د. احمد الميالي:
يعيش العراق حاليا ازمة اندماج حقيقية، نتيجة عجز النظام السياسي عن بناء الدولة الوطنية، وتفشي الاحساس بعدم الرغبة في العيش المشترك بين الجماعات المشكلة للمجتمع.
ويرجع عجز النظام السياسي العراقي عن تحقيق أدنى مستويات الوحد الوطنية الى عدد من الاسباب، اهمها: الفساد والتحزب والمحاباة لجماعة على حساب الجماعات الاخرى، مما ادى الى اضعاف قدرة النظام السياسي التوزيعية على الفرقاء ولو بالحد الادنى بمطالب مختلف الجماعات المشكلة للمجتمع العراقي.
كما تواجه الوحدة الوطنية في العراق تحدي التدخلات الخارجية، الذي بدأ يأخذ صيغا واشكالا مختلفة ولأسباب تتعلق بمصالح القوى الدولية والاقليمية المؤثرة في النظام الدولي.
لقد التقت عوامل التدخل الخارجي مع العوامل الداخلية التي يعيشها نمط النظام السياسي العراقي، بشكل ادى الى عرقلة نمو وتطور الدولة الوطنية، لصالح تصورات تقسيم العراق الى كيانات ضعيفة غير قادرة على الفعل في المحيط الخارجي والداخلي في استيعاب الفعاليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتنظيمها في اطر فاعلة لبناء الدولة.
وتمثل الاحزاب السياسية عموما نسقا فرعيا مهما في النسق السياسي في اي سلطة ومجتمع ودولة، ويفترض بالأحزاب السياسية ان تمثل كل الطبقات الاجتماعية ذات المصالح المتعارضة وتؤكد عليها عبر نشاطها الحزبي ومن الاستثنائي ان تدعي الدفاع عن مصالح شريحة واحدة من السكان او طبقة اجتماعية واحدة او مكون واحد.
الاحزاب السياسية في العراق، لم تنشأ بعيدا عن الولادات الدولية وخصوصا الطائفية منها، كما انها غالبا تتأسس على اساس الشخصيات لا المبادئ، وتظل في حدود رؤيتها الخاصة بها محاولة استثمار الخصائص الكارزمية لقياداتها من اجل استقطاب الجماهير لغرض تحقيق المصالح الحزبية هذه الاحزاب المشكلة بهذه الطريقة لا تكون المحاصصة فقط، بل انها تشكل بيئة مؤاتيه للفساد.
التحالف الوطني هو جزء من النظام السياسي والحزبي في العراق ويتحمل المسؤولية الكبرى في مواجهة التحديات التي تواجه الدولة والمواطن والمجتمع، كونه الكتلة السياسية الاكبر وفق الاستحقاق الاجتماعي والانتمائي والدستوري.
لكن في ظل التحديات المعاصرة وفي ظل المتغيرات التي عصفت بالعالم والمنطقة والعراق، لا ينبغي اغفال حقيقة ان قدرة التحالف الوطني في الحفاظ على استمراريته ككيان سياسي أصبح صعبا جدا نتيجة حجم التحديات التي تعصف به مؤخرا، ولهذا فأن التحديات او المتغيرات تبقي التحالف الوطني مرتهن بثلاث احتمالات ديناميكية معقدة.
الاحتمال الاول: التفكك والانشطار
فرضيات الاحتمال الاول:
1- ان التحالف الوطني هو تحالف انتخابي وليس مؤسسة سياسية واقعية غالبة على شخصيات وقياداته، كما انه شهد انسحابات سابقة وتعليق عضوية لأكثر من مرة من بعض مكوناته، كما انه في آخر دورتين انتخابيتين دخلت مكوناته الانتخابات بشكل منفصل وحاولت ان تشكل الحكومة بعد الانتهاء من الانتخابات بعيدا عن بقية الاطراف، لكنها لم تنجح، فتحالفت تحالف الامر الواقع، ليكون هدفها ليس تمثيل مكونات الشعب العراقي بعد مصالحه المتوقعة والمتعارضة، بقدر ماكان الهدف الاسمى هو رئاسة الوزراء.
2- تجربة تفككه في مجالس المحافظات عام 2013 بتغيير طبقة التحالفات وتجولها الى صراعات واضحة شهدت تسقيط سياسي واداري لأكثر من محافظ سبقها التفاف واتفاقات فككت التحالف الوطني على مستوى المجالس المحلية، وهذا مؤشر يعطي انطباع مؤكد على انتهاء التحالف الوطني.
مما يؤكد ان التحالف الوطني يبحث عن مزايا خاصة لكل مكوناته بشكل منفصل عن المكونات الاخرى الداخلة ضمنه، كما انه يحاول تعزيز رؤيته الخاصة وتقوية قواعده الخاصة، ناهيك عن هيمنة كارزمية قيادات مكوناته التي تعيش حالة من التنافس والصراع أكثر من حالة التعاون والانسجام.
ينسحب هذا على مسألة الاصلاحات والتغيير الحكومي وتنفيذ اجراءات مكافحة الفساد، اذ لا توجد رؤية موحدة تجاه هذه الامور، بل ان كتلة التيار الصدري علقت عضويتها من التحالف ودعت الى تظاهرات واعتصامات ووصل الحد الى اجهاض العملية السياسية اذا لم تنفذ رؤيتها الخاصة بالإصلاح والفساد والفعل الحكومي.
كما ان موقف مكونات التحالف الوطني تجاه السياسة الخارجية غير موحد، وخطاب التحالف الوطني معاديا لبعض الاطراف وصديقا لبعض الاطراف بشكل مشتت، وتوظف للأسف لخدمة المصلحة السياسية، بل وصلت الاتهامات بين اطرافه نتيجة فتح او قطع العلاقات مع الاطراف الاقليمية والدولية بالعمالة والخيانة والتواطئ، والمفروض عدم معادات الجميع ولابد من تبادل الادوار بين قوى التحالف الوطني دون المساس بالثوابت المتفق عليها.
3- بروز منافس قوي للتحالف الوطني وهو الحشد الشعبي مما قد يحوله الى مؤسسة انتخابية تحمل مشروعا سياسيا موازيا يفوض بقاء التحالف ويجعل بعض قواه تتموضع تجاه الحشد الشعبي.
نتائج الاحتمال الاول:
1- في حال تفكك التحالف الوطني بشكل نهائي فان فرصة تحقيق اغلبية سياسية التي تؤمن رئاسته للحكومة تصبح شبه معدومة، وان تحقق لأحد قوى التحالف الوطني رصيد انتخابي يشكل الحكومة بموجبه خارج التحالف، فأن هذا الطرف سيكون اكثر تقييدا وضعفا من كونه داخل التحالف كمرشح لرئاسة الحكومة، ان لم تسحب منه الثقة في اي وقت ممكن ويخسر التحالف استحقاقه السياسي والانتخابي والاجتماعي.
2- القاعدة الشعبية الممثلة للتحالف الوطني ستكون متأرجحة وستشعر بخيبة امل مما يدعوها الى عدم الاشتراك في الانتخابات تدريجيا مما يضعف فرصهم كقوى خارج التحالف، من تحقيق مكاسب انتخابية، فتكون عملية ضعف ثقة القواعد الشعبية بهذه القوى هي نتيجة تفكك وانشطار التحالف الوطني.
الحلول والتوصيات:
1- عدم اقتصار انشطة القوى السياسية داخل التحالف الوطني على مراهنات وتحركات سياسية او انتخابية محدودة، وانتهاج عمل سياسي مجتمعي ثقافي مستمر ومتواصل وموحد له تأثير وحضور فاعل.
2- تحويل التحالف الوطني الى مؤسسة سياسية عامة ضد التآكل التنظيمي والبنيوي وتقوية محاولات التجديد للقيادات بشكل ديمقراطي وسليم، والحل الامثل يتركز حول بقاء التحالف الوطني وتغيير قياداته وقواه.
3- على قوى التحالف الوطني العمل على تجاوز اوضاع التشرذم والسعي نحو تشكيل قطب سياسي يوجه العمل السياسي فكرا وممارسة باتجاه دعم المزيد من الانماء وخلق فرص التكامل والتحالف والتكتل والتمحور حول توجهات وبرامج ومشاريع سياسية قطبية تستوعب الجميع.
4- الاتفاق على انتهاج سياسة خارجية واحدة، وليس سياسات خارجة عن اتفاق قوى التحالف بتوحيد رؤاهم لتطوير العلاقات مع المحاور الاقليمية والدولية دون تقاطعات حتى لا ينعكس سلبا على أداءهم ومصداقيتهم وامكانية الانفتاح على الكتل السياسية الاخرى، بحيث يصبح التحالف هو القوى الحاملة للميزان وبيمينه القبان (الكتلة الاكبر لوقت واحد).
5- دعم الحركات الاجتماعية وتبني خيارات شعبية على رغبات اطراف التحالف الوطني، مما يسوقه من الناحية السياسية كأفضل مشروع يلجأ اليه الشعب بدلا من الالتهاء بالقضايا الفرعية.
الاحتمال الثاني: بقاء الوضع على ماهو عليه
فرضيات الاحتمال الثاني:
1- ان بروز تقسيمات داخل كل قوى من قوى التحالف الوطني، يعد في السياسات التقليدية مسألة طبيعية، فالحديث عن عدة انواع من اليمين واليسار داخل الحزب الواحد او التحالف الواحد هو مسألة طبيعية، وهذا يعزز ندرة او عدم سقوط الحكومة التي تشكلها مثل هكذا تحالفات، كالتحالف الوطني مثلا، لأن رئاسة الوزراء تعد مسألة وجودية تبقي على مثل هكذا تحالف تقليدي وان كانت هناك انقسامات وتقاطعات حادة لا تصل به الى الانشطار.
2- اندماج القوى في مشروع السلطة عبر هذا التحالف، فبدلا ان تكون اطرافا في المعارضة وخارج السلطة، ابقي التحالف قواه جميعا داخل السلطة رغم تناقضاتها السياسية الجذرية، وسمح لها بتكوين جمعيات ونقابات ومؤسسات استفادت من الحقائق الوزارية لتجذب الجمهور واعطاءها وجود اعلامي لها لكسب المشروعية مما يحقق توازن يمنعهم من الانشطار لكن في اطار تنافس شديد يكرس حالة عدم تحول التحالف الى مؤسسة سياسية مكملة.
3- فوبيا الآخر، وهنا تعتقد قوى التحالف الوطني ان بقاءها على ماهو الحال دون ان تتفكك هو قدرة المكونات الاخرى من ملئ الفراغ واقصاءهم من جديد ووضعهم في سياقات مؤلمة، ولهذا يقرر ما لاتريد الاندماج المطلق فهي لاتريد الانقسام وتحاول ان تحافظ على التوازن بمستواه الادنى داخل هذا التحالف لمواجهة اخطار الآخر الذي تعتقد هذه القوى بأنه انتاج مرحلة ماقبل عام 2003.
نتائج الاحتمال الثاني:
1- يبقى التحالف مكبل الايادي لتحقيق برامجه الانتخابية اذا استمر الصراع المسيطر عليه بهذه الطريقة داخله، سيجعل التحالف غير قادر على افراز اغلبية تحكم وتطبق برامجها واختباراتها، وستلجأ دوما لخيار التوافق والشراكة والسخاء السياسي للآخرين، مع قصور واضح تجاه قواعدهم الناخبة.
2- التحالف الآن فقد قدرته على المبادرة ولذلك سيكون في حالة جمود وهذا سيؤثر على مستقبله ويذهب للاحتمال الثالث (الاندماج) او يتراجع ويذهب الى الاحتمال الاول (التفكك والانشطار) فعليه ان تسعى للمبادرة لاختيار احد الاحتمالات اعلاه.
الحلول والتوصيات:
1- يوجد امام التحالف الوطني فرص محدودة للتحرك نحو الفعل العمومي واهم هذه الفرص او الخيارات تبني المبادرات الفردية بين اعضاءه وقواه، ولاسيما مبادرة الصدر الاخيرة وتعشيقها مع اصلاحات العبادي وانتاجها كمشروع متكامل متفق عليه.
2- الذهاب الى النجف الاشرف لإعطاء فرصة اعادة ثقة المرجعية الدينية بهذا التحالف ودعم هذه المبادرات الفردية كمبادرة الصدر او العبادي وان تتوجه الحكومة الجديدة للعمل وفق نصائح المرجعية الدينية، هذه الفرصة ستسهم في الابقاء على التحالف الوطني موحدا واشاعة ثقافة التوافق داخل البيت الشيعي على الاقل حاليا.
الاحتمال الثالث: الاندماج والتكامل
فرضيات الاحتمال الثالث:
1- النجاح السياسي في تنفيذ البرنامج الحكومي من خلال مساندة التحالف الوطني للبرنامج الحكومي وتأييده المستمر لمشاريع القوانين وتدعيمه للسياسات العامة وتفعيلها وإغنائها، وهذا شيء ضروري ومهم وسيعود بالنجاح للتحالف الوطني، مما سيعود نجاحه الى نجاح الحكومة وهذا يجب ان يشير اليه السيد رئيس الحكومة في حال دعم اصلاحاته وتشريعاته من قبل قوى التحالف الوطني وهذا يتطلب في الاساس اغلبية منسجمة مدافعة عن مختلف سياسات الحكومة وطروحاتها وإجراءاتها وقادرة على ضمان الثقة واستمرارها، مما قد يدفع بقوى التحالف الوطني لإنقاذ نفسها من السقوط او التفكك او التراجع الشيعي.
2- الضغط الشعبي المتصاعد والرافض للفعل السياسي بشكل عام قد يوحد قوى التحالف الوطني، مما يدفعه للتناحر والتقاطع من اجل المناصب والمواقع والمصالح التي توفرها لها المشاركة في الجهاز التنفيذي، وهذا الفعل سيمكن التحالف الوطني من ربح معركة استعادة ثقة المجتمع ورصيد دعمه الذي اضاع من الكثير، كما سيمكنه ايضا من كسب العمل الحكومي، المزيد من المساندة الشعبية والمصداقية في هذا الاتجاه.
3- تراجع النفوذ الايراني على اطراف من التحالف الوطني، ليس عامل ضعف وارباك باعتقادي، بل من الممكن ان يجر العلاقة بين اطرافه من خلال سياسة تصفير الاوزان داخله، ويساعد على اعادة الاصطفاف الحزبي ويسوقه كمؤسسة سياسية وطنية باعتبار تميزه بمقبولية عراقية من كل الاطراف مما يقويه ويجعله مشروع اندماج سياسي مهم مستقبلا.
نتائج الاحتمال الثالث:
1- تحول التحالف الوطني من مظلة للأحزاب والقوى الشيعية الى تحالف وطني عراقي ينفتح على كل المكونات والاحزاب الاخرى بشكل حقيقي، مما يعزز اندماجه ونجاح سياساته.
2- اسقاط كل الرهانات لتقسيم العراق والتآمر عليه، وجعل الحلول للازمات داخل الحدود لا خارجه، مما يعزز سيادة الدولة العراقية، ويجعل لها نفوذ خارجي مهم، مما يجعل العراق لاعب وليس ملعب.
3- تقسيم القدرات بين الدولة والاحزاب والمجتمع من رحم ملامح الاستقرار السياسي والاجتماعي في النظم الديمقراطية، وهذا مرهون بوجود تحالف سياسي قوي متماسك ومنسجم ووطني.