ميثاق مناحي العيساوي/مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية
منذ ما يقارب السنة تقريبا شهد العراق حراك جماهيري، وبالتحديد منذ صيف العام الماضي عندما خرجت الجماهير منددة بتردي الخدمات العامة ولاسيما الكهرباء منها، واستمرت هذه التظاهرات بالخروج حتى تحولت إلى الاعتصامات واقتحام المنطقة الخضراء ودخول مبنى البرلمان العراقي مؤخراً.
وحينها وخلال الفترة الأخيرة، كان صوت الإصلاح عالِ، ولا صوت يُعلى عليه، حتى اصبح موضوع الإصلاح والتظاهر حديث الشارع العراقي، وبقدر الحديث عن الإصلاح وإطلاق المبادرات والمشاريع الإصلاحية من قبل الاطراف السياسية، بقدر ما أصبح الحديث عنه بمثابة استهلاك للوقت وحديثاً غير مجدي؛ بسبب تعدد المشاريع الإصلاحية التي اطلقتها اطراف العملية السياسية والقوى السياسية العراقية وفق الرؤية الحزبية الضيقة والتمسك بالأرضية السياسية التي انبنت عليها العملية السياسية بعد العام 2003 وعدم استطاعة تلك القوى مغادرتها، وحتى مع مبادئ ووثائق الشرف التي وقعتها “القوى السياسية” كانت تريد من وراءها تكريس لسلطتها الحزبية وعدم الاندراج خلف موضوع التعديل الحكومي وتقديم كابينة وزارية مستقلة “تكنوقراط”، ليكتسي بعدها موضوع الإصلاح بالفوضى، وعبر عنه كثيرون بـ “فوضى الإصلاح”.
وبعد أن دخل المتظاهرون مبنى البرلمان وخروجهم في اليوم التالي، تبدد الحديث عن الإصلاح والتظاهرات، ليعتلي الوضع الأمني المشهد السياسي والإعلامي، لتأخذ السيارات المفخخة والانتحاريين والعبوات اللاصقة والتعرضات من قبل عناصر تنظيم “داعش” الإرهابي في حزام بغداد والتفجيرات في قلب العاصمة دورها في تبدد الحديث عن الإصلاح والمظاهرات.
فمن تعرضات أبوغريب إلى انفجار مدينة الصدر الأول في “سوق عريبة” وتفجير مدينة الكاظمية، ثم اقتحام معمل الغاز في التاجي، وتفجير اللطيفية وبعدها تفجير مدينة الصدر الثاني (في سوق 4000 “حي أور”) بالتزامن مع الانتحاري المفخخ في حي الشعب وغيرها من الاحداث الأمنية التي اربكت الوضع الأمني والسياسي المرتبك أصلاً بعد فترة الهدوء النسبي في العاصمة بغداد، التي كشفت من جديد عن ضعف المؤسسة الأمنية وغياب العنصر الاستخباري، والتي اعطت انطباع ورسالة قوية إلى الرأي العام العالمي والمحلي، بأن “داعش” ما زالت قوية ومتنفذه في حزام بغداد وباستطاعتها أن تقدم على أي عملية تربوا إليها، وأن أمن العاصمة ما يزال هش وغير مؤمن بالكامل ويمكن لتنظيم “داعش” أن ينفذ أي عملية يخطط إليها.
ولهذا التردي الأمني في العاصمة بغداد ثلاثة تفسيرات، وهي كالآتي:
التفسير الأول: إن تعقد الأزمة السياسية انعكس سلبا على الوضع الأمني، وهي نتيجة طبيعية؛ بسبب الارتباط المباشر بين الوضع السياسي للبلد والملف الأمني، ولكون أن أغلب القيادات الأمنية مرتبطة سياسيا بكتل وأحزاب وشخصيات متنفذة، وبالتالي لا يمكن لها أن تمارس عملها بعيداً عن المشهد السياسي المتعكر، فبالتأكيد ستتعرض إلى ضغوط وممارسات غير أخلاقية تمس شرف المهنة العسكرية، هذا فضلاً عن التداخل بين المؤسسة العسكرية والأمنية وبين الوضع العام للبلد بشكل عام، فالمؤسسة العسكرية ما زالت مسيسه وغير مستقله سياسيا وأمنياً.
ولعل استقدام (رائد شاكر “قائد الشرطة الاتحادية” وعزيز الأمارة ) من المواجهة مع تنظيم “داعش” إلى حماية المنطقة الخضراء بعد عملية اقتحمها من قبل المتظاهرين، يؤشر على عدم حيادية المؤسسة الأمنية وأن كثير من السياسيين لم يكونوا راضيين عن دور القوات الأمنية وعلاقتهم الإيجابية بالمتظاهرين؛ بسبب عدم منعهم وضربهم أو احداث شرخ بين المتظاهرين والقوات الأمنية، لاسيما إذا ما عرفنا بأن الأثنين ( رائد شاكر وعزيز الأمارة) هم على تضاد دائم مع التيار الصدري وأنصاره، وأن استقدامهم لحماية أمن المنطقة الخضراء يحمل كثير من التداعيات والدواعي السياسية، وهذا دليل على التدخل السياسي بعمل المؤسسة العسكرية. كذلك، أن التعامل بانتقائية من قبل رئيس الوزراء والقيادات الامنية العليا في محاسبة المسؤولين الأمنيين عن قواطع العمليات مع الحوادث الأخيرة التي ضربت بغداد يؤشر على هذا الطرح، وعلى الرغم من أن فاجعة مدينة الصدر التي ضُربت بانفجارين متتاليين ومعها تفجير الكاظمية فضلاً عن التفجيرات والتعرضات من قبل تنظيم “داعش” للقواطع الأمنية الأخرى داخل العاصمة، إلا أن المحاسبة لم تطال كل مسؤولي القواطع الأمنية أو كان على أقل تقدير محاسبة المسؤول الأمني لقاطع مدنية الصدر، لكونها المدينة التي ضربت بشكل متكرر وخلال فترة وجيزة، بل تمت محاسبة المسؤول عن قاطع الشعب بالرغم من أن تفجير الشعب كان عن طريق امرأة انتحارية وليست سيارة مفخخة -كما في مدينة الصدر-، ولهذا فأن المشهد الأمني بالتأكيد سيتأثر بهذا المزاجات السياسية التي تضرب العملية السياسية باستمرار، بسبب التداخل بين الأثنين والقناعات الشخصية لدى صانع القرار المعززة ربما بمواقف سياسية شخصية أو حزبية، وتعامله بانتقائية ومزاجية مع الأحداث ومع القيادات الأمنية، يفقد المؤسسة الأمنية مهنيتها وهيبتها، ويجعلها عرضة للخروقات الأمنية المستمرة.
التفسير الثاني: ربما تكون التفجيرات الأخيرة وتعرضات تنظيم “داعش”، في حزام بغداد وتعقد المشهد الأمني، هو بهدف سياسي مقصود، (بعيداً عن نظرية المؤامرة)، وهو لردع اصوات المتظاهرين ومشاريع الإصلاح بعد أن بلغت المظاهرات ذروتها واصبحت الحكومة والعملية السياسية برمتها على المحك في ظل عجز القوى السياسية الخروج عن بوتقتها وأيديولوجيتها السياسية لبلورة مشروع إصلاحي للدولة العراقية وفشل المراهنة على الوقت، لاسيما وأن تنظيم “داعش” أصبح ورقة ابتزاز داخلية وإقليمية، ولهذا لم نسمع في الأيام الماضية عن (تظاهرات وحراك شعبي وإصلاحات وحكومة تكنوقراط وتغيير وزاري أو حكومي)، وإنما كان المشهد الأمني يتصدر الأحداث، كذلك أصبحت عودة البرلمان وانعقاده واقناع النواب الكرد بالعودة إلى بغداد، ونصاب مجلس الوزراء، وقوة تنظيم “داعش” وتهديده لأمن العاصمة وتواجده في حزام بغداد، وانتشار الفصائل المسلحة في بعض المناطق، هي متصدرة للمشهد السياسي والأمني، وهذه جميعها احداث أربكت الشارع والمواطن وكأن مشروع الإصلاح والتظاهر ذهب في طي النسيان، ولعل ما يعزز هذا الطرح كلمة زعيم التيار الصدري “مقتدى الصدر” التي اطلقها بعد تفجير مدينة الصدر الثاني، وأنه لم يدين تنظيم “داعش” كعادته وإنما توعد القوى السياسية بشكل مبطن، وأن هذه التفجيرات هي كنوع من العقوبة على أبناء مدينة الصدر الذين اقتحموا البرلمان، والذي أعطى لها تفسيراً سياسياً فقط.
التفسير الثالث: كما أن المؤسسة العسكرية مخترقة سياسياً ولا تتمتع بمهنية عالية في التعامل مع الأزمات السياسية والأمنية، كذلك هي مخترقة من قبل تنظيم “داعش” وأخواتها، وإلا كيف يمكن للتنظيم أن يسير سيارة مفخخة محملة بعشرات وربما بمئات الكيلوغرامات من حزام بغداد أو من داخلها، وربما بعض الأحيان من محافظات واماكن متاخمة للعاصمة، ويدخلها إلى قلب العاصمة بغداد أو إلى اسواق شعبية في مدينة الصدر مجتازاً كل السيطرات العسكرية والأمنية وأجهزة السونار وسيارات كشف المتفجرات وربما أيضاً سيطرات (k9)!. ولهذا فأن تنظيم “داعش” يستغل هكذا اوضاع وأزمات سياسية لكي يتمكن من الإطاحة بين الحكومة ومؤسساتها الامنية من جهة وبين الشعب الغاضب من الوضع السياسي والأمني من جهة ثانية.
هذه التفسيرات الثلاثة كلاً على حدة أو ربما تكون مجتمعة هي من تفسر تردي الوضع الأمني في العاصمة بغداد، وحتى في بعض المحافظات الآمنة، ليس في التفجيرات الأخيرة فقط، وإنما تردي الوضع الأمني في البلد بشكل عام. وعليه، هناك اعتقاد كبير بأن استمرار هذا الوضع، وتعنت القوى السياسية بعدم المضي بمشروع الإصلاح لن يثني الجماهير المطالبة بالإصلاحات عن تظاهراتها وحقها في التظاهر مهما كلف الأمر، وهذه المرة ربما تكون مختلفة، لاسيما من قبل متظاهري مدينة الصدر الغاضبين، والذين يعدون هذه التفجيرات الأخيرة في مدينتهم على أنها استهداف ممنهج ومخطط له مسبقاً، وأنه كعقوبة على اقتحامهم مبنى البرلمان.
ولهذا على الحكومة العراقية وصانع القرار أن يكون مدركاً لما يحصل وأن يفشل كل المخططات والسيناريوهات المستقبلية بمشروع إصلاحي متكامل وشامل ومتدرج. وعليه يمكن أن نتساءل: هل تردي الوضع الأمني الأخير في العراق هو لمشاغلة الجبهة الداخلية “الإصلاحية” أم أنها نوع من الأساليب الداعشية للوقيعة بين الشعب والحكومة؟
على أي حال بكلا الحالتين هناك تفسيرات ومؤشرات وأراء أخرى، وهناك ايضاً اختراق سياسي وإرهابي للمؤسسة الأمنية والعسكرية في العراق.