منذ الاحتلال الأميركي للعراق ومحافظة الأنبار تعيش وضعا كارثيا لا إنسانيا بكل المعايير والقيم التي عرفتها الإنسانية منذ فجر ولادتها حتى يومنا. فلم يشهد التاريخ مدنا تحاصر وتدمر بكاملها مرة تلو أخرى كمدن الأنبار، لا في حروب طروادة وحصارها فيما قبل الميلاد، ولا روما التي أحرقها نيرون في القرن الأول، ولم تشهد لنينجراد أو موسكو واستالينغراد، ولا برلين في التاريخ الحديث ما شهدته وتشهده محافظة الأنبار ولاسيما الرمادي والفلوجة وما حولها من مدن وقرى خلال عشر سنوات مضت. خراب ودمار، جوع وعري، دم ودموع، غصات وحسرات.
كانت المجزرة والمأساة الأولى مع الفلوجة على يد الاحتلال 2004، في معركتين متتاليتين مع المقاومة الوطنية، بين الأولى والثانية أشهر قليلة، دمرت فيها المدينة تماما، ففي المعركة الثانية ألقيت 170 حاوية عنقودية على الفلوجة خلال اسبوع ناهيك عن الراجمات والمدفعية وقصف الصواريخ من الجو والأرض وقنابل الفوسفور، حيث ضاعف الأميركان قواتهم سبعة أضعاف المعركة الاولى، وشهدت ساحة الأنبار بعدها تصفيات جسدية ومعارك ضارية مع تنظيم القاعدة حين حاول التنظيم إذلال أهالي الأنبار وسلب إرادتهم فانتفضوا وطهروها من فلول القاعدة وعدت منظمة إرهابية، ثم انتفضت الأنبار على حكومة المالكي الطائفية إثر تعرض شبابها لسلسلة إعدامات ومداهمات واختطافات وسجون ومكائد تدبر بليل ظلما وبهتانا، فتظاهر الانباريون مع ست محافظات أخرى وقدموا مطالب عادلة مشروعة، وامتدت انتفاضتهم السلمية اكثر من سنة انتهت باجتياح ميليشيات المالكي مخيمات الاعتصام بالنار والرصاص وحرقها فقتل وجرح المئات، واستمرت الملاحقات حتى دخلت داعش الخط.
داعش لا أصل لها ولا فصل؟ ولا يعرف من أين اتت ولا من يقف وراء تسليحها وتمويلها، وليقولوا أي شيء في داعش، لو لم تكن وراءها دول عظمى ما كان لها أن تعيش وتستمر، داعش نبتة دخيلة خبيثة مسيرة، لا يربطها بأهل الأنبار رابط، واتخذت ذريعة وشماعة، لتدمير الأنبار وإذلال أهلها، فبسببها تهجروا وتشردوا، وعانوا ما عانوا من ويلات البرد والحر في العراء يستجدون الخيام والماء والطعام بذل ومهانة، واليوم تُجْهز الحكومة والتحالف الدولي على ما تبقى في مدن الانبار لتجعل عاليها واطيها، ولا تبقي فيها ولا تذر.
لقد ابتلي العراق بالمليشيات المسلحة، كما ابتلي بقادة سياسيين عملاء تتقاسمهم دول الشرق والغرب العظمى، ودول إقليمية لها اطماع وعلى رأسها إيران، المليشيات تسببت بعلم منها أم غفلة في ضياع سوريا والعراق واليمن وليبيا وتسعى لضياع دول عربية أخرى، المليشيات المسلحة تقدم المبرر لروسيا وأميركا القطبين الأقوى في العالم لجعل منطقتنا مختبر تجارب لأسلحتهم، فهم لا يكتفون بسلب أموالنا وطمس هويتنا ومسخ قيمنا وثقافتنا، واستلاب ولائنا لأمتنا وعقيدتنا وإنما، مسح كل ما هو موجود على الأرض من حجر ومدر، وزرع وضرع، وعقل وفكر!
لم نسمع من قبل أن من يريد تحرير مدينة غالية وعزيزة فيها مليون نسمة يدمرها عن آخرها، ولا يبقي فيها بناء مشيدا ولا معلما ولا شارعا ولا مدرسة ولا جامعا ولا مستشفى، يقولون هناك ألف مسلح من داعش في الرمادي وألف في الفلوجة، ولنفترض ألفين أو ثلاثة آلاف، فهل من المبرر شرعا ووطنيا تدمير مدينة وحصار أهلها الذين يتجاوز عددهم المليون للقضاء على ألف مسلح، وهل تستخدم الحاويات العنقودية والصواريخ والمدفعية والراجمات في تحرير مدن فيها مئات الآلاف من المدنيين بينهم أطفال ونساء وكبار سن؟ ونتساءل: لو كان المهاجمون غزاة مستعمرين ومحتلين وليسوا أبناء بلد، ماذا كانوا يفعلون؟
ما يجري في الأنبار تدمير لا تحرير، على يد داعش والحكومة العراقية معا، المدن لا تحرر بالأسلحة الثقيلة، ثم لماذا احتلت داعش الأنبار بساعات ليعاد تحريرها بسنوات، وكيف سلمها الجيش والأمن المحلي من دون إطلاق نار ليعاد تحريرها بالقاذفات وصواريخ السكود. أجندة صفراء، وريح عفنة، هدفها المعلن التحرير، وباطنها تغير ديموغرافي مغرض وخبيث.