أكاد أجزم أنّ شيركو بيكس قد مضى مع الموت إلى عالمه المجهول لأنّه استطاع أن يصنع من الموت قصيدة جميلة،وأن يرى في رحيله حلولاً أبديّاً في الذّاكرة والوجود والفكرة،ولابدّ أنّه صنع من مرضه مع السّرطان أيقونة جميلة في روحه وفي قصيدته،وما كان استسلامه لهذا المرض الخبيث إلاّ مناورة وجوديّة منه في سبيل بناء ترنيمة فرح في تجربته الزّاخرة بالحزن الذي اعتاد أن يتعاظم عليه،وأن يقهره بحبّه للحياة وبإيمانه بعدالة قضاياه،هكذا هو شيركو بيكس؛فهو رجل سيرته وقصيدته تقولان بأعلى صوتهما الخالد إنّه رجل استطاع أن يغزل من الحزن رداء فرح كوني حنون،وإنّه اعتاد على أن ينتصر للجمال على هزائم الحياة وعلى قبائح الوجود،وعلى شرور البشر.
هو فنان أخلص لفنّه ولقصيدته التي وهبته الخلود،وحفرت اسمه في سِفْر العظماء،ولخّصت رحلته الطّويلة من المهد إلى القصيدة إلى الثّورة وصولاً إلى الجمال الأبدي في كلمتي:الثّورة والجمال.
لا أستطيع أن أزعم بأنّ معرفتي بهذا الجبل الكردي العتيد المسمّى شيركو بيكس قائمة على معرفة قريبة ومعاينة مباشرة أو مجايلة أدبيّة أو مزاملة في درب الثّورة،وليت الأمر كان ذلك،ولكن الحقيقة أنّني لم أحظ بمقابلة هذا العملاق الشّعري والإنسانيّ سوى ثلاثة مرّات في حياتنا،كانت آخرها في فعاليات مهرجان كلاويز السّادس عشر للعام 2012 في السّليمانية حيث انتفض كصقر مزهو وهو يقرأ على جمهور المهرجان آخر قصائده الحداثيّة المبنيّة على سرديّة الومضة،كان المتحدّث بضمير الشّعب الكردي،النّابض بحسّه،المحمّل بتجربته ومعاناته،الموغل في الإيمان بقضيّته،عندما يتحدّث بالمفرد يقصد الكلّ،وعندما يبتعد يكون في أقرب حالاته من القرب،وعندما يلغز يكون مجاهراً مواجهاً متحدّياً،وكان لي شرف الوقوف في مضماره،وإلقاء كلمة الوفود العربيّة المشاركة في المهرجان الذي ترنّم على كلماته،وحلّق مع أشعاره.
إذن معرفتي الحقيقيّة والأصيلة به كانت عبر كلماته وأشعاره ودواوينه،هي علاقة بدأت بسلسلة دراسات عن تجربته الشّعريّة، كان آخرها دراسة نقدية لي بعنوان” الرؤية والتشكيل عبر الومضة الشّعريّة في قصيدة”سبعون نافذة متجوّلة”،وانتهت بتكوين قناعة نقديّة مكرورة ومسبوقة من جيل نقدي كامل يؤمن بأنّ شيركو بيكس هو مدرسة خاصّة في تاريخ الشّعر الكردي والتاريخ النضالي المؤمن بعدالة قضيته،فضلاً عن أنّه علامة في الشّعر العربي الحديث،إلاّ أنّه ظلّ مخلصاً للغته القوميّة وكتب جلّ دواوينه التي بلغت 35 ديواناً باللغة الكردية،وإنّما ما وصل من شعره إلى المتلقّي العربي كان مترجماً تماماً كما وصل شعره إلى كلّ الدّنيا بالترجمة التي طارت به إلى كلّ مكان،وأنزلته مكانه الذي يستحقّه في ضمير العالم ووجدانه وذاكرته،وجعلته علامة في تاريخ الإبداع الإنساني،وأهّلته لأن يحصل على كثير من الجوائز العريقة،مثل:جائزة توخولسكي،وجائزة بيره ميرد،وجائزة العنقاء،حتى أنّه قد تمّ تداول اسمه للحصول على جائزة نوبل التي ماحُرم منها إلاّ لاعتبارات سياسية معلومة للجميع.
وغني عن الذّكر أنّ شاعراً بهذه القامة يجعلنا أمام تجربة هي معين لا ينضب للباحث والدّارس والمتلقي،وهي تجربة غير منتهية الظلال والرؤى والزّوايا والمرامي،والمئات من الدّراسات في هذا الشأن خير دليل على أن تجربة بيكس تجربة عريضة ضنينة على الانحسار أو الاختزال أو الإحاطة،ولعلّ الانتصار للجمال هو القاسم المشترك الأكبر في هذه التجربة،وهو أداة التشكيل السّحريّة التي بعثت الحياة في شاعريّة بيكس،وقدّرت الخلود لقصائده وكلماته،فكان الجمال هو الهدف والغاية والطّريق والأداة في التجربة الشّعريّة عنده،بل لعلّه كان المحرّك الحقيقي لكلّ حياته ومعاشه وتجربته وقراراته ودربه ونهجه،وهذا الجمال يتسع ليصبح إيماناً راسخاً بكلّ معاني العدل والإخاء والمحبّة والسّعادة والإبداع،وعدالة قضيّته الكردية كانت الأتوان الذي انبثقت عنه هذه الرؤية للحياة،فانساق يدافع عن حقّه و حق شعبه في الأرض والعدالة والاحترام،وانخرط بالعمل السياسي في الحركة الكردية منذ منتصف الستينات،ثم بعد انهيار الاتفاق المعروف باتفاق 11 آذار التحق ثورة الجبل،وعمل في إعلامها،ومتح من معاناة شعبه في خلق أجمل القصائد الشّعريّة الرافضة للظلم،والمجسّدة للاستبداد والقهر الذي تعرّض له الشّعب الكردي،ولعلّ قصيدته”رسالة إلى الرّب” التي كتبها عن القصف الكيماوي الغاشم الذي تعرّضت له مدينة حلبجة عام 1988 هي أبرز الأمثلة على شعره الوطني الذي كرّسه لسنين طويلة ممتدّة لكرديّته المظلومة المُعتدى عليها،وديوانه “مقبرة القناديل” الذي وُلد من رحم جريمة الأنفال هو مثال شعري يتكلّم بلسان كلّ كردي تجرّع الظّلم،ليقول:
“يالون الموت
انتظرني في نقطة مندهشة
كاندهاش بلادي أمام تاريخ السكاكين”
ونستطيع القول إنّ شيركو بيكس استطاع على الرّغم من معاناة شعبة و معاناته الشّخصيّة التي تمثّلت في المقاومة في الجبال والمطاردة والإقامة الجبريّة والمضايقة التي أجبرته على طلب اللجوء السياسي من السّويد أن يظلّ مسكوناً بحلم خلق الأشياء الجميلة،والانتصار لها رغم الإكراهات الحياتيّة والواقعيّة،ولذلك قد تبنّى اللغة الاستثنائيّة الرقيقة الموحية الأنيقة ذات المعجم الدلالي الخاص من أجل الوصول إلى هاجسه الفكري الإنسانيّ،وهو الجمال في كلّ أشكاله ابتداء من الوطن مروراً بالإنسان انتهاء بالأشياء والجمادات والصّور والرؤى والقناعات،ولذلك كان انتصاره ابتداء للحداثة في الشّعر الكردي الذي رأى فيها طوق نجاة من الرتابة والقيود،وجواز سفر نحو إنسانيته وأفكاره وأحلامه،وذلك منذ أن أصدر في مطلع السبعينات مع عدد من الأدباء الكرد بياناً متبنياً للحداثة حمل اسم”بيان روانكه المرصد” بمسوّغ فتح آفاق أرحب للإبداع الكردي في فضاءات جديدة.
وشعر شيركو بيكس ينطق بفلسفته الحياتيّة والجماليّة والفنيّة التي أجملها في قوله:” لنكن دائماً أصدقاء للمحبّة الشّعريّة،ولنكن دائماً بجانب الشعوب المضطهدة،وأن نكتب بدمائنا وأرواحنا؛فالإبداع لا يأتي من فراغ،والأشياء الجميلة قليلة،وأنا أعتبر نفسي أحد الشعراء في هذا العالم وأريد أن أتواصل بحبّي مع الآخرين خارج المألوف،وبنفس الوقت أعتبر نفسي مسؤولاً عمّا يجري في هذا العالم”.
ومن هذا المنطلق الفلسفي للحقائق والجمال يرسمنا لنا عوالم شعره إذ يقول:
“لا مَثيلَ لِلَوحَتي…
فَقَدْ رسمتُ الخريرَ… لا المَوجة
رسمتُ هيبةَ الجبلِ… لا الجبَلْ
ابتسامة الطفلِ… لا الطفلْ
بُكاء الخُبزِ… لا الخُبرْ
صُراخ الحجرِ… لا الحجرْ
رسمتُ حُب حبيبتي
وليس حبيبتي!”
وهو يؤثّث كلّ تفاصيل حياته وتجربته بالجمال الذي يراه جزءاً من حبيبته الوطن التي رافقته في كلّ مراحل حياته،وكانت إلهامه المستمرّ في درب حياته:
“هذا الخريف روائي عبثي
كل مرة حين ينهي فصلاً أو فصلين أو ثلاثة
من روايته
ينفعل فجأة في منتصف ليلة ما
ويرمي بها بعيداً
ثم يمزقها صفحةً صفحة
ويطلقها للريح
انظر إلى ذاك السهل
إلى الخيال المنثال
وأوراق الكلمات المرتعشة
وصفحات الأنفاس الممزقة
ومقاطع الظلّ
والعبارات المجمَّدة
كلها ذاوية ومتساقطة
أنظر إلى ذاك السهل
الوقفة الأخيرة: اقتفيتُ آثار خطى الكلمة
فبلغتُ قِمّة الخيال
اقتفيتُ آثار خطى الخيال
فارتقيت سماء الشِّعر
اقتفيتُ آثار خطى الشِّعر
فوصلتُ سِحر الجمال
ولما اقتفيتُ آثار خطى الجمال
سكنني جمالكِ
فمكثتُ هناك!”
ويظلّ يحلم بالنّهايات الجميلة واللحظات الحنونة على الرّغم من كلّ قسوة الحياة،فيقول في ومضته الشّعريّة “الزّواج ببحيرة أرملة”:
“بعد الحربِ
وعلى صهوة غيمةٍ بيضاء
سافرَ لحنٌ وشعرٌ وقصةٌ معاً
لزيارة بُحيرةٍ أرملة
نزلوا بخيوط المطرِ فوقها
تمشَّوا مع الريح حتى جدائلِ البُحيرة
صنع اللحنُ من الحُبِّ سماءً جديدة
صارت القصةُ طائراً بجناحين كبيرين
وطارت في السماء الجديدة
صار الشعر أُفُقاً فتياً
وفي أولِ أيام نوروز
تزوجَ من البُحيرة الأرملة
والانتصار للجمال يفرض على بيكس أن يلعن المجرمين بحقه كلّما نزلوا في ساحة الشّعب المضطهد،ويسميهم اللصوص دون وجل أو مواربة:
“على مرأى من السماء
سرقوا الغيم
على مرأى من الغيم
سرقوا الريح
على مرأى من الريح
سرقوا المطر المدرار
و على مرأى من المطر
سرقوا الثرى
و في الثرى
دفنوا العيون التي شهدت اللصوص! “
وهو يندّد بكلّ مجرم بنى وجوده واستمراره على دماء الأبرياء،فيقول في ومضة “ضابط عادي”
“عندما منحوه كوكبة واحدة
كان قد قتل كوكبا
و عندما صارتا اثنتين
صارت يداه حبال مشانق.
و عندما صارت ثلاث كواكب
ثم تاجاً و ما فوق
استيقظ التأريخ
فوجد البلاد
مملكة أرامل! “
ولابدّ أنّه يجعل القضية الكردية وصمة عار في جبين التاريخ والإنسانيّة التي تغضّ الطّرف عن معاناة الكردي في وطنه وعلى أرضه :
” جاء التاريخ
وقاس قامته بقامة أحزانك
كانت أحزانك أطول
وعندما أراد البحر
أن يقيس عمق جراحاته
مع جراحاتك
صرخ
لأنه كاد أن يغرق فيك”.
وعندما تحار كلماته فهو يترك للقصيدة أن تصبح عملاً وجدانيّاً جمعيّاً،ويسمح للمتلقّي أن يصبح معادله الموضوعي،وينتج ما تعذّر عليه أن ينتجه:”
“و في هذه اللحظة
حائرة هي كلماتي
أتكمل هذه القصيدة؟
أم تتركها لكم؟!
فلأتركها لكم!! “
ويظلّ على الرّغم من حيرته في هذا العالم المتوحّش القاسي يحمل في جنباته سرّ الجمال الأعظم،وهو الحبّ بكلّ معانية وتجلياته التي تتسع لتصبح صيغة حياتيّة كاملة،فيقول في “احتراق”:
“على سلالم الخوف
كان الظلام ينزلق كلص بهدوء
إلى أعماقي
و لما وصل إلى السويداء رام شيئا ما
و على حين غرة
أشعلت حبك
فاحترق الخوف و الظلام فيه”.
نعم هو الحبّ الذي يراه بيكس سرّ الأسرار،ومنقذ الأرواح:
” تدخل روحي و لست شعاعاً
تدخل جسدي, و لست دماً.
تدخل عيني, و لست لوناً.
تدخل أذني, و لست صوتاً.
إنما..
أنت.
سر الحب!.”
والحبّ الأعظم في عرفه وتقديره هو حبّ الحرية التي تسمح للإنسان بأن يعيش إنسانيته بكلّ كرامة واستحقاق:
” وضعت أذني على قلب الأرض
حدثني عن حبه للمطر
وضعت أذني على قلب الماء
حدثني عن حبه للينابيع
وضعت أذني على قلب الشجر
حدثني عن حبه للأوراق
وعندما وضعت أذني على قلب حبيبتي
حدثني عن الحرية!”
ومن يحارب الحقّ،ويتجنّى على البشر،ويحرمهم حقوقهم الطّبيعيّة في أن يعيشوا في أرضهم،فهو لا بدّ أن يواجه كلّ الشّرور والمآلات السوداء:
“عندما تعطش جدولا
تجرح قلب النهر
عندما تأسر شعاعا
تثير غضب الشمس
عندما تجرح الشمس
تجعل الدم عدوا لك”
ومن يصبح الدم المضيء عدوا له
يقتله الظلام”
إذن الحكمة المنشودة عند بيكس هي الجمال بكلّ تجلياته؛فالبحث عن الحقيقة يصبح جمالاً،والعدل هو جمال أيضاً، والحبيبة هي جمال،ولرّبيع في الوطن هو جمال،والدّفاع عن الوطن هو جمال،والحلم بغدٍ أحلى هو جمال،ومن يخطئ الطّريق إلى الجمال فقد تاه عن معنى وجوده،وابتعد نحو الموت:
“بحث فم الشاة الصغير عن الحكمة فلم يجدها
بحثت الشاة الصغيرة عن القطيع فلم تجده
آه.. وضيعت طريق العودة إلى النبع ايضاً!”
وبهذا الجمال ينتصر حتى على الموت الذي يهزأ منه،ويراه صغيراً أمام العطاء،وأمام عظمة الشّعر:
” لا تحزني أيتها الفراشة
لعمرك القصير
لأنك وفي الغمضة تلك
منحت طولاً لعُمر الشعر
لم يعطه حتى “نوح
فلا تحزني… أيتها الفراشة”
وبهذا الإيمان بجمال الشّعر وعظمته يغادر بيكس سريره في مستشفى في العاصمة السويديّة ستوكهولم،ويمضي في يوم 4 آب الموافق للعام 2013مع الموت بكلّ رضا واستسلام وسكينة بعد صراع طويل مع مرض السّرطان الذي سمح له بأن ينتصر عليه راضياً مرضيّاً ليدخل في برزخ الحقائق،ويخلّد في سدرة الملهمين،ويضع ألف زهرة وزهرة على قبره بخلاف ذلك النّساج الذي كان يرثي لمصيره وحتفه دون زهرة:
“قصة رجل
نسج النساج
إلى مماته
نسج السجاد و نسج الورود
و لكنه في النهاية
لم يملك لنفسه سجادة
و لم يضع احد
على قبره
وردة”
ولأنّه يحبّ الحريّة والأرض وكردستان والفضاءات الجميلة الحرّة المزهرة فقد طلب في وصيته أن يُدفن في حديقة “باركي ئازادي”/ساحة الحريّة إحدى المتنزهات الكبيرة وسط السليمانيّة،لتظلّ روحه تلهو في أرضه التي أحبّها،وتتغنّى بقوله:
“يا لورا لا تنسي كوردستان لا تنسي كوردستان يا لورا“