسياسة الدولة الاعلامية فيها قصور كبير ولم يستطع ان يحقق للعراق الجديد مكانة اعلامية مميزة او ان يتصدى لكل هذه الابواق ولم يسعى لبذل جهد او تفكير لتحييد او كسب وسائل الاعلام العربية فأصبح العراقي البسيط هدفا للهجمة الاعلامية الشرسة المدفوعة والمدعومة.
لذا اصبح لزاما على اعلاميي العراق المنتمين لقضية بلدهم السعي الى ايقاف هذا التضليل وايضاح اسبابه وايقافه والعمل على كسب وسائل الاعلام والاقلام الشريفة ان تساند قضايا العراق وحربه المقدسة ضد الارهاب وجرائمه.
alyasireenasir@yahoo.com

بقلم: محمد الياسري