بعد عقود مقيتة من النظم الشمولية التي حكمت كثير من بلدان العالم وتحديدا في الشرق الأوسط، بأساليب يندى لها جبين البشرية والحضارة الإنسانية، وأوقعت شعوبها في أتون حروب أهلية وخارجية، لا غرض لها أو هدف إلا تدعيم عروشها بمزيد من جماجم وعظام الضحايا، ولعل بلادنا ومن جاورنا خير مثال على تلك الحروب البشعة التي ما تزال قائمة كما نراها اليوم في الكثير من الدول وخاصة جيرانتنا سوريا الجريحة التي تتنافس فيها أجنحة شتى على ذبح هذا الشعب، كما فعل قرينهم في بغداد وما يزال في عواصم الجمهوريات الوراثية والملكيات البلهاء. قلت بعد كل هذه الكوارث المصطنعة بدأت تلك الأنظمة تتهاوى وتتساقط مع أول عواصف تسونامي التغيير التي بدأت من هنا في العراق، اذبان غزو الكويت وتقهقر النظام وانزوائه في ملاذات آمنة وفرتها له المصالح العالمية لعدة سنوات، ما لبثت أن عادت ذات تلك المصالح لتقرر هذه المرة إنهائه تماما، ولتبدأ بعده عمليات اختراق حاجز الخوف بعد أن تبين إن تلك الأنظمة حقا نمور من ورق تحولت إلى فئران في أول مواجهة حقيقية مع الشعوب. ولكي لا نغوص كثيرا في مجريات ما حدث، فإننا توجهنا جميعا إلى تجربة بديلة لتلك التي أفقدتنا ألوان الحياة ونكهتها الحقيقية، فاخترنا الديمقراطية بديلا لإحقاق الحق وإيصال محبوب الأهالي إلى السلطة، لكننا نسينا في معمعة سقوط أصنام السلطات المستبدة وانعتاقنا من قيودها، إن مجتمعاتنا ما تزال لا تنتمي إلى وطن أو شعب بل إلى عشيرة والى قرية والى مذهب والى شيخ أو أغا، ولقد كانت فعلا هذه الانتماءات هي الأدوات التي تم استخدامها لوصول الوجبات الأولى من المرشحين إلى المجالس التمثيلية في المحافظات والمركز، وللأسف كانت النتائج مطابقة للمثل الشعبي الدارج ( عاب شي لا يشبه أهله )، وهكذا كانت جوقات أعضاء مجالس القاضية والمحافظات ومجلس النواب في الدورتين السابقتين خير من يمثل قباحة وجمال مجتمعاتنا وخاصة في الأمية الحضارية والعقلية العشائرية والانتماء المناطقي ومواصفات الحيلة والغش والكذب والنفاق والفساد والإفساد بدءً من عمولات التعيينات وقوموسيونات المشاريع، وصعودا إلى عشرات المليارات في مشاريع وهمية أو فاسدة في الكهرباء والنفط والتجارة والتعليم والصحة والمالية والتسليح وصفقات تجهيز الجيش والشرطة بالغذاء، حتى ليظن المرء إن معظم المجالس التمثيلية والحكومية أصبحت نقابات واتحادات للحرامية والمرتزقة والنشالين. واليوم يخوض العراق ثانية أو ثالثة عملية إيصال محبوبي الأهالي وممثليهم إلى مجالس المحافظات وبعد أشهر ليست طويلة إلى مجلس النواب الاتحادي وقبله إلى برلمان إقليم كوردستان، وما حصل خارج إقليم كوردستان ومحافظتي نينوى والانبار، ربما اختلف قليلا عما أنتجه المشهد قبل عدة أعوام رغم انه تأثيره ما يزال نسبيا إذ هيمنت عليه ثانية شبكات المال وما وراء الكواليس من القوى المتنفذة عشائريا ومذهبيا والمتكورة على شكل أحزاب أو كتل أو حركات. وما تزال هناك فرصة ذهبية أمام الأهالي في اكبر محافظات العراق سكانا ومساحة وهما محافظتي نينوى والانبار لتوخي الدقة في اختيار من يمثل القيم العليا قبل تلك القيم التي جربوها منذ 2005م وأعطت هذا الطوفان من الفساد والتقهقر والظلم والانزواء الذي قزم المحافظتين العملاقتين حتى كانت أكثر توصيفاتها بأنها مخزية حكومة ومجلسا!؟ فهل يا ترى سيكون الناخب هذه المرة أكثر وعيا أم خزيا مما كان عليه قبل سنوات، لكي لا يكون ممثل الشعب لصا وسمسارا ونكرة وقومسيونا، إن النتائج القادمة ستحكم على المشهد ليس هنا بل في القاهرة ودمشق وبنغازي وكل عواصم تسونامي التغيير!