زيارة الرئيس مسعود بارزاني إلى بعشيقة عشية تحريرها مما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية داعش، وخطابه الذي أثار الكثير من ردود الأفعال، وكشف النقاب عن كثير من الألغام والعبوات السياسية الناسفة، التي اعترضنه عسكريا وتحاول الآن اعتراضه سياسيا، ولعل أكثرها امتعاضا تلك التي أوردها أحد قادة المجلس الأعلى في حسابه على الفيس بوك، علما بان مجلسه هو الأكثر قربا من البارزاني وأطروحاته على خلفية الخلاف المعروف مع حزب الدعوة وجماعة المالكي، ذلك المنشور الذي اعتُبر تهديدا للإقليم وتأكيدا لتصريحات سابقة لبعض قيادات الميليشيات المذهبية المنضوية تحت عباءة الحشد الشعبي، والتي تهدد دوما بأنها ستذهب إلى اربيل أيضا تحت شعار ( قادمون يا بعشيقة )!؟

 

    ورغم إن الإقليم والبارزاني تحديدا يتعرضون إلى هجمة عنيفة من قبل مجموعة المالكي وحلفائهم إقليميا منذ سنوات، وداخليا ممن استطاعت أصابعهم الوصول إليهم عبر الجدار الداخلي على خلفية عدو عدوك صديقك التي انشأ مدرستها الأولى نظام البعث في جحافله الخفيفة هنا وهناك، إلا أن البارزاني بتجربته المعهودة وحنكته السياسية واطلاعه الدقيق على مجريات الأحداث وشخوصها، نجح في تجاوز اخطر حملة عسكرية واجهت الإقليم عبر تاريخه المعاصر، منذ اندلاع الحركة الثورية الكوردستانية مطلع ستينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا، وذلك في التصدي لهجوم منظمة داعش التي استهدفت عاصمة الإقليم اربيل مطلع آب أغسطس عام 2014م، ونجحت في احتلال مدن سنجار وزمار ومعظم سهل نينوى ومخمور والحويجة وتقدمت باتجاه خانقين وبلداتها، وكأنها ترسل رسالة إلى زعماء كوردستان، بأنها لن تسمح بتطبيق المادة 140 التي تنظم دستوريا عودة هذه المناطق إلى إقليم كوردستان، والتي عملت السيدة حنان فتلاوي القيادية المقربة من نوري المالكي وكتلته وحزبه على تأخير وإيقاف تطبيق تلك المادة حسبما أعلنت ذلك في وسائل الإعلام.

 

     ربما كان اللغم الأول الذي زرعه نوري المالكي في طريق تقدم الإقليم وازدهاره جاء بالتزامن مع السماح لتنظيم الدولة داعش باحتلال الموصل وذلك بقطع حصته السنوية من الموازنة لإرباك الإقليم اقتصاديا، وإغراقه في فوضى عارمة، لكن ما حدث غير ذلك تماما، حيث نجح البارزاني في إدارة الأزمة سياسيا ودبلوماسيا، واستطاع احتواء هجمة داعش التي امتلكت مئات الدبابات والمدرعات ومختلف الأسلحة والذخيرة من جنرالات نوري المالكي في الموصل وتكريت والانبار، حيث تمكن الإقليم وقواته المسلحة من احتواء الغزو وصده، ومن ثم وفي اقل من سنة استطاعت  قوات البيشمركة بالتواجد الميداني الدائم للبرزاني ومعظم أفراد أسرته في خطوط المواجهة المتقدمة مع العدو، بما أعطى نموذجا متفردا في قيادة الحرب ورفع معنويات المقاتلين الذين نجحوا بأسلحتهم المتواضعة من تحرير مدن سنجار وزمار ومخمور وسد الموصل، بل وضربوا طوقا على داعش في الموصل وتلعفر.

 

     إن حقل الألغام الذي يواجه البارزاني كزعيم وطني وقومي، والإقليم كمشروع حضاري، يخفي العديد من العبوات الناسفة سياسيا بعد أن نجح عسكريا في تفجير وتجاوز تلك التي واجهته في الحرب مع أعتى قوة للإرهاب في التاريخ المعاصر، هذه الألغام زُرعت من قبل خصومه سياسيا في الداخل والخارج، في إقليم يعمل هو ورفاقه من الزعماء الكوردستانيين على انجاز استقلاله، ولعله من أهم تلك الألغام بعد مواجهته لداعش هو تجمعات اليسار المتطرف حد الانحراف والفاشية التي تعمل على إشاعة الفوضى مستغلة مساحة الحرية، وأمراض المناطقية التي تنمو فيها وتعمل من خلالها، وهي بالتالي تمثل ما كان يسمى في الإقليم قبل استقلاله الذاتي في 1991م اصطلاحا ( الجاش ) والذي يعني مجاميع من الموالين لأنظمة الحكم في بغداد والمنفذين لإراداتهم، ومعظم تلك المجاميع لا تتجاوز مساحات رؤيتهم وتفكيرهم مناطق سكناهم وعشائرهم، وبالتالي فهم اقرب ما يكونوا للبداوة السياسية التي لا تتوانى عن استخدام أي وسيلة لتحقيق مأربها، خاصة وإنها تهدد دوما باستخدام العنف كما فعلت في مظاهراتها التي استهدفت مكاتب ومقرات سياسية، والهدف في ذلك دوما تشتيت الإقليم وتجزأته، كما حصل في استقبال نوري المالكي وحنان فتلاوي العدوين اللدودين للإقليم وطموحات شعبه، أو تقديم مشاريع للحكومة الاتحادية تشجعها على التعامل مع محافظات الإقليم بشكل مستقل عن مؤسساته الفيدرالية، بما يحقق لها ما كانت تصبو إليه في إنشاء فيدرالية المحافظات لطمس معالم الإقليم وإنهاء مشروعه.

 

     لقد حاولت تلك القوى استخدام ما يسمى بالربيع العربي كعبوة ناسفة باستنساخ الكوارث التي ألمت بشعوب سوريا ومصر واليمن وليبيا، ومحاولة تطبيقها بشكل ببغائي، في إقليم يتبع دولة اتحادية تمارس تداول السلطة من خلال صناديق الاقتراع، بشعارات سطحية انفعالية تستثير فيها مشاعر العامة من الأهالي، وهي في معظمها شعارات تخديرية لا تمت بأي صلة لواقع الإقليم، وما يتعرض له من تحديات خطيرة، لإيقاف مشروعه في تحقيق حلم ملايين الكورد في الديمقراطية والاستقلال، حيث نجحت في زرع الكثير من الألغام والعبوات السياسية على خلفية تلك الثقافة التي تعتمد داعشية التطرف في العمل السياسي ومن أبرزها:

   الفساد المستشري في كثير من مؤسسات الدولة والأحزاب ومفاصل قياداتها التي تحولت إلى حيتان.

   استثمار تداعيات الأزمة المالية وحالة الحرب مع داعش خارج مفاهيم المصالح العليا للوطن والشعب، بما يربك الوضع النفسي للأهالي وإشاعة الإحباط والاستكانة.

   محاولة تقزيم الإقليم بشعارات لا تختلف عن تلك التي كان يرددها صدام حسين لإشاعة روح اليأس عند الأهالي وإبعادهم عن أهدافهم التاريخية.

   استخدام إعلام دعائي يعتمد القصص المفبركة والتشكيك في كل الحقائق لإشاعة بيئة لفقدان الثقة وفوضى الأقاويل.

   استخدام الأطفال وقطاع التربية والتعليم لتنفيذ برنامج التخريب الاجتماعي لإيقاف مسيرة التقدم وتعطيل عمل المدارس والجامعات.

        استخدام المواقع الرسمية في البرلمان والحكومة لتقزيم واهنة هيبتهما.

 

     ربما هناك الكثير من الألغام الأخرى، لكن البارزاني بشفافيته المعهودة اختزل الموقف برمته من كل هذه التحديات وحقول الألغام قائلا بصراحة نقية وواثقة:

 

” كما تمكنت الپێشمه‌رگة من رفع جميع ألغام داعش التي زرعها على طرق وارض كوردستان، أقول بثقة إننا نتمكن من رفع جميع تلك الألغام السياسية التي يزرعونها في طريقنا، افعلوا ما تشاؤون فنحن ماضون ومصرون على السير في طريقنا”.

 

     والذين يعرفون البارزاني يدركون جيدا انه يعني ما يقوله، بل ويفعل ما يقول!