منذ عقود وقف السّياب وظهره للعراق مخاطبا الخليج “صوت تفجّر في قرارة نفسي الثكلى : عراق كالمدّ يصعد ، كالسحابة ، كالدموع إلى العيون” بعد أن “جلس الغريب ، يسرّح البصر المحيّر في الخليج”. فماذا لو بدّل السياب وقفته تلك في يومنا هذا وجعل الخليج في ظهره ليخاطب بلده؟ ماذا تراه يقول بعد أن يرى أعمدة الدخان تملأ رئتي العراق فيختنق بسبب هذا الدخان؟ ماذا تراه يقول لثكالى بلده حيث لا مدّ في الخليج اليوم بعد أن باع الخونة المياه الى دول الجوار؟ ماذا تراه يقول بعد أن هاجرنا السحاب دون عودة بعد أن فشل المنجمون في صلاة الاستسقاء؟ ماذا يقول بعد أن يرى الدموع تملأ مآقي الناس بعد أن أصبح البكاء جزء منهم وهم يموتون يوميا؟
الغريب اليوم أيها السيّاب ، لا يجلس على الخليج بل يجلس في بغداد التي أحببت، بعد أن تحوّل أبناء بلدك الى غرباء ومهجرّين ومهاجرين. الغريب لا يسّرح البصر نحو الخليج بل يسّرح البصر من الخليج نحو العراق، أنّي أراه يضحك ملئ شدقيه وهو يعرّينا حتّى من ملابسنا، أني أراه يبصق في وجوهنا محتقرا إيانا، أني اراه يغتصب أعراضنا وينتهك حرماتنا، أني أراه يخرج من مسامات جلودنا ليبيعنا في سوق النخاسة.
أقولها لك وكلي ألم من أن العراق اليوم ليس دورة أسطوانة، فالدين حرّم الأسطوانة ليس كونها إسطوانة بل كون العراق يتردد من خلالها كنغم جميل. هل رأيت مؤمنين بدين حاقدين على بلد كما يحقد المؤمنين على عراقنا اليوم؟ العراق اليوم أيها “السياب” بضاعة رخيصة تباع في طهران والرياض، وهل تعرف الدلّالون والباعة لهذا العراق؟
في العراق اليوم من يقتل الأطباء ليعالج العراقيون مرضاهم في مستشفيات دول الجوار، في العراق اليوم نقتل أعمدة الكهرباء لنستورد الكهرباء من دول الجوار، في العراق اليوم نقتل المياه والأسمدة لنستورد الخضروات من دول الجوار، في العراق اليوم نقتل الأساتذة الجامعيين لنحيي الجهل والتخلف والخزعبلات، في العراق اليوم اليوم نقتل الجيش لنحيي الميليشيات، في العراق اليوم لا مستشارين لدينا فنستورد مستشارين من دول الجوار، في العراق اليوم نقتل طيارين وضباط لان جار لنا يريد ذلك، في العراق اليوم نفتح مدننا للأفاقين والمجرمين لننفذ أجندة دولة جارة، في العراق اليوم تباع نسائنا في سوق الرقيق والجواري لنعيد به مجد الإسلام!!
هنيئا لك كونك متّ ولم ترى خيانة أحزاب كاملة لبلدها من أجل مذهب وطائفة، هنيئا لك كونك لم ترى بلدك يباع بالمفرق والجملة للغرباء، هنيئا لك كونك لم ترى نساء بلدك يباعنّ كسبايا، هنيئا لك كون الخليج الذي وقفت عنده كان خليجنا وشط العرب كان شطّنا والبصرة كانت تتحدث بلهجة عراقية. تعال لأريك اليوم خيانة القوم لبلدك وشعبك، تعال لترى أن تعجبّك عن خيانة “الرجال” لأوطانهم ليست سبّة!!! بل على العكس فالخيانة واجب طائفي ومذهبي، فشيعتنا يسّرحون البصر نحو طهران ليقبّلوا يد الولي الفقيه، وسنّتنا يسّرحون البصر نحو الرياض ليقبلوا أنف “المحفوظ”، وكوردنا لازالوا في حيرة من أمرهم فمركبهم لازال بشراعين، الريح تدفع احدهما نحو الشرق وتدفع بالاخر نحو الشمال .
اليوم لدينا الملايين كالمسيح يجرون صلبانهم في غربتهم داخل وخارج الوطن، اليوم إزداد “وقع خطى الجياع” فالقحط في كل مكان. اننا لا نعيش عهد الخيانة لوحدها بل نعيش معها عهد القحط الوطني والاخلاقي والإنساني. اننا نتنفس الموت بريح الخيانة، ان من يحكمنا اليوم أيها السياب ليسوا سوى خونة، بكل ما في كلمة خونة من معنى، أنهم يقتلون العراق. والآن الا زلت متعجبا أن كيف يمكن أن يخون الخائنون … وهل لازلت متعجبا لتسأل “أيخون إنسان بلده”.
لا تتعجب ، فالشمس في العراق ليست اجمل من سواها كوننا لا نعرف الا الظلام. ولا زلنا ونحن مهجّرون داخل وخارج العراق (بين احتقار ، و انتهار ، و ازورار .. أو “خطيّة”) نعم والأمر كما قلت (والموت أهون من “خطيه” ). ولا أدري إن عدت بعد حين معك ، إننا سنرى العراق عراقا، وهل ستصرخ الريح فينا …. عراق .
الأسلاميون كالعملات المزيفة لا يساوون ثمن الكيس الذي يوضعون فيه.
(*) مقطع من قصيدة غريب على الخليج لبدر شاكر السياب