د أنور غني الموسوي

 

 كل متابع لنصوص الشاعر العراقي كريم عبد الله يدرك و يتلمس شخصية النص المثقف   المبني على رؤية شعرية و نقدية ، إذ لا يكتب كريم عبد الله نصا الا وجعل له عنوانا تصنيفيا ثانيا بيانيا من حيث الرؤية الشعرية  و النقدية  ، و هنا  في ديوان ( بغداد في حلتها الجديدة ) نجد النصوص التي كتبت باسلوب السرد التعبيري محققة لشعر سردي نموذجي ، نجدها تقدم تحت تصنيفات تجديدية من حيث البوليفونية بتعدد الاصوات و الفسيفسائية بلغة المرايا و الترادف التعبيري  . لقد بينا كثيرا من هذه المفاهيم في كتابات لنا سابقة و هنا سنتناول المظاهر الاسلوبية و النصية لهذه الاشكال الكتابية في هذا الديوان الذي يعدّ و بحق عتبة العبور نحو شكل جديد من الشعر المكتوب باللغة العربية و قصيدة النثر العربية المعاصرة . 

1– النقد التعبيري وأبعاد القراءة  
 

 حينما تحدث عملية القراءة فانها تتطور من مستوى المفردة الى مستوى الاسناد او التجاور المفرداتي الى مستوى الجملة الى مستوى الفقرة ثم الى مستوى النص بكله .  اثناء كل مستوى يحضر البعد اللغوي الدلالي و البعد الابداعي الاسلوبي ، و بمجموع ما يتم من انظمة احتكاك و تقابل و التقاء و تقاطع و بفعل مستوى النقطة التعبيرية لكل بعد تحصل في الفكر و النفس مواضع تعبيرية لكل وحدة كتابية فيه يقابله بعد رابع خاص بالقارئ هو البعد الشعوري و الاستجابة الجمالية ، بعبارة اخرى بينما يكون النص ككيان مكتوب شكلا ثلاثي الابعاد ساكن لا حراك فيه ، فانه ككيان مقروء يكون كيانا  متحركا له اربعة ابعاد البعد الرابع هو البعد الشعوري ويمثل بعد الحركة الذي يخرج النص من السكون . فتكون القراءة هي العملية التي تعطي للنص روحا و تخرجه من الموت الى الحياة ، وهذا ما نسميه ( حركة النص ) .

 القراءة ما هي الا عملية مشاهدة و تلقي تبحر فيها النفس في عوالم النص و الكتابة ،و  الفكر و اللغة ، و الخيال و الابداع ، و  الشعور و المتعة . هذه العوالم الاربعة الحاضرة دوما في الكتابة الابداعية هي التي تضرب في عمق النفس و تجعل الكتابة الادبية مميزة ،  و بمقدار تجلي عناصر و اشياء تلك العوالم و تلك الابعاد يتحدد وقع القراءة و مقدارها التعبيري . النقد التعبيري هو المجال الذي يبحث الانظمة المتحققة من تفاعل تلك الابعاد و ما ينتج عنها من مواضع و قيم تعبيرية في فضاء الكتابة و عوالمها .  ان التشخيص الدقيق و عالي الكفاءة للبعد الجمالي للكتابة بواسطة ادوات النقد التعبيري و تحديد المقادير الكمية و التشكلات الكيفية للبعد الجمالي للنص يمكن من تشخيص عالي المستوى لقيم النصوص جماليا مما يعد مدخلا علميا للظاهرة الجمالية و الاستجابة الشعورية تجاه الجمال .  وهنا سنتناول ديوان ( بغداد في حلتها الجديدة ) للشاعر العراقي  كريم عبد الله و فق آليات و أدوات النقد التعبيري .

 

2 – الشعر السردي و  السردي التعبيري

  ان التقسيم المعهود للكتابة الشعرية الى ما يكتب بالوزن و ما يكتب بغير الوزن ما عاد كافيا امام الزخم الهائل و الكثيف للشاعرية المعاصرة ، و توسع الفهم للغة الابداعية و تغير المعارف العامة باللغة و طبيعة استعمالها . و بعد الفهم العميق لتقنيات قصيدة النثر و الشكل الذي هي عليه في الاعمال الساعية نحو الشعر الكامل في النثر الكامل ، صار لزاما الالتفات الى ان الايقاع و الشعرية بالنثر اما ان تكون بصورة ( شعر سردي ) يعتمد تقنيات السرد التعبيري بشكل النثر اليومي ، او ان يكون بشكل ( الشعر الصوري ) يعتمد تقنيات الصورة الشعرية و التوزيع اللفظي الايقاعي بالتشطير و نحوه . و لأجل هذه الحقيقة أي وجود شعر سردي و شعر صوري كان لزاما على النقد تقديم نظرية متكاملة تستطيع مجاراة هذا التطور وهذا الفهم و الواقع الجديد للشعر

 

الشعر حينما يكتب بشكل نثر فانه بالنهاية سيكون شعرا ، و المميز بين النثر و الشعر ليس الوزن كما يعتقد  ، و لا الصورة الشعرية و المجاز العالي كما اثبته الشعر السردي ، انما المميز بينهما ان الشعر السردي يشتمل على السردية التعبيرية  ، اي السرد لا يقصد الحكاية و التوصيل ، السرد الممانع للسرد   ، بينما السرد النثري اما قصصي حكائي يقصد الحكاية او توصيلي بشكل خطاب و رسالة. بمعنى اخر ان الفرق بين الشعر و القص و اللذين يشتملان على السرد  ،   ان السرد في القصة حكائي قصصي يقصد الحكاية و الوصف  ،بينما السرد في الشعر تعبيري هو سرد لا بقصد السرد هو السرد الذي يمانع و يقاوم السرد ،انه السرد بقصد الايحاء و الرمز    لا بقصد الحكاية و الوصف.  

.

 

 مظاهر السرد التعبيري جلية في ديوان ( بغداد في حلتها الجديدة ) ، فان القصد منه ليس  الحكاية و الوصف و بناء الحدث ، و انما القصد الايحاء و نقل الاحساس ، و تعمد الابهار ، فيكون تجل لعوالم الشعور الاحساس   ان الميزة الأهم للشعر السردي الذي يميزه عن النثر وان كان شعريا هو التعبيرية في السرد ، فبينما في النثر السردي يكون السرد لأجل السرد و الحكاية ، فانه في الشعر السردي يكون موظفا لأجل تعظيم طاقات اللغة  التعبيرية.  وجميع نصوص الديوان نماذج لذلك ، يقول كريم عبد الله في نص ( صور تحمي الساحات)

 

( مِنْ جديدٍ عادوا يحرسون الساحاتَ بـبنادقهم بينما الرمل يملأُ فوهاتها الصدئة … الأجسادُ هربت خرساءَ شوّهتها شمسُ الظهيرةِ تاركةً جيوبهم العسكريّةِ تصفرُ فيها ريحٌ تهمسُ في ذاكرةِ الشوارع …. خضّبني هذا التكرار في مواويلِ الحبيباتِ وهنَّ يغزلنَ حكاياتِ العشّاقِ المغدورين في مدافنِ الأيام …كلّمتهم كثيراً إشاراتُ المرورِ تحنو على أحلامهم المحنّطة )

 

يتجلى السرد التعبيري بعناصر كتابية نصية اساسية اهمها السرد الظاهري و الرمزية و الايحاء و ممانعة  للسرد  ببوح شعري ، و بالشعرية الناتجة من ذلك النظام .  تقنيات السرد في النص كما في غيره واضحة ، فكأن النص يريد الحكاية و سرد حادثة ، و تبرز الشخصيات و الحدث النصي ، الا انها في النهاية تتجه نحو بوح شعري فلا قصد سردي و قصصي هنا و انما تعبير عميق و شاعرية هي غاية الكتابة برمزية و ايحاءات و بوح شعري . وعلى هذا النسق و بهذه الاسلوبية تسير نصوص الديوان .

 

 

3-  العوامل و المعادلات التعبيرية

 

أهم أدوات النقد التعبيري في تفسير الظاهرة الأدبية و جمالياتها و عناصر الأبداع في العمل هو نظام  ( المعادل التعبيري ) و الذي يتمثل بوحدات لغوية نصية بصور و اشكال مختلفة تحاكي و تعكس الجوهر الأدبي و الجمالي العميق الذي كشفه و لمسه المؤلف المتمثل ( بالعامل التعبيري ) و الذي يكون بأشكال مختلفة جمالية و معنوية و فكرية و غير ذلك ، الا انه لا يتجلى و لا ينكشف الا بواسطة المعادل التعبيري .( د أنور الموسوي 2015)

 ان عملية الابداع الجوهرية هي الاشراق الابداعي بالاطلاع و اقتناص و رؤية و تمييز العامل التعبيري الفني . و  مهمة المؤلف النصية  الاهم هي الكشف عن العامل التعبيري العميق   و اظهاره و ابرازه بمعادل تعبيري نصي . و العوامل  يجمعها تأثيرها العميق و اثارة الاستجابة الجمالية بتجليها النصي . ان هذا الفهم ضمن ادوات النقد التعبيري يتجاوز ثنائية الشكل و المضمون و ينتج نظاما نصيا تعبيريا موحدا بوجهين ، فكما ان الاستجابة الجمالية تثار بالمعادلات التعبيرية الشكلية الظاهرية  فانها ايضا تثار بالعوامل التعبيرية المضمونية العميقة ، و هذا يحقق تكامل الشكل و المضمون و التوافق بينهما بدل التضاد و التعارض بينهما الذي يعد معرفة شبه راسخة.

و أسلوبيات السرد التعبيري في الشعر السردي في هذا الديوان تحقق انظمة بلاغية نموذجية و جلية لوحدات العوامل و المعادلات التعبيرية ، و محققة انظمة نصية بلاغية جديدة سنتناولها في الفصول التالية ، فان كل شكل لغوي  و اسلوب كتابي و عنصر نصي من تقنيات السرد التعبيري   التي سنبحثها هنا هو وحدة و نظام متكامل من انظمة ( العامل- المعادل ) التعبيري .

و للشاعر كريم عبد الله عمق شعري في العوامل الجمالية و الابداعية و التعبيرية ، بالنفوذ عميقا الى مكامن النفس و التجربة الجمالية و الهم الانساني و الوطني ، ثم يكشف عنه و يبرزه بمعادلات تعبيرية شعرية عالية المستوى و جميع نصوص الديوان شواهد على ذلك و منها  نص ( ذات نهار موحش ) يقول فيه الشاعر :

 

(انظروا كيفَ تستفزُّ ذاكرتي أطناناً مِنَ الشظايا تمطرها السماءَ ! يالهُ مِنْ نهارٍ موحشٍ ! خلفَ السواترِ تنامُ الأحلام , هلْ رأيتمْ كيفَ تنزوي صورُ العشيقاتِ في الجيوبِ المثقوبةِ ! أقدامُ المتمسّكينَ بــ الأرضِ يتملّكها الرعب في حقولِ الألغام , كانتْ هناكَ راجماتٌ كثيرةٌ تأتيكَ بــ الموتِ ما أقسى قذائفها َ تجهلُ سرّهُ حينَ تتساقطُ بــ وحشيّةٍ على الملاجىءِ الترابيّةِ , وتتساءلُ في نفسكَ علامَ كلَّ هذا الخراب …. ؟! . أكادُ أسمعُ أدعيةِ الأمهاتِ خلفَ تلكَ الأبوابِ الموصدة …)

 

ان النص ينفذ الى الهمّ الانساني  المتسائل عن دوافع الخراب ، و كل هذا الدمار ، انه السؤال العميق الذي يظهر عجز و قصور البشرية و حضارتها و عقلها الذي تتبجح به ، هذا العامل التعبيري العميق   يبرزه و يكشفه الشاعر بمعادلات تعبيرية  بتشكلات  تصويرية تتمثل  بتلاشي الاحلام  و خيبات العاشقات لفقدان المعشوقين الذي يسقطون في الحروب ، و وطأة ذلك على الذاكرة و النفس ، و سط تساؤلات   الانسان و نحيب الامهات المنكوبات  . باستعارات و سرد و بوح فني رفيع بشعر سردي عذب بتقنيات السرد التعبيري موسعا طاقات اللغة و قدرها التعبيرية .

 

 

 

4-  البوليفونية و تعدد الأصوات

 

 

 

البوليفونية  (polyphonic ) مصطلح ابتكره باختين في الادب ،  اساسا لمعالجة العمل الروائي استقاه من فن الموسيقى ،  و اساسها تعدد الاصوات المتجلية في النص .  عند التعمّق نجد ان للبوليفونية بعدين في النص ، بعد رؤيوي و بعد اسلوبي ، البعد الرؤيوي يدعو الى تحرير النص من رؤية المؤلف و سلطته فتتعدد الرؤى و الافكار و الايدولوجيات و تطرح بشكل حر و حيادي ، اما البعد الاسلوبي فيتمثل بتعدد اساليب التعبير و الشخوص  بل حتى الاجناس الادبية في النص الواحد .

رغم ان ميخائيل باختين أكد أن البوليفونية هي من خصائص الرواية و أن الشعر عمل فردي لا يقبل تعدد الاصوات و الرؤى (باختين 1981) ، فان هذا القول يكون صحيحا الى حد ما في الشعر ( الصوري ) التصويري المعتمد على الصورة الشعرية و المجاز في التعبير و المفتقر الى السرد و الحدثية النصية   ، اما في السردية التعبيرية ، المعتمدة على السرد و تعدد الاحداث و الشخوص فان من الواضح امكانية تعدد الاصوات و الرؤى فيه (الموسوي 2015)   و ربما تكون نظرة باختين عن الشعر قد نتجت عن اعلائه و اعطائه امتيازا للرواية على حساب الشعر في  فكرته البروسياكس (prosaics  ) فانها ادبيا تعنى ما يقابل الشعر من ادب و اعلاء الرواية عليه (مرسن و امرسن 1990) .

من هنا يكون واضحا ان لتعدد الاصوات و الرؤى مجال أوسع في السرد التعبيري  الشعري منه في السرد القصي للرواية و القصة ، اذ ان الاخير يعتمد على الشخوصية القريبة و الحدثية الحكائية ، وهو يتطلب الالتزام بالمعايير اللغوية النوعية في الشخوص و الاحداث و الاعتماد على الشخصية المادية و المعهودة نوعيا ، بخلاف السردية التعبيرية الشعرية فان الانحراف و الخروج عن المعايير اللغوية يمكّن من توسعة الشخصية النصية لتتعدى الشخصية الواقعية و المعهودة الى ما يمكن ان نسميه (بالشخصية النصية ) .  

من الواضح ان الفهم البوليفوني للنص يماشي عصر العولمة و ما بعد الحداثة و الدعوة الى الحريات الواسعة و الديمقراطيات الشعبية ، فيكون النص انعكاسا لهذا الجو و الفكر السائد . و قد يعتقد ان الاسلوب البوليفوني يتعارض مع التعبيرية التي تعكس الفهم العميق للمؤلف للاشياء و رؤيته المتميزة تجاه العالم ، وهذا لا يتناسب مع الحيادية الرؤيوية و تعددها ، الا انه يمكن فهم الكتابة على مستويين مستوى بنائي و مستوى قصدي ، فتكون البوليفونية و تعدد الاصوات و الرؤى في مستوى البناء  محققا شكلا ثلاثي الابعاد ، بينما تكون رؤية المؤلف الخفية التعبيرية في مستوى القصد تتجسد بشكل عالم ايحائي و رمزي لكلمات النص و بناءاته و رؤاه و اصواته المتعددة . 

هذا و من الظاهر ان البوليفونية تحتاج الى حد ما الى السرد ، وهذا يعني انه في الشعر يكون من خصائص السردية التعبيرية لقصيدة ما بعد الحداثة ، و لا تناسب كثيرا الشعر التصويري للقصيدة الحرة

 

في قصيدة ( بيوت في زقاق بعيد ) في هذا الديوان تتجلى البوليفونية بتعدد الرؤى و الاصوات بشكل واضح تعكسه و تكشفه التعابير التالية :

  • 1- أشجارها متجاورة الأغصان توحي بعضها لبعضٍ أنَّ أساريرَ الصباحِ تمضي بالتواريخِ صامتةً كالقراطيسِ القديمةِ وهي تشكو مِنْ الشيخوخةِ
  • 2- صوتُ العصافير تحملهُ النسمات كلَّ صباحٍ تتركُ صغارها تتنزّهُ على الشناشيلِ
  • 3- وظلّها يحكي للوسائدِ أنَّ الشمسَ لا تغيب ,
  • 4- إذا دغدغَ الغبشُ أزهاره وهي تستفيقُ على نقيق الضفادع !
  • 5- البيوتُ المتجاورةِ كانتْ تومىءُ للشمسِ أنْ بساتينَالأزهارِ تناغي أقدامَ الفتيات فيشعرنَ بالأمان , ( ملاحظة  هذه العبارة مكثفة صوتيا جدا فيها  ثلاثة اصوات احدها للبيوت و الثاني البساتين و الثالثة للفتيات)
  • 6- مذ كانَتْ حلوى ( يوحنا) تفضحُ رغباتهم الطفوليّةِ بما تحملُ مِنْ صلواتٍ تمجّدُ الربَّ
  • 7- كانَ عنبُ ( عليّ ) مختوماً باسرارِ العرائشِ مستريحةً على الأسيجةِ تقبّلُ ضجيج النحلِ
  • 8- وكانَ ( عثمان ) يسمعُ أصواتَ التلاميذَ ينشدونَ في ساحةِ المدرسةِ ( وطنٌ واحدٌ )
  • 9-  تحملُ ليَ الريحَ أصواتاً قادمةً تجلجلُ منْ وراء الحدود :- ( لا بدَّ مِنْ حكمٍ جديدٍ ) ,
  • 10- وحدهُ السيف سينطقُ بالحقِ عالياً .
  • 11- ضجيجُ المارّةِ في الشوارع لماذا بدأ يخفتُ بالتدريج ويتلاشى خلفَ الأبواب الخشبيّةِ وأنا أسمعها كيفَ تنشجُ الحزنَ ,
  • 12- الأغصانُ تدعكُ ببعضها تأكلها نار تلتمعُ عليها السيوف حولَ الحاكمِ بأمرِ الله .

 

ان تعدد الاصوات في هذا النص المكثّف يحقق نسجا متفردا من التكثيف اذ لا تجد عبارة الا وهي صوت ، وهذه براعة تكثيفية يقلّ نظيرها وهي فعلا مظهر جليّ و رفيع للسردية التعبيرية . و من الواضح ان المؤلف مختف في كثير من فقرات النص بحيث لا تكاد تشعر بوجوده وهذا مهم للبوليفونية و تجسيد رؤى الشخوص . و الرؤى واضحة جدا و تمظهرت بصور شتى حلمية و مستقبلية و ماضوية و واقعية و عقائدية و فكرية و بتنوع بين ايضا . هذا النص ليس فقط يحقق البوليفونية بل يحقق صور عالية لها بسردية تعبيرية فذة .

 

 

5- الفسيفسائية و لغة المرايا

 

 ان طرح الفكرة ذاتها بتراكيب لفظية مختلفة يمكن من القول اننا نظرنا للشيء الواحد من زوايا متعددة ، و من هذه الحيثية يمكن وصف النص بانه متعدد الزوايا ، الا انه لو نظرنا الى التراكيب فيما بينها فانا سنراها تركيبة فسيفسائية يكون كل تركيب بشكل مرآة لذاك يمكن وصف هذه اللغة بلغة المرايا و وصف النص بالنص الفسيفسائي .

في نص ( خلف أبوابك نحتمي دائما  ) نجد لغة المرايا حاضرة بأسلوب الترادف في التعابير . ان التراكب هنا تتجه دوما نحو غايات موحدة كأزهار الشمس تتجه في كل وقت نحو الشمس ، محققة مرآتية  ترادفية اذ تكون التعابير – رغم افادتها المختلفة – معبرة عن معنى عميق تلاحقه ، بنسيج فسيفسائي مرآتي يعكس عمقا تعبيريا من المعاني و الافكار الموحدة .

ان الشيء الجديد فعلا  في النص الفسيفسائي اضافة الى الاستعمال المختلف و غير المعهود للغة هو تحقق انظمة جديدة لوحدة القصيدة العضوية ، يتمثل بأنظمة متعددة اهمها التناسق و التناغم الذي تحققه المرآتية و الفسيفسائية ، و الثاني العمق التعبيري الذي يوحد مكونات النص اللفظية ليس فقط في الموضوع و انما في الغايات الرؤيوية و الفكرية و المعنوية ، اضافة الى وحدة اسلوبية تفرضها الفسيفسائية على النص .

 

في النص ثلاثة عوامل تعبيرية عميقة تتجه نحوها التعابير ، لها مسحة زمانية و تاريخية بين الماضي مع الاعتداد و الاعتزاز و الحاضر مع  المأساة و المرار  و المستقبل مع الانتظار و التطلع . و مع هذه الانظمة النصية  العامة هناك محاكاة تعبيرية تفصيلية ايضا في كل نظام سنبينها لاحقا ، مما يجعل النص يحقق لغة المرايا و الفسيفسائية بشكل نموذجي .

الوحدات النصية للنظام الاول  ( الاستذكار والاعتداد و  الاعتزاز )

1-         خلفَ أبوابكِ إكتظّتْ ذكرياتنا نحتمي بها ونطردُ وساوسَ الشكوك

2-         حصونكِ العصيّةِ مِنْ هناكَ تغمرني بأريجِ حقولها وتمشّطُ سَعَفَ ضفافي الغافيةِ ,

3-         بينما قصائدي الملتهبةِ حقولاً مِنَ الحنينِ تبذرينها دائماً في صدري أرتّلها إذا أصابكِ الخطر

4-         ينابيعكِ المعطّرةِ بأنفاسِ كرنفالاتكِ الملوّنةِ تتقافزُ فيهِ تسابيحُ حَدَقاتٍ تتناهشها الأطياف

5-         تماسكي جيداً فلا ترهبنّكَ أسلاكهم لو تحاصرُ دروبكِ المحلاّةِ بالحنينِ يتساقطُ عناقيداً  تتشجّرُ في روحكِ .

لقد نجاح الشاعر بقاموس لفظي متقارب   ينتمي الى مجالات الاعتداد و الاعتزاز و العمق و الانتماء و الاحتماء في خلق مزاج موحد لتلك التراكيب باعث على خلق صورة براقة لوجود عميق و اصيل و متجذر . نلاحظ في المقاطع الاربعة وحدتين مركزيتين بارزتين الاولى ( تعابير المنعة و السعة (  خلف ابوابك ، حصونك العصية ، تبذرينها في صدري ، ينابيعك  ، دروبك المحلاة ) و الثانية فاعلية المخاطب ( نحتمي بها ، تغمرني ، تبذرينها ، المعطرة ، تتشجر في روحك ).

 

الوحدات النصية للنظام الثاني ( الحاضر المرّ و المأساة )

1-    بزينةِ مدائنكِ تتمرّى سنوات القحطِ

2-    أكشطُ مِنْ شغافِ الروحِ راياتُ الغزاةِ لئلا تشوّهُ زهوركِ المفعمةِ بالنبضِ هتافاتهم المسعورةِ

3-    أحصّنكِ ( بربِّ الفلق ) مِنْ ويلاتِ الحروبِ الخاسرةِ وظمأَ فوّهاتها , سأدسُّ مدائنكِ العائمةِ فوقَ ركامِ الفجيعةِ بينَ الحنايا ,

4-    ساجمعُ مِنْ على جسدكِ ما خلّفتهُ المحنة أصوغهُ قناديلاً تضيءُ وحشةَ الفجرِ وتمزّقُ هذا الليلَ الطويل ,

5-    فكمْ ترنّحتُ على أرصفةِ الخناجرِ مطعوناً أبكيكِ معشوقة رائعة ,

ان هذا النظام له تجل واضح في النص ، حتى انه يمكن عده القطب  و المحور متمثلا بألم الحاضر و مأساته  الذي فاض من جانبيه البوح الاول بالاعتداد بالماضي و البوح الثالث بالتطلع الى مستقبل افضل ، كما ان الشاعر قد استخدم زخما تعبيريا قويا هنا مما اعطى هذا النظام محورية ظاهرة و تجل كبير، و لم يترك الشاعر شيئا من التوظيفات التعبيرية و القاموسية الا و استخدمه وهذا ما نسيمه ( الحد الاقصى من البوح ) .

 

الوحدات النصية للنظام الثالث ( الانتظار و التطلع الى المستقبل الافضل و الخلاص )

لقد استخدم الشاعر في تجلي و ابراز هذا النظام اسلوبين الاول الاستفهام و السؤال و الثاني الطلب و التشجيع ، و من المعلوم ان كلاهما من انظمة الطلب

أ‌- الصيغة الاولى ( سؤالات الخلاص  )

1-    مَنْ يلمُّ شتاتنا وغربةَ الأحلامِ المشققة , ومَنْ يرفعُ صلواتنا تطرقُ أبوابَ السماءِ البعيدة وأنا أسمعُ هديلكِ يحكُّ اناشيدنا المكبوتةِ ؟!

2-      مَنْ يعيدُ لتأريخكِ تدفّقَ البهجةِ ويمسحُ عنْ عيونكِ كلَّ هذا التشتتَ ؟ مَنْ يزرعُ السلامَ محبةً ينفتحُ على هذا الأفقِ الشاحبَ ؟

3-      كمْ مِنَ الوقتِ نحتاجُ أنْ نمزّقَ شرنقة عنكبتْ في حقولكِ الشاسعةِ ؟ ومتى ستزهرُ شرفاتكِ المدثّرةِ بجروحٍ نازفةٍ تفيضُ بالقرابين ؟ .

ب الصيغة الثانية ( طلب  التغيير )

1-    فأستعيدُ توازنَ اللغةِ كلّما ينتابها الضمور

2-    أنهكني هذا الآنتظارَ والمواعيدُ تنأى تلوذُ خلفها الأمنيات

3-    فأمنحيني صحوة تعيدُ لي بعضَ أنفاسي .

4-    أيّتها الساكنةُ في سواقيِ الشهقةِ تدفّقي ياقوتاً يرصّعُ أبوابنا المغلولةِ بالصمتِ ,

5-    ما أحرَّ لهيب الروحِ وقدْ إستشرسَ هذا الطغيانَ وتهدّلَ حزني فأوقفي هذا التصحّرَ بنبيذٍ طالما إنتظرتهُ على مضضٍ ,

6-    إحتشدي مِنْ جديدٍ وأنزعي مِنْ عيوني الذابلاتِ سنيناً ثيّباتٍ ,

7-    لنْ يتكاثرَ الحزنُ مجدّداً في أرضي ولا تتعثرُ الخطوات وأنتِ الآنَ تمطرينَ حجارةً مِنْ سجّيلٍ على رؤوسِ الطغاة .

 

لقد حقق النص غاياته القصدية التعبيرية بتجلي طلب الخلاص و الثورة على الواقع غير اللائق و غاياته الاسلوبية بتعابير ترادفية و لغة مرآتية متعاكسة و نص فسيفسائي ، بسردية تعبيرية عذبة ورفيعة .

 

 ان أية قراءة لنصوص هذا الديوان تكشف و من الوهلة الأولى اننا أمام أدب ثري و عميق . مشتمل على نصوص مسبوكة بتقنيات شعرية عالية المستوى و بلغة عذب و قريبة ، ان هذا الديوان المهم يعدّ فعلا عبورا و تجاوزا لمرحلة  في الكتابة الشعرية العربية  المعاصرة  و اتجاه حقيقيا نحو الشكل النموذجي لقصيدة النثر .