إن اي دولة تريد النهوض بشكل ديموقراطي يجب ان تدعم نهضتها من خلال تجارب الدول التي سبقتها في النهوض، ولعل العراق وبعد السقوط خاض تجارب ديموقراطية متعددة غير واضحة المعالم للكثير ممن شاهدوا التخبطات، وذلك بسبب عدم الخبرة والدراية بمفهوم الديموقراطية العملي وليس النظري، الذي مورس من قبل تيارات وكيانات واحزاب لم تنل حظها من التجارب السياسية على الحكم كونها كانت منضوية تحت اسماء وافكار نال الحظ منها، ثم برزت على الساحة السياسية وهي لديها خزين من العمل الحزبي ضمن مقومات التسلسل التنظيمي، أي انها لم تمسك زمام السلطة (سلطة الدولة) من قبل، وهذا ما جعلها لا تدرك الابعاد المترامية لقيادة دولة، تمتلك من المقومات الاساسية الكثير كالصناعة والزراعة الاقتصاد والسياسة الخارجية الى جانب امتلاكها ثروة نفطية هائلة، والاهم قيادة شعب مكبوت نال الظلم منه حتى النخاع، الى جانب تعددية في المعتقدات والمكونات، فبات التعامل بعد ان تهيئت الفرص لاحزاب حَسِبت او نَصَبت نفسها بأن لها الاحقية في نيل والتربع على السلطة كونها تحمل فكرا مغايرا دينيا او علمانيا، فكانت المحاصصة وهي الاسفين والخازوق الرئيسي في خراب قيام دولة العراق الديموقراطية، رغم الادعاء بأن التعددية هي الوضع المناسب للسلطة كون الشعب العراقي مكون من اطياف مختلفة، وعليه مورست السياسة بشكل يخدم المكونات السياسية اكثر من الشعب، واصبح شعار (هذا لك وهذا لي) هو السائد مما أدى الى استشراء سرطان الفساد الاداري والحكومي دون محاسبة قانونية لأن الجميع محصن بالشعار الذي ألجم يد القانون القضائي في محاسبة الكثير ممن نهبوا ثروات الشعب، فقط كونهم يمتلكون حصانة شرعية هيأها لهم المكون السياسي الذي ينتمون إليه، لذا قامت تلك المكونات ببناء نفسها ماديا وتقوية اركانها معنويا واهملت الجانب الوطني الذي جعل منها صاحبة منصب وحكم، اكثر منها صوت الشعب ويده الخدمية، كما ان المردود العام على تلك الكتل من خيرات العراق جعلهم يفسدون في الارض واتخمت بطونهم برؤوس اموال خيالية فتناسوا الشعب الذي تحمل الذل والقهر والمآسي والمحرومية التي يدعون انهم يعملون عليها من اجله في تغيير حاله الى الافضل بتحقيق طموحاته، ان الدولة العراقية الجديدة قليلة الخبرة في المسك بمصطلح سياسة الدولة بديموقراطية تعددية، لكنها كما أرى تمكنت من سياسة مفاصل الحكومة مع العلم أن العديد من تلك المفاصل فسدت أو اصابها السوفان، كما أنها تناست الكثير من احتياجات الشعب وأهمها بناء البنى التحتية لديمومة الحكومة لقيام الدولة، فبعد الدمار قامت الحكومات المتعاقبة على بناء نفسها ذاتية متناسية حقوق الارض والمواطنة للإنسان العراقي، لذا نرى ان الاخطاء المتراكمة والمتعاقبة نتيجة اتفاقات ووعود أبرمت بين اطراف متعددة ادت الى ثقل تنفيذها كونها عقيمة لا تخدم كل الشعب العراقي، بل تخدم فئة دون أخرى، ومثال ذلك مسمى اقليم كردستان العراق، الذي لو طبق عليه الفدرالية بشكلها الصحيح لما كان لها ان تحمل علم مختلف عن الدولة التي هي منها، أو تعمل على إلغاء اللغة العربية الرسمية للدولة الام، فهي جزء من كل، وليس جزءاً متفردا عن العراق، لاغية دور الحكومة المركزية وفعاليته في اتخاذ العديد من القرارات التي تهم الوطن الواحد، ان المفاهيم والبنود التي وضعت في الدستور يوجد بها من الثغرات استغلت من قبل اقليات من الشعب للعمل بها الى ما يخدم مصالحها الذاتية فقط، متناسية وحدة الارض التي لا يمكن تجزئتها كونها تشكل ضعفا عاما للدولة وهيبتها، كما ان الدولة العراقية والتي يحكم ملامحها الوجه المدني مع الاحتفاظ بالسلوك العسكري كونها لا تملك المقوم الحقيقي في القيادة او متطلبات الشعب كدولة وليس قيادتها كمكون تحزبي، فكان التعامل المزدوج الذي سبب الكثير من الاخطاء، ناهيك عن اختلاف الرؤى للمكونات السياسية الاخرى وطريقة التفكير فكل يرى نفسه انه الافضل للقيادة واعتماد المنظور الطائفي كورقة ضغط واتهام الحكومة بالولاء لغير العراق كونها ذات اغلبية ( شيعية ) وإن كنت لا أراه سوى وتر يدق عليه اتون حرب اهلية مسبوقة الاعداد حسب اجندات دول مجاورة، مما خلخل السياق في السلم الوظيفي واضاع الاعتبارات وبروتوكولات الحديث الصحيح، فالكل ينصح بما يراه نافعا لمكونه ودوام بقاءه وديمومة تياره او حزبه او كتلته، مما أضاع الصيغة الحقيقية والفهم والفارق بين معنى الدولة والحكم، وهذا يدعنا نتساءل عن مفهوم الدولة والحكومة وتعريف هذان المسميان… ولعل التعريف وحسب الموسوعة الحرة كالاتي…
•- الدولة هي مجموعة من الافراد يمارسون نشاطهم على إقليم جغرافي محدد ويخضعون لنظام سياسي معين يتولى شؤون الدولة، وتشرف الدولة على انشطة سياسية واقتصادية واجتماعية التي تهدف إلى تقدمها وازدهارها وتحسين مستوى حياة الافراد فيها، وينقسم العالم إلى مجموعة كبيرة من الدول, وان اختلفت اشكالها وانظمتها السياسية.
ينبغي التمييز بين الدولة والحكومة، رغم أن المفهومين يستخدمان بالتناوب كمترادفات في كثير من الأحيان. فمفهوم الدولة أكثر اتساعا من الحكومة.
حيث أن الدولة كيان شامل يتضمن جميع مؤسسات المجال العام وكل أعضاء المجتمع بوصفهم مواطنين، وهو ما يعني أن الحكومة ليست إلا جزءا من الدولة. أي أن الحكومة هي الوسيلة أو الآلية التي تؤدي من خلالها الدولة سلطتها وهي بمثابة عقل الدولة. إلا أن الدولة كيان أكثر ديمومة مقارنة بالحكومة المؤقتة بطبيعتها: حيث يفترض أن تتعاقب الحكومات، وقد يتعرض نظام الحكم للتغيير أو التعديل، مع استمرار النظام الأوسع والأكثر استقراراً ودواماً الذي تمثله الدولة. كما أن السلطة التي تمارسها الدولة هي سلطة مجردة “غير مشخصنة” : بمعنى أن الأسلوب البيروقراطي في اختيار موظفي هيئات الدولة وتدريبهم يفترض عادة أن يجعلهم محايدين سياسيا تحصينا لهم من التقلبات الأيديولوجية الناجمة عن تغير الحكومات. وثمة فارق آخر وهو تعبير الدولة (نظريا على الأقل)عن الصالح العام أو الخير المشترك ،بينما تعكس الحكومة تفضيلات حزبية وأيديولوجية معينة ترتبط بشاغلي مناصب السلطة في وقت معين.
احتلت الدولة على الدوام مكانة محورية في التحليل السياسي وصولا إلى المرادفة بين دراسة السياسة ودراسة الدولة في أغلب الأحيان. وتتجلى تلك المكانة في جدالين مهمين يتعلقان بأسس الالتزام السياسي وطبيعة القوة السياسية، كما يلي:
أولا: البحث في أسباب الاحتياج للدولة وأسس الالتزام السياسي: حيث تطرح نظرية العقد الاجتماعي التبرير الكلاسيكي لنشأة الدولة من خلال تصور شكل الحياة في مجتمع بلا دولة أي في حالة الفطرة أو الطبيعة. وتتسم هذه الحالة لدى بعض المفكرين (مثل هوبز ولوك) بحروب أهلية وصراعات مستمرة يخوضها كل فرد في مواجهة الكافة (أي حرب الكل ضد الكل)؛وهو ما يهيئ الناس للاتفاق على “عقد اجتماعي” – “Social Contract” يضحون بموجبه عن جزء من حريتهم من أجل إقامة كيان ذا سيادة يستحيل دونه حفظ النظام والاستقرار. أي ينبغي على الأفراد طاعة الدولة بوصفها الضمان الوحيد ضد الاضطراب والفوضى.
ويمكن تلخيص أهم وجهات النظر السائدة في هذا المجال على النحو التالي :
1- الاتجاه الليبرالي : ينظر إلى الدولة كحكم محايد بين المصالح والجماعات المتنافسة في المجتمع، وهو ما يجعل الدولة ضمانة أساسية للنظام الاجتماعي، ومن ثم تضحي الدولة في أسوأ الاحتمالات “شرا لا بد منه”.
2- الاتجاه الماركسي : يصور الدولة كأداة للقمع الطبقي بوصفها دولة “برجوازية”، أو أداة للحفاظ على نظام التفاوت الطبقي القائم حتى حال افتراض الاستقلال النسبي للدولة عن الطبقة الحاكمة.
3- الاتجاه الاشتراكي الديمقراطي : يعتبر الدولة عادة تجسيدا للخير العام أو المصالح المشتركة للمجتمع من خلال التركيز على قدرة الدولة على معالجة مظالم النظام الطبقي.
4- الاتجاه المحافظ : عادة ما يربط الدولة بالحاجة إلى السلطة والنظام لحماية المجتمع من بوادر الفوضى، وهو ما يفسر تفضيل المحافظين للدولة القوية.
5- اليمين الجديد : أبرز السمات غير الشرعية للدولة الناجمة عن توسعها في التعبير عن مصالحها بغض النظر عن المصالح الأوسع للمجتمع، وهو ما يؤدي غالبا إلى تدهور الأداء الاقتصادي.
6- الاتجاه النسوي :نظر إلى الدولة كأداة للهيمنة الذكورية حيث تُوظف الدولة الأبوية لإقصاء النساء من المجال العام أو السياسي أو استبقائهم مع إخضاعهم.
7- الأناركية : تذهب إلى أن الدولة لا تعدو أن تكون جهازا قمعيا أُضفيت عليه الصفة القانونية كي يخدم مصالح الأطراف الأكثر تمتعا بالمزايا والقوة والثراء.
و قد شهدت نهايات القرن العشرين ظهور اتجاهات ساعية لإفراغ الدولة من مضمونها نتيجة عدم تلاؤمها مع التطورات الجديدة مثل تزايد الاتجاه للخصخصة وتفضيل آليات السوق على التخطيط المركزي، وتأثيرات العولمة واندماج الاقتصاديات الوطنية في الاقتصاد العالمي غير الخاضع لسيطرة أية دولة منفردة. فضلا عن تنامي النزعات المحلية وما تولده من ضغوط على الدولة عبر تعزيز الولاءات والتفاعلات السياسية على مستويات مختلفة عن المستوى القومي (جمهورية أو قبلية)مع ظهور أنماط جديدة للقومية قد تمثل تهديدا للدول القائمة.
ومن هنا نجد ان الدولة العراقية تسير حسب وجهة نظر الحكومة التي تعمل على قيادتها بما ترتئيه من سياسة تؤمن نفسها كسلطة حاكمة قيادية تسير بالدولة في اتجاهات مختلفة ومتعددة عبر وضع سياساتها ورؤاها المستقبلية لاستمرارية الدولة من خلال فعاليات الحكومة وعلاقاتها مع تلك الدول وحكوماتها، وايضا كعنصر فاعل مع المكونات الاخرى المتمثلة في مسك مفاصل الدولة بالوزارات والتي اراها كل تعمل للمصالح الشخصية ومكونها الحزبي في تكوين دولة مصغرة تدار بمنصب حكومي، كما إنها بعيدة كل البعد عن تقديم سبل العيش الكريم للمواطن العراقي، وهذا لا يمكن نكرانه فهو متجسد بالبطالة وقلة الخدمات الصحية، الخدمية، الاجتماعية والاقتصادية، وبكل ما يكفل العيش العزيز للمواطن، لذا ضاعت كل الجهود المعدودة على الاصابع كإنجاز، هذا اذا سميت كذلك نظرا لكميات المبالغ المصروفة هدرا في مجالات وعقود كثيرة وهمية، اي انها نهب مقدرات وثروات مواطنين تحت عناوين ومسميات بمناصب حكومية، ان الحكومة اذا لم تتخذ خطوطا واضحة المعالم لمسيرتها وسياستها ستنهار بسبب التغاضي عن اخطاء من هم في الحكومة، كونهم شركاء ولهم ثقلهم في البرلمان والسلطة، قد يكون السياق الذي تسير عليه الحكومة مفروض عليها لاختلاف الآراء والمفاهيم السياسية والضغوط، ربما من الخارج، وربما من الداخل، إن تلك المفاهيم التي رسمها الدستور والذي وضع بناء على وجهات نظر ومتطلبات كتل وتيارات واحزاب ومكونات اخرى كلها جديدة العهد بالديموقراطية، حيث انها كانت منضوية تحت مسمى حزب او كتله او تيار، وهذا طبعا يفرض ان يكون هناك سِلَم قيادي، عملت عليه ليتناسب معها في تسهيل امورها من خلال مفاصل الدولة، وكما أرى ان السبب الرئيس في فشل مسيرة قيام الدولة هو المحاصصة التي فرضت نفسها واصبحت واقع لا مهرب منه، ان الدولة والحكومة بما انها جزء من كل لا يمكن ان تتعافى إلا في الغاء هذا المسمى المريض الذي جلب الكثير من المشاكل لوحدة العراق وشعبه، فهو أوجد الطائفية، النعرات العشائرية، التفرقة، البغض والحقد على الانسان العراقي بسبب مسميات خلفها الاحتلال بعد ان دعم فئة ضد اخرى، كما لا ننسى المحيط الجغرافي الذي يعيشه العراق كدولة بينهم فإيران، تركيا، سوريا، الكويت والسعودية، واسرائيل، كلها حملت اجندات مبيته لوقف عجلة التنمية الديمقراطية وارادت لها الفشل، وهذا ما سمح لذوي النفوس الضعيفة ان يبيع ويشتري بالمقدرات العراقية، بعيدا عن الانتماء الحقيقي للأرض او احترام السيادة والدستور، بل حتى احترام الانسان العراقي كونه مواطن يريد ان يعيش حياة كريمة مزدهرة بما في خيرات ارضه التي استبيحت لدول الجوار مرة سرقة لمئات الكيلو مترات ومرة سرق ونهب ثروتها النفطية بحجج واهية وادعات الحدود البرية او النهرية، ان الزوبعة التي يعيشها العراق جعلت دولته غير واضحة المعالم، ولم تتضح ماهية ونوع الحكم السائد عليها، هل هو مدني او عسكري؟ لبرالي او تعددي او اشتراكي، أو المحافظ ، أو حكم الغاء الطبقية….
اننا فعلا بحاجة الى وضوح الرؤيا بعيدا عن المصالح الذاتية، سواء للحاكم أو كيانه معا، او من يدير دفة الحكم كشراكة وطنيه دون كهن او تبييت نوايا تحت الابط تزكم الانوف تثار حين تتعارض من الفائدة الذاتية ككتلة او حزب او تيار، وعليه يجب ان تكون الرؤى جميعها موحدة تصب في مصلحة الشعب بكل اطيافه، إن ذاك يسهم ويسهل بشك كبير في وضوح الخطوط العريضة التي يمكن للدولة وحكومتها الوطنية المشتركة ان تتخذها كخط بياني صريح يخدم بنائها وتقوية مقوماتها في سياستها واستراتيجيتها اولا في الداخل وثانيا مع الدول المحيطة والخارجية، على ان تضع نصب عينها الارض والشعب هما الاساس والقوة الداعمة الرئيسة بكل اطيافه ومعتقداته، بذلك يمكن ان نعبر الى مرحلة التغيير الحقيقي وليس الضبابي في الابتعاد وطرد فكرة الهيمنة والتفرد بالرأي التي تسير كذريعة بين السياسيين، واتخاذها كشماعة للأخطاء ورميها على كتلة هي واحدة من كتل الوحدة وطنية شكلت بالتوافق لإدارة الدولة، إن العمل الحقيقي على كشف العيوب للذين اودوا بالعراق الى ان يكون معاقا عراقيا وعربيا واقليميا، اسهم في ضعف بناء حكومته واقامة دولة حملت عمق تأريخي تجاوز السبعة الاف من السنين، اننا بحاجة الى وقفة حقيقية متأصلة بحب الارض والانتماء الوطني لدفع الذين يحيكون شباك الفتنة واسقاط النهج العملي لسياسة الحكومة، مع الحاجة الى العقل في الموازنة بين القوى المتعددة في رؤاها المستقبلية، كوننا مقبلين على انتخابات محلية من شأنها ان تكون هي النافذة الحقيقية عن وعي المواطن العراقي وحقه في الانتخابات، ان الدولة العراقية وشعبها بحاجة الى مصداقية من الحكومة في كشف الكثير من المعوقات التي انهكت الدولة وجعلها تتعكز رغم السنين، وفضح الوجوه المستعارة التي يختبئ وراءها ممن حملوا اسم العراق كممثلي شعب ازهقت طموحاته كونه انهك عقليا وفكريا بسبب التخبطات وزوابع الحراك السياسي الذي غابت ملامحه الحقيقية والغير حقيقية في الدولة العراقية، مع الاحتفاظ بالحق الوطني والدستوري بأن يساق للعدالة كل من يريد اسقاط هيبة الدولة واتهام الحكومة بما لا يتناسب مع هواه او ديمومته