البصرة الفيحاء، المدينة الزاهرة في الأعوام الغابرة، ثغر العراق الباسم ووجهه للقادم، وإنْ لم تكنْ في يوم من الأيام عاصمة سياسية للآنام، كحاضرات حضارات ما بين النهرين البائدة.. أكد سرجون وبابل حمورابي…، ومن ثم مدائن العراقيَن وحيرة اللخميين، وعواصم خلافات وولايات الدول الإسلامية الصاعدة، من كوفة الجند، وواسط العِقد، وبغدادالرُشد، ربما يعود السبب لتطرف موقعها، وخطورة مأمنها، ورعناء جوّها ! ولكن كما نـُعتت من قبلُ، هي هي أم العراق، وخزانة العرب، وعين الدنيا، ذات الوشامين، وملتقى النهرين الخالدين، شكلت مع توأمها الكوفة المصريَن، وإنْ تماهيت بها عليك بالبصرتين، والبصرة شغلت الناس بجذور تاريخها وأصول تسميتها، داروا حولها وبحثوا عنها، إبتداءَ من (باب سالميتي) المأخوذة من الأكدية، وتعني (باب البحر الأسفل)، ووصلوا الى سنحاريب الملك الأشوري (695 ق م) وحروبه البحرية، وانطلاقه من مينائها الذي كان يطلق عليه طريدون (تريدون)، وحوله العرب تدريجيا بمرور الزمن الى (تدمر)، بفذلكات هذه فذلكتها، لذلك أوردها الزبيدي في (تاج عروسه)، وزيد بن علي في (مسنده) كناية عن البصرة، وأرجع الدكتور جواد علي في (مفصله) كلمة (الأبلة) – وهي من اسماء مينائها وأحد مناطقها الهامة – الى إصول أكدية لقبائل حاربها سرجون الثاني، وانتصر عليها تدعى (أوبولم)، ووصل اسماء بعض مناطقها قبل الإسلام، كما ذكرها الإمام علي في خطبته التي نقلها الحموي في (معجم بلدانه) الى (الخريبة) و(السبخة) و(البصرة)، و(البصيرة) بالتصغير، و حتى (البصرة العظمى)، و(أرض الهند)، كلها مناطق لأجزاء منها، تطلق عليها من باب إطلاق الجزء على الكل، والطبري واضح في (تاريخه)، عندما يسرد هذه الجزئية في أحداث سنة 14هـ، وبما معناه، لما وصل عتبة بن غزوان (المازني) الخريبة، وشاهد القصب، وسمع نقيق الضفادع، توقف قائلاً: إن أمير المؤمنين – ويقصد الخليفة عمر بن الخطاب – أمرني أن أنزل أقصى البر من أرض العرب، وأدنى أرض الريف من أرض العجم، فنزل الخريبة، وبالأبلة خمسمائة من الأساورة يحمونها، وكانت مرفأ السفن من الصين وما دونها، فسار عتبة فنزل دون الإجانة، ثم فتح الأبلة من بعد بثلثمائة رجل، ووزع الغنيمة عليهم، فنال كل واحد منهم درهمين، ومن كلمة (الصين وما دونها)، ونعتـُها بـ (أرض الهند)، ومجاورتها لـ (أرض العجم)، وعمقها البر من (أرض العرب)، وما كنيت به (عين العراق)، وزادها اليعقوبي ليجعلها (أم الدنيا)، يتبين مدى أهمية البصرة، ودورها الحيوي في جميع المجالات، وموقعها الاستراتيجي للعراق خاصة، وللعرب والعالم عامة على امتداد التاريخ، لذلك تعرضت لما تعرضت إليه من دمار وخراب، وحروب فسراب، من يومها الى يومنا، تعلو فتكبو، وتهيج فترسو، يوم لها ويوم عليها، ولكن عقباها كما تراها، أعطت الكثير، وما أخذت حتى القليل .
مهما يكن من أمر، من أين اشتق اسم البصرة، يقول العرب وهم أعرف بلغتهم وأسرارها ومكوناتها ومكنوناتها، إنها الأرض الغليظة، والطين العلك فيه الحصى، وحجارة رخوة فيها بياض، والجمع بصار، ويقول الطبري “والبصرة كانت تدعى أرض الهند، فيها حجارة بيض خشن” ثم يردف ويعمم ” والبصرة كل أرض حجارتها جص ” وصب الأخفش بهذا المعنى، إذ يقول عنها: حجارة رخوة الى البياض، ما هي وبها سميت البصرة، والحموي يذهب في ( معجمه البلداني) الى هذا المعنى في تعريفاته العديدة وأريدك أن تركز على كلمة بياض، والجص وهو الجبس الأبيض، والتعميم (كل أرض)، ه فالبصار موجودة – بشكل أو آخر – في أكثر من قطر عربي، هذه الأمور تجعلني أميل الى ربطها بالفعل (بصرَ بصرأً وبصارة)، فالأرض المبصورة والمرئية والمنظورة من بعيد لبياض حجارتها، هي بصرة للعيان، وجمعها بصار، مثلما يقول القائلون خضرة وخضار، فلا يمكنني أنْ أقبل من حمزة الأصفهاني قوله، إن البصرة كلمة أصلها فارسي من (بس رآه) أو باصوراه، وتعني الطرق المتشعبة، ببساطة أين نرمي بقية مادة (بصر) واشتقاقاتها المتشعبة تشعب الطرق ! وأيضا بالرغم من انني لا أستطيع أن أنفيالتداخلات اللغوية تداخل الشعوب، واختلاطها، وانحدارها من جذور متقاربة أو واحدة، لا استطيع أيضا أن أقتنع سهولة ً بوجهة نظر الاستاذ يعقوب سركيس في (مباحثه العراقية) من انها انحدرت من كلمة كلدانية، وتعني (الأقنية)، أو باصرا (محل الأكواخ)، أوتتركب من باب وكلمة (صيري) الأكدية، والتي تعني الصحراء، وبالتالي هي (باب الصحراء) الى الجزيرة العربية، كل أمر جائز، إذا أخذ بشموليته، ولا مجال لتجزئة البصرة عن البصر، ولا يجوز نقل الآراء بدون نقاش وجدال، كأنها حقائق مسلم بها، مهما كبر حجم قائلها !! والله أعلم، تناولت هذا الموضوع بشيء من التفصيل عند تطرقي الى اسماء ا (الحيرة) (الكوفة) و(النجف) لغة، في أحد مؤلفاتي الذي بحثنت فيه تاريخ هذه المدن .
المهم – مهما قيل وقالوا- مصرت البصرة أبان الفتح الإسلامي سنة 14هـ 635 م بأمر من لخليفة عمر بن الخطاب، إذ أشار الى قائده عتبة بن غزوان المذكور، بإقامة ركائزها، ولملمة جنوده المحاربين بذراريهم ونسائهم، وعينه واليا عليها، كأول ولاية إإسلامية بعد الفتح المبين، وعاونه في ذلك ساعده الأيمن المغيرة بن شعبة، وكان أول ما اختطوه المسجد الكبير، وهو شعار الدولة الإسلامية الفتية، ثم بنوا دار الإمارة، وعقبهما السجن وحمام الأمراء، وسبع دساكر (المفردة دسكرة) من الخيام، وهي قرى كبيرة، وذلك في منطقة الخريبة، مكان مدينة الزبير الحالية، ثم استبدلت الخيام بأكواخ القصب حتى الحريق الكبير، فبنيت الأكواخ من اللبن على هيئة قوالب (آجر غير مفخور)، بعد أن استأذنوا الخليفة عمر فأجابهم “لا يزيدن أحدكم على ثلاثة أبيات، ولا تطاولوا البنيان، وألزموا السنة تلزمكم الدولة “، وكان أول دار بنيت لنافع بن الحارث، ثم دار الصحابي معقل بن يسار المزني، وأخذت تشق الطرق، وتحفر الأنهار، وتتسع البساتين، ولما جاء الخليفة عثمان بن عفان(23 هـ -644 م)، اهتم بتعمير المصرين الكوفة والبصرة، وسمح بالتطاول في البنيان، ولما عابوه على ذلك، لم يلتفت الى صراخ المحتجين، فاستبدل اللبن بالآجر والجص والساج، فآتسعت البصرتان حتى أصبحتا من أعظم مراكز الإسلام ازدحاما بالسكان، وقامت القصور المبنية بالحجارة والرخام، بأروع آيات الفن والجمال، وأدرك العرب أنّ أرض البصرة تستطيب زراعة أشجار النخيل، فأكثروا منها حتى ملأت ضفاف الأنهر والجدوال، واصطفت بنسق جميل، تطلُّ على الشوارع والأزقة، والطرق والبيوت، فروى الحموي في (معجمه) عن الرشيد قوله:” نظرنا فاذا كل ذهب وفضة على وجه الأرض لا يبلغ ثمن نخل البصرة “، جنان ولا أبدع، وحياة ولا اروع، وتفتح ولا أوسع، آلاف السواقي والجداول والأنهار، أين منها بتلك الأيام، بندقية الرومان، وأمستردام الأرض المنخفضة هذه الايام، وصلت مساحتها 225 كلم مربع، (فرسخان طولا، وفرسخان عرضا، والفرسخ 7، 5 كيلو متر)، وعدد سكانها ناهز المليونين، تعج بالأسواق، وأهمها أربعة، سوق المربد، وسوق باب الجامع، والسوق الكبير، وسوق الكلاء، مُلئت بالساج والعاج، والديباج والحلل، وتوفرت فيها أطعمة كل أطراف الدنيا، مما عزّحتى على بغداد قبلة الدنيا، بل وقصر خلافتها الباذخ، وازدهرت فيها صناعات، خُصت بها كمنسوجات الكتان وبزها وخزها، والعطور والدبس والحلوى …
كانت تـُقسم البصرة الى ثلاث مناطق مهمة، أولها (الأبلة)، وسبقت تمصيرها كما أسلفنا، تقع على دجلة العوراء (شط العرب) في الزاوية المطلة على الخليج الداخل إليها، ويتفرع منها نهر الأبلة، نظرأ لأهميتها التجارية والاقتصادية القصوى، حظيت بإهتمام خاص من قبل الخلفاء، فشكلوا اسطولا لحمايتها من القراصنة، وعينوا عاملا مستقلا لها، يتصل بالخليفة مباشرة، ولا يرتبط بوالي البصرة، وثانيها (المربد) وسوقه العتيد، إذ يجتمع فيه العرب من كافة الأقطار، لبيع الإبل وإنشاد الأشعار، وتناقل الأخبار، فهي المركز الثقافي، ومتنفس الشعر العربي، ساعدها موقعها الغربي من المدينة، واتصاله بالبادية على ذلك، وثالث المناطق (الخريبة)، سميت بذلك لقصر عظيم ابتناه المرزبان فيها، وخرب من بعد، فذهبت الخزينة، وبقت الخريبة محلة للفقراء والمستضعفين، يلوذ بها الثائرون والخارجون، تقع غرب الأبلة على بعد أربعة فراسخ من شط العرب، حاول الخلفاء والولاة إرضاء سكانها، فبنى واليها عيسى بن جعفر قصر منيفا فيها، ولما عاد الخليفة هارون الرشيد من مناسك الحج (180 هـ)، مر على البصرة، نزل به، وما به !!
وهل تريد مني أن أحدثك عن البصرة بعمقها الثقافي والشعري والفكري بهذه الأسطر العابرة، أراك أشفق علي مني، أن تطلب ما لا أستطيع، ولا يستطيع غيري أن يلمه ويحيطه، فهي أكبر من الكبير، وأبصر من البصير !! وما انا الا عابر سبيل، للوصول الى ابن الرومي، وبكاء وعويل، وفي الحلقة القادمة سيأتيك الدليل !!، ولكن أشير إليك خاطفا، البصره – يا قاريء الكريم، وأنت الأدرى – الفرزدق بوصفه وزهوه وفخره، وجرير بهجائه وإيقاعه وبحره، وأبو الأسود الدؤلي بعلمه ونحوه وفصاحته، والحسن البصري بحديثه وفقهه ومهابته، وواصل بن عطاء بإعتزاله ومعتزلته، والأشعري برجوعه الى سنته، والفراهيدي بعروضه وعينه ولغته، وبشاربن برد بتجديده وعبثه وبصيرته، وأبو نؤاس بمجونه وخمرته وتوبته، وابن المقفع ببلاغته وكليلته ودمنته، والأصمعي بقوة حفظه ونوادره وروايته، وأبو الشمقمق بسحابه وأرضه ووجوديته ، وسيبويه بقياسه وكتابه ومدرسته، والجاحظ ببيانه وأدبه وضخامته، والكندي برسالته وإلهياته وفلسفته، وأخوان الصفا بتحفهم ومنطق كلامهم وجدليته، ولا أزيد، للوصول للشاعر الفريد، ففي كل واحد ممن عدّدنا يخجل منه المزيد.
يا بصرة البصائر ..ما دار في الدوائر..!!
الأخير هو الأول، والأمور بتواليها !!، فما كتبنا وما سنكتب في هذه الفقرة الا لنأتي على الفقرة الآتية، وما الفقرة الآتية الا بعبقرية شاعرنا الفذ ابن الرومي – فالرجل يستحق التبجيل منا -، ورثائه الرائع للبصرة بقصيدته الخالدة المرتسمة على عيون الزمان، كقطرات من اللآلىء والجمان، تمرّالأعوام، فتجرُّ الأيام، والبصرة حالٌ على حال، من حرب الى حرب، ومن دمار الى دمار، ومن خراب الى خراب، بين هذا وذاك، فرصة عمل، وفسحة أمل، ونهضة إعمار، وإبداع أفكار .
مصرت البصرة قبل ستة أشهر من تمصير الكوفة سنة 14 هـ، تولاها عتبة بن غزوان ووافاه الأجل في السنة نفسها، وعقبه المغيرة بن شعبة لسنتين، ثم تربع عرشها أبو موسى الأشعري، وفي زمنه حدث الحريق الكبير بالمصرين، لأنّ بناءهما كان من القصب، وكان حريق الكوفة أشدهما، وذكرنا إجراءات الخلفيتين الراشدين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان بعده من قبل، وعام 36 هـ -656 م، تشهد البصرة وقعة الجمل، قتل فيها عشرة آلآف مناصفة بين الفريقين، وقيل عشرة آلآف من البصرة، وخمسة آلآف من الكوفة، على حد روايات الطبري، وتسير البصرة مستقرة، لم تحدث فيها وقائع جديرة بالذكر حتى قيام الدولة العباسية، ففي بداية حكم أبي العباس السفاح 132 هـ – 750م، أوكل هذا الخليفة أمرها الى قائده سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهاب، فخاض الأخيرمعارك عنيفة ضد فلول الأمويين وقادتهم الذين تمركزوا في البصرة، دامت لمدة اسبوع، انتهت بهزيمة الأمويين بعد مقتل اثني عشر ألف نسمة، وهدم سبعة آلآف منزل، وسويت نصف أسواق المدينة بالتراب، ولما تولى المنصور عرش أخيه الصغير السفاح سنة 136هـ – 754 م، مشت الأمور على حالها بالنسبة للبصرة، ولكن في سنة 142 هـ – 759م، عزل الخليفة والي السند عيينة بن موسى بن كعب، بعد أن خلع الأخير منصوره، فسار المنصور بجيشه الجرار الى البصرة، فنزل معسكره بالقرب من الجسر الكبير، ووجه من هناك عمر بن حفصة بن أبي صفرة العتكي الى الهند والسند على رأس جيش كبير، لتولي أمرها، فغلب وأصبح واليا، ولم تمض فترة طويلة، ففي سنة 145هـ 763 م، أعلن النفس الزكية (محمد بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الامام الحسن) ثورته في المدينة، فخسر معركته، وذهب الى رحمة ربّه، ولم تتزامن ثورته مع ثورة أخيه ابراهيم الذي جمع جمعه وقواه بعد ثلاثة أشهر، وبادربها من البصرة بادئا ببضعة عشر رجلا فارسا، ثم التف حوله الناس من كل حدب وصوب، فأحصي في ديوانه مائة ألف من عراة البصرة، وسار من معسكره بالماخور من خريبة الفقراء متوجها الى الكوفة، فأمر أبو جعفر المنصور قائده عيسى بن موسى أن يترك المدينة على حالها، ويتوجه الى البصرة، فسار بخمسة عشر ألفا، وجعل على مقدمته حميد بن قحطبة في ثلاثة آلآف، وألتقى الجمعان ببا خمرىقرب الكوفة، وكاد ابراهيم أن يحسم الأمر لصالحه، لولا القدر الذي أسقاه رمحا مميتا، فأنشد المنصور متمثلا ببيت معقر بن أوس، عندما وضع رأس ابراهيم بين يديه:
فألقت عصاها واستقر بها النوى *** كما قرّ عينا بالإياب المسافر
الدنيا تدور، ولا مجال للفرار من دوائرها الغرور، وما قرّ به ابراهيم، لابدّ أن يشرب كأسه المنصور، فعندما حلت سنة 158 هـ، سلّم (المجبور) الراية لابنه (المهدي)، وما شرع به الأول لمحاربة الزندقة، متهما المسكين (عبد الله بن المقفع) كاتب البصرة الشهيربها، وما كان بينه وبينها الا التشدد في كتابة ولاية العهد للسيد المنصور، سار عليه الثاني بالظلم والجورطوراً، وبالعدل والإنصاف تارة أخرى، فللمجتمع قيود وردود، ودين وحدود، والزنديق بالعربي، هو زنديك بالفارسي، وأطلقت الكلمة أساسا على المؤمن المخلص من أتباع ماني، ولما كفرت الزرادشتية المانوية، فأصبح الزنديك ملحدا بعرفهم، أما ابن منظور ففي لسانه يقول، الزنديق هو القائل ببقاء الدهر، يعني والقول لي، لا حساب ولا كتاب، ولا هم يحزنون، فألعبوا كما تشاءون، ..!! ثم تطور مفهومه لمن يضمر كفره، ويعلن إسلامه … إنا لله وإنا إليه راجعون، المهم أنّ البصرة أخذت حصتها الكبرى من هذه الحملة الشعواء لخبطة عشواء، لأنها مدينة منفتحة ومتفتحة، تجد فيها ما لذ ّ وطاب، ومن سعى فخاب، ومن تزندق فتاب، ويذكر الطبري في أحداث 167هـ:وفيها جدّ المهدي في طلب الزنادقة، والحث عنهم في الآفاق، وقتلهم، ويزيد في أحداث 168هـ، وفيها قتل المهدي الزنادقة في بغداد، أما اليعقوبي فيصرح في هذا الصدد: كان المهدي قد ألحّ في طلب الزنادقة وقتلهم، حتى قتل خلقا كثيرا، وممن قتلهم من الشخصيات الشهيرة سنة 167هـ، كاتبه صالح بن أبي عبيد الله، وتتبع صالح بن عبد القدوس في البصرة، فهرب الى الشام، فأتى به مخفورا الى بغداد، وحاكمه الخليفة نفسه، ثم استتابه فتاب، فلما خرج من عنده، ذكر له قوله:
والشيخ لا يترك أخلاقه *** حتى يوارى في ثرى رمسه
قال: وإنك لتقول هذا، فرده وضرب عنقه، ولم يستتبه، وبالرغم من أن بشاربن برد مدح الخليفتين العباسيين المنصور والمهدي، ولكن لم يفلت من هذه التهمة الخطيرة، بعد خلافه مع وزير المهدي يعقوب بن داود، مما أدى الى هجاء السيد الوزير، وخليفته معه في بيتيه الشهيرين (بني أمية هبـوا طال نومكم ُ..)، فأستغلوا غزله الفاحش، ودعوته للفسق، وشعوبيته التي فرضت عليه، وقوله:
أبليس أفضل من أبيكم آدمٌ *** فتبينوا يا معشر الفجار
النار عنصره وآدم طينة ٌ *** والطين لا يسمو سمو النارِ
والآخر:
الأرض مظلمة والنار مشرقة ٌ *** والنار معبودة مذ كانت النار
فرمي بالزندقة، وضرب سبعين سوطا حتى الموت في البصرة، وروى الأصفهاني لم يسير وراء جنازته الا أمة سوداء أعجمية !! وللناس فيما يذهبون بعض جنون، والشعر فنون !!
وفي سنة 199هـ، بدايات خلافة المأمون، خرج أبو السرايا (السري بن منصور الشيباني) على أمر الدولة – لخلافات شخصية واستحقاقات مالية مع قائده هرثمة بن أعين -، ومعه ابن طباطبا (محمد بن ابراهيم العلوي)، ولما توفي الآخير، أقام أبو السرايا مكانه محمد بن محمد بن يحيى بن زيد بن علي، وكانت لثورته هزة كبيرة في الكوفة خاصة والعراق عامة، ذهب ضحيتها مئات الآلآف، وفي هذه الأجواء، أخذ البصرة العباس بن محمد بن موسى الجعفري، وزيد النار (زيد بن الإمام موسى الكاظم)، وانما سمي زيد النار – كما يذكر الطبري في تاريخه، والأصفهاني في مقاتله – لكثرة ما حرق من الدور بالبصرة، من دور بني العباس وأتباعهم، وهرب والي الأهواز العباسي (اسماعيل بن جعفر بن بن سليمان) من أهوازه خوفا ورعبا من الزيد وناره، ومن المضحك كان الوالي العباسي قد توعد دعبل الخزاعي بالمكروه، فلما رآه دعبل بهذه الحالة المزرية هجاه قائلا:
لقد خلـّف الأهواز من خلف ظهره *** وزيد وراء الزاب من أرض كسكر
يهوّل اسماعيل بالبيض والقنا ***وقد فرّ من زيد بن موسى بن جعفر
وعاينته في يوم خلـّى حريمه *** فيا قبحها منه ويا حسن منظر
انتهت هذه الثورة التي استمرت عشرة أشهر سنة 200 هـ، بعد أن ظـُفربأبي السرايا مجروحا، ومعه محمد بن محمد العلوي في جلولاء، وسلما الى وزير المأمون الحسن بن سهل، وكان في النهروان، فأمر بقطع رأس الأول، وارسال الثاني مخفورا الى الخليفة المأمون في خراسان .
وظهرعلى ساحة بطائح البصرة في عهدي الخليفتين المأمون والمعتصم الزط ذوو الإصول الهندية الفقيرة، والذين كانوا قد عاثوا فسادا في طريق البصرة، فقطعوا الطريق، واحتملوا الغلات من البيادر بكسكر، وما يليها من البصرة، وأخافوا السبيل، فوجه المعتصم اليهم سنة 219هـ قائده عجيف بن عنبسة، فحاصرهم حصارا شديداَ، إذ وضع السدود، وسد الطرق، فقتل منهم ثلاثمائة في المعركة، وأسر خمسمائة، وقطع رؤوسهم، وأقام بإزاهم خمسة عشر يوماً، فظفر منهم بخلق كبير، وما مضت تسعة أشهر الا قلعهم من جذورهم رجالا ونساءا وأطفالا، ومروا مصطفين بأبواقهم على أطراف بغداد (الزعفرانية)، وكان عددهم يتجاوز سبعة وعشرين ألف نسمة، ومن ثم هجروا الى خانقين، ومنها الى أحد التغور حيث قضى عليهم الرومان .
ولكن أكبر وأخطر حركة مرت بتاريخ البصرة، وهزت أركانها، ودمرتها دمارا، وخربتها خرابا، هي حركة الزنج، ولا اسميها ثورة، رغم ما ذهب اليه الذاهبون، وتوسم فيها المتوسمون، ممن يبحث عن الدّر المكنون في البطون والمتون، لما يتخيلون !!، استمرت حركة التمرد الزنجي خمسة عشر عاما (255 هـ – 270هـ / 869م -883م)، فلما تولى الخلافة (المهتدي) بالأتراك، محمد ابن الواثق أواخر رجب 255هـ، ظهر في فرات البصرة – بعد ثلاثة أشهر من خلافته – رجل يزعم أنه علي بن محمد الزيدي العلوي، وماهو – على أغلب الظن – الا من عبد القيس، وأمه من بني أسد بن خزيمة، و من ساكني قرية في الري تدعى ورزنين، فإلتف حوله الزنج الذين يكسحون السباخ، إذ ذكرهم في خطبة العيد، بما كانوا عليه من سوء الحال، وأوعدهم بالتحرر والعبيد والمنازل والأموال، و(المهتدي) لم يبق في الحكم الا قليلا، وأعني سنة الا قليلا ! فأتراكه أمروا أن تـُعصر خصيتاه، وتـُبعج بطنه، وخلفوا(المعتمد) عليهم، أحمد ابن المتوكل المعروف بابن فتيان سنة 256هـ، ولكن لم يحسن هذا المعتمد اعتماده، فدخل الزنج بمباركة صاحبهم ومشاركته الأبلة والأهواز وعبادان، فقتلوا الآلآف، ونهبوا آلآف الآلآف، وأسروا الغلمان، وأضرموا النيران، وزادت الريح في مضاعفة الخسران، ولا أطيل عليكم في سنة 257هـ، استطاع الزنج بزعامة زعيمهم أن يقتحموا البصرة، بعد أن انتقلوا من السبخة الى مدينة أبي الخصيب، وآتخاذهم إياها عاصمة لهم، والطبري نقل إلينا الأحداث بشكل دقيق ومفصل، ولم يترك لآخر فيها مطمعا، ومما ذكره: بعد أن أحرقوا ونهبوا واقتدروا على البلد، وعلموا أنه لا مانع لهم منه، فأغبّّوا السبت والأحد، ثم غادوا البصرة يوم الأثنين، فلم يجدوا عنها مدافعا، وجمع الناس، وأعطوا الأمان، ومع الأمان ذهبت الآمال بهم مذهبها، وخصوصا بعد أن حملت التنانير إليهم، تخيلوا – وبئس ما تخيلوا – وهم على ما فيه من الجوع، وشدة الحصار والجهد على أمر عظيم، فكثر الجمع،، وجعل الناس يتوبون وما ذنبوا، ويزدادون وما قلـّوا، ويسترحمون وما رحموا، حتى ارتفعت الشمس، فأ ُمِر الزنج بإحاطتهم، وغلق الأبواب دونهم، وأخذت السيوف تأخذ الرؤوس، فلم تسمع غير التشهد والإستغاثة والضجيج، وما كانت التنانير الا لحرق المسجد الجامع، وهبوا الى سوق الكلاء فحرقوه من الجبل الى الجسر، والنار في كل ذلك، تأخ كل شيء سرت به من إنسان ووبهيمة وأثاث ومتاع، ثم ألحوا بالغدو والرواح لسبي الناس وسوقهم كالعبيد والإماء.
(المعتمد) على الأتراك لم يجدِ نفعا، ولا هدّأ ولا سدّأ، فأخذ زمام المبادرة من بعد أخوه (الموفق) بالحزم والسطوة والعزم، أبو أحمد طلحة بن أبي جعفر المتوكل، فاستطاع بعد كرٍّ وفرٍّ، وأخذٍ وردّ أن يظفر بصاحب الزنج الورزنيني سنة 270هـ / 883م، ويقتله، ويصفي حركته تماما، ولقب على إثرها بناصر دين الله، وبقى الموفق من بعد هو الخليفة الفعلي، وما المعتمد الا معتمدا حتى سنة 279هـ، حيث توفي الأول أولا، ومن بعد ستة أشهر وفي السنة نفسها توفي الثاني ثانيا، حيث استلم (المعتضد)، وهو أحمد بن طلحة (الموفق) زمام الخلافة فعليا ثم رسميا (279 هـ – 289 هـ / 892 م – 902 م)، وكان المعتضد من عظماء الخلفاء العباسيين تدبيرا وحزما وعلما وبأسا، نقل العاصمة من (سر من رأى) الى بغداد، ولقب السفاح الثاني، بأعتباره المؤسس الثاني للدولة، ولا سفاح عنده سوى الفلاح والنجاح الى أمد عمره عقد
العبقري الخالد ابن الرومي يبكي خراب البصرة
ثورة الزنج (255 – 270 هـ)، في أروع رثاء إنساني، إليك القصة:
ابن الرومي علي بن العباس بن جريج، الشاعر العبقري الخالد من نكبة البصرة العظمى في التاريخ، والرجل عراقي المولد والنشأة والإقامة والنفس والأحاسيس، وعربي الشعر والشعور، وإنساني النزعة والجذور، لا عيب في روميته، لا سابقاً، ولا لاحقاً، الا أنّه رومي !:
والشـِّعر ُكالشـَّعر فيهِ ***مع الشبيبة شيبُ
كمْ عائبٍ كلَّ شيءٍ ****وكلُّ ما فيه عيبُ
قدْ تحسن الرومُ شعراً **ما أحسنتهُ العُريبُ
يا منكرِ المجد فيهمْ **أليس منهمْ صهيبُ؟!
عاصر الشاعر النكبة النكباء، وهو في ريعان شبابه (عمره 36 سنة)، مثله مثل الطبري المؤرخ العظيم، فابن الرومي من مواليد بغداد سنة 221هـ / 835 م، وتوفي مسموما فيها على يد الوزير القاسم بن عبيد الله سنة 283 هـ / 896 م، لم يغادر بغداده طيلة حياته سوى ثلاثة أشهر، لم يتوفق بالوصول الى الخلفاء، ولما وصل الى كرسي الوزارة دُحرج مسموما، خوفا من سلاطة لسانه، وإنطلاق قلمه، فالرجل كان شاعر الناس،، حامل همومهم، وكاشف كروبهم، مكمن أحلامهم، ومبيـّن آلآمهم، لا في عصره، إذ كان تعيساً مغمورا، وموسوساًً معذورا، وعبقريا مهدورا، بل بما عكسه للأجيال عنهم، فمن حسن حظنا، وحظ تاريخ الأدب العربي، أن يرسم بريشته الفذة ملامح أحداث المأساة البصرية لحظة لحظة، وصورة صورة، صور حية ناطقة، لا يستطيع حتى من شاهدها عيانا، أن يدركها إحساسا، نترك الأستاذ الكبير ابراهيم عبد القادرالمازني أن يبدي رأيه في ابن الرومي و: ” قصيدته الرائعة لما اقتحم الزنج البصرة، وأعملوا في أهلها السيف، وفي مساكنها ومساجدها النار، فقال ميميته الفريدة في لغة العرب، واستنفر فيها ” الناس ” – الناس أي الجمهور لا الخليفة ولا وزراءه ولا الأمراء – وجعل يستنفرُّ نخوتهم فيها بوصف البصرة وعزّها وفرضتها (مينائها) ثم بالأهوال التي حلّت بها من غارة الزنوج والفظائع التي إجترحوها، والحرمات التي استباحوها، ثم بتصوير الخراب الذي حلّ بها، والهوان الذي أصابها، ثم بتصوير الموقف في الآخرة حين يلتقي الضحايا والقاعدون عن نجدتهم “عند حاكم الحكام ” …وهي – والقول ما زال للمازني – قصيدة في الطبقة الأولى من الشعر، لو غيرت ما فيها من الأسماء والمحليات لخيل إليك أنها مما قال ” بيرون ” في سبيل استقلال اليونان أو ” توماس هاردي ” في إبان الحرب العظمى” …وإنه لعجيب أن تخلو القصيدة من كل ذكر أو إشارة، صريحة أو خفية، للحكام، وليس يسع القارىء إلا أن يذكر بها ما كان يستفز به الكتاب والشعراء والجماهير في أممهم في إبان الحرب العظمى الأخيرة ” حجارة بعصفورين – والأمثلة تضرب ولا تقاس – شاركنا رأيٌ آخر بابن الرومي وقصيدته العصماء، وتذكـّرنا وذكـّرنا بأحد أعمدة الكتاب العرب الكبار المعاصرين، فإنْ نظمَ الأولُ عقده عن قرب زماني وبعد مكاني، وأثنى الثاني وهو أبعد وأبعد، فأنا أكتب عن بصرتنا لفضل التعلم والتعليم والعرفان، وحق الإستضافة والإقامة والإحسان، وواجب الوطنية والقربى والإنسان، فهي أقرب من القريب، وإن كانت أبعد من البعيد !! المهم أنّ القصيدة وإنْ لا تعتبر من مطولات ابن الرومي كهمزياته في عتاب أبي القاسم الشطرنجي (149 بيتا)، وفي الوزير الذي صرعه مسموما القاسم بن عبيد الله (216 بيتا)، وداليته في مدح صاعد بن مخلد (282 بيتا)، ورائيته في رثاء المغنية بستان جارية أم علي بنت الرأس (165 بيتا)، ولاميته العملاقة في مدح وعتاب علي بن يحيى النديم (337 بيتا)، وميميته في مدح عبيد الله بن عبد الله (303 بيتا)، وميميته الرائعة في رثاء أمه (205 بيتا)، ونونيته الفريدة في مدح اسماعيل بن بلبل (231 بيتا) …، نقول إنَّ القصيدة البصرية بالرغم من قصرها نسبة للمطولات الرومية، فإنها تعتبر ملحمة في المقاييس الشعرية، تبلغ أبياتها ستة وثمانين بيتا منضدا، ولكن الأكثر من هذا منزلة وأسمى روعة، إن البواعث للقصائد المشبهة بطولها شخصية، سيان لمصلحة تـُرتجى أو لوجدان يـُرتقى، اما الدوافع في رثائه للبصرة ذات نزعة إنسانية شاملة، انتقل فيها من مجال الفرد الى أفق النوع في زمن لم تكن صورة الوطن مرتسمة في العقل الجمعي الا بالسكن والألفة المعاشة، وقوله الشهير (ولي وطن آليت آلأأبيعه …)، لا يعني فيه الا سكنه ! ثم لم يلجأ فيها للعدل والإنصاف سوى حاكم الحكام، وكفى بالله شهيدا، والقصيدة متماسكة، لايمكن تجزأتها، فليرجع إليها من شاء، ولو اننا نقتطع منها أجزاء للذكرى والوفاء، فيبدأها بالتحسر واللوعة والبكاء:
ذادَ عن مقلتي لـــذيذ المنــام*** شغلها عنه بالدموع السجام ِ
أيُّ نوم ٍمن بعد ما حلّ بالبصـ ****ـرةِ من تلكمُ الهنات العظام ِ
إنَّ هذا من الأمـــورِ لأمـــــــرٌ *** *كادَ أنْ لا يقومُ في الأوهام ِ
لهف نفسي عليك أيّتها البصـــ ***ــرة ُلهفا كمثل لهبِ الضّرام ِ
و يتلهف عليها مرارا، ويعيدها تكرارا، ويعضه إبهامه، ويزداد غرامه على مدى أعوامه، لأنها معدن الخيرات، وقبة الإسلام، وفرضة البلدان، ومن بعد لِمَ لا ؟! وجمعها متفان ٍ وعزّّّها مستضام فيواصل لوصف ما حلّ بها بالصارم الصمصام في مدلهم الظلام، وإليك بعض الصور المأساوية، مع تحفظي على (عبيدهم)!، كما تحفظت من قبل على (العبد) المتنبي، لكلّ زمان ٍ عرفه ودلالته:
بينما أهلهـــــــــا بأحسن حـال ٍ**إذْ رماهم عبيدهم باصطلام ِ
دخلوها كأنهم قطــــــع الليـــــ**ــــل إذْ راحَِ مدلهمَّ الظلام ِ
كمْ أغصّوا من شاربٍ بشراب ٍ**كمْ أغصّوا منْ طاعم ٍبطعامِ
كمْ أخ ٍ قدْ رأى أخـــاه صريعاً **تربَ الخدِّ بين صرعى كرام
كمْ أبٍ قدْ رأى عزيزَ بنيـــــهِ ** وهو يصلى بصارم ٍصمصامِ
كمْ فتاةٍ بخـــــــــاتمِ الله ِ بكــرٍ ***فضحوها جـهراَ بغير اكتتامِ
كمْ فتاةٍ مصونــة قد سبوهــــا **بارزاً وجههــــــا بغير لثـــِامِ
ألف ألف ٍ في ساعة ٍ قتلوهـمْ**ثمَّ ساقوا السّّباء كالأغنـــــامِ ِ
لا تتخيل رجاءً أنني قد جمعت لك كلّ (كمكماته) الخبرية التكثيرية حتى وصلت معه ومعك الى (ألف ألف)، كلا وألف كلا، فابن الرومي يجرّك من يديك، ويدور بك على الضحايا فردا فردا، بيتا بيتا، زنقة زنقة!! حتى يتيقن من أنك قد استوفيت الصورة مندهشا، منحنيا له برأسك، ولا يكتفي بهذا، ولا يهدُّ يديك ! الا وقد تأكد أنّ صوره: ومعانيه استنفدت تماما، لا مطمع فيها لأحد، ولا بقية لباق، فهو ضنين بها، حريص عليها، على حد تعبير ابن رشيق في (عمدته)، وابن خلكان من بعده في (وفياته)، نسيت أن أقول لك عندما ينتهي من (كمكمكاته)، يقذفك بسيل من (رُبّاته)، ولا تذهب بك الظنون انه خففّ الوطأ، ومال الى التقليل بالتغيير، كلا ..إنه يريد أن يمهد لذاكرتك الطريق للإنتقال من البصرة المتدهورة الى البصرة المزدهرة لتقارن وتتأمل باستخدام كلّ الأساليب البلاغية، وليبث خوالجه وعوالجه، ويريد منك أن تربت على كتفه، وتأخذ من خاطره، وتقول له: أحسنت وأجدت، وهو جدير بهما أي جدارة، إقرأ معي:
رٌبّ بيع ٍهنــــــاك قد أرخصوهُ *** طال ما قد غلا على السّوام ِ
ربّ بيتٍ هنـــــاك قد أخرجوهُ ** كان مآوى الضّعاف والأيتام ِ
ويواصل، رُبّ قصر دخلوه، وكان صعب المرام، وربّ ذي نعمة تركوه محالف الإعدام، وربّ قوم تشتت شملهم بغير نظام، ثم ينوح ويولول متسائلا عن بصرته العامرة بـ (أين)، وهو الأدرى بالجواب الصواب، خذ – وقد أدخلك مرغما الى المرحلة الرابعة من فكرته دون أن تدري – أين ضوضاء الخلق فيها، وأسواقها ذوات الزحام ؟ وأين فلك فيها وفلك إليها ؟ .. مكنياً بذلك عن الحركة والإزدهار أيام زمان، وقبل أن تتنفس الصعداء، وتعلق الآمال، يدمج الصورتين، ويخلط اللونين، ويرسم صورا متداخلة، ناطقة بالآثام، صارخة بالآلآم، نازفة الدماء لأجسام مقطعة الأوصال، حُشيت جروحها بالرمال، ويستعير الذل والهوان، ليكني بهما عن النعال تشبيها (استعارة مكنية)، ويقابلهما بالتبجيل والإعظام، ولكن نشرع ببُدلت:
بدّلت تلكم القصــــــور تلالاً ****من رمادٍومن ترابٍ رُكـــــامِ
وخلت من حُلولها فهي قفـــرٌ **لا ترى العين بين تلك الأكام
غير أيدٍ وأرجل ٍ بائنـــــاتٍ *** نُبذت بينهنّ أفلاق هــــــــــام
ووجوه ٍقد رملتها دمــــــــاءٌ * بأبي تلكم الوجـــوه الدوامــــي
وُطئت بالهوان والذل ّ قسراً **بعد طول التبجيل والإعظــــام
لماذا هذا التصعيد يا شاعرنا، وقد قلبت صفحة من قبل ؟، ربما – لو كان حيا – سيجيبني ويجيبك: ما لكما كيف تحكمان، إن كنتما ذوي إلمام ِ؟!، ويشير بأنامله العشر الى المسجد الجامع قائلا:
فأسألاه ولا جواب لديـــــــه ***أين عبّادهُ الطوالُ القيـــــام ِ؟
أين عمّـاره الأولى عمّــروهُ ***دهرهم في تلاوةٍ وصيـــــام ِ؟
أين فتيانهُ الحســان ُ وجوهاً **أين أشياخهُ أولو الأحــــــلام ِ؟
كم خذلنامن ناسكٍ ذي اجتهادٍ***وفقيهٍ في دينــــــــــــهَ علاّم؟
إذا تجاوزنا الطباق الأيجابي في البيت الأول (فأسألاه ولا جواب)، وهذا المضاف (الطوالُ) المعرف بتعريفين، الألف واللام والإضافة، وهو مغتفر، ويكثر منه ابن الرومي، أقول إذن شاعرتا صعد لغته، وأعاد كرّته، ليشجب موقف المتخاذلين، وصمت المجتهدين، ويحث المتقاعسين عن نصرة المظلومين، ويحيل الأمر لرب العالمين:
واحيائي منهم إذا ما التقينا ***وهم عند حـــــاكم الحكـّـــــام ِ
أي عذر لنا ٍوأيّ جـــواب ٍ***حين ندعى على رؤوس الأنام
القصيدة قصيدة، وابن الرومي ابن الرومي، وبهذه العجالة، لم نزد من قيمتها شيئا، ولم نرفع شأن صاحبها مقاما، إنها مجرد نظرة عابرة بلمحة خاطفة، تذكرنا فيها بصرتنا الرائعة في أيامنا الضائعة، والذكرى نافعة، والله من وراء القصد، وكفى بالله شهيدا، وكفى !!
……………..
المصادر
(1) الطبري:تاريخ الرسل والملوك -ج 3، 4، 7 -دار المعارف بمصر – القاهرة 1970 م
(2) تاريخ اليعقوبي – ج 2 – دار الشريف الرضي -قم 1414 هـ
(3) الحموي: معجم البلدان – ج ا – دار صادر – بيروت – 1957م
(4)علي.. محمد كرد: خطط البصرة – المجمع العلمي العراقي – بغداد – 1986م
(5) يعقوب سركيس: مباحث عراقية – بغداد- 1957 م
(6) د . مصطفى.:… صلاح عبد الهادي:البصرة في العصر العباسي الأول – موقع الكتروني
(7) الاسدي ..كريم مرزة: تاريخ الحيرة..الكوفة …الأطوار المبكرة للنجف الأشرف – النجف –
2007 م
يا بصرة َالبصائرِ النائحة
لكِ الله يا طيبة البلدان !! وإليك مني هذه الأشجان، من (البحر السريع) على السريع، وفاءً وعرفانْ، للعلم والأيام والأوطان:
يا (بصرةَ) البصائرِ النائحة
إليكِ منـّي هذه النـــــافحة ْ !:
عقباكِ مأســـاة ٌ على حالِها
“مـا أشبهَ الليلة َ بالبارحة ْ “!
ليسَ لكِ غير عيــــــون ٍترى
خيراتكِ منْ أرضكِ طافحــــة ْ
لم تبقَ َأمُّ السعفِ في غــ،، ابةٍ
ولا نرى في ساحةٍ (ناطحة ْ)!
كمْ منْ خرابٍ ودمــــارٍ ٍمضى
والناسُ في أحــزانِها سـارحة ْ
قدْ أضمرَالدهرُومـــــنْ سخرهِ
لكلِّ نطـّاح ٍ لــــهُ نـــــاطحهْ !!
إنْ شتـّتَ الشّــملَ هوى عابثٍ
في وحدةِ الجمعِ القـوى ناجحة ْ
كمْ صــــــــالح ٍ ضيّعهُ حرصُهُ
فزجَّ فـــــــــي صـــالحهَ طالحه ْ
قرّتْ عيــــونُ الناسِ في حلمِها
ولـّتْ دياجيرُ الدَجى بارحـــــة ْ
لا خيَــــــــــبَ اللهُ لـــكِ نهضـــة
بُشراكِ فــي طيوركِ الســـــانحة ْ
فقدْ حكى التجريب ُفــــــي لطفِها
ذات عقــــــول ٍ بالنهى راجحــــة
لا تجزعي ســــلواكِ في حكمـــــةٍ
دنيا الورى غـــــــــــاديةٌ ٌ رائحة ْ!!