حضرت ندوة تاريخية هذا الأسبوع، نشّطها أساتذة جزائريين مختصين في التاريخ من جامعة الشلف وبعض ولايات الوطن، وهم.. رضا بن عتو، و ابراهيم طهاري، و ليلى بوجلال، و يوسف صداقي، و محمد شبوب، و عبد الله حنادر، وإسماعيل توتة
إستوقفتني بعض الملاحظات إرتأيت أن أفرد لها مقال، بعد أن أفردت مقال خاص بعرض أحسن المحاضرات التي ألقيت بعنوان ” مظاهرات 11 ديسمبر 1960″، ومن بين هذه الملاحظات..

شباب في زهرة العمر، رزقوا سلامة الجسم، والمنظر الحسن، وصفاء الصدور فيما بينهم، والتعاون الحثيث على النجاح، والامتثال لأستاذهم رغم أنه أصغرهم سنا، والسعي للتحكم في التنظيم، واحترام الوقت، وتقدير الكبير، واحترام الصغير، والإنصات للمخالف، بالإضافة إلى حماس شباب ظاهر في اللسان والحركة.

الملاحظة الثانية وهي التي كانت من وراء هذه الأسطر، أن الأساتذة الجامعيين الشباب إشتكوا كثيرا إنعدام المصادر، وأنهم حين إتصلوا بالمجاهدين الأحياء متّعهم الله بالصحة والعافية، رفضوا إعطاءهم ما طلبوا، وعاملوهم باستهتار لصغر سنهم وقلّة تجربتهم، ولأنهم لم يأتوا من طرف كبير يشفع لهم ويقدمهم لدى المجاهدين . وقد ذكر الشباب هذا الكلام أمام مرأى ومسمع من الحضور، وأعادوه بمرارة شديدة، وتمنوا لو فتحت أمامهم الأبواب والآذان لعلّهم يقدمون لتاريخ الجزائر شهادات ناطقة ومكتوبة، تساهم في إزالة الغبار عن قضايا وأشخاص. وعليه أقول..

لا يحق لأحد كان ومهما كان أن يمنع فتية آمنوا بربهم وأخلصوا لوطنهم، من الوصول إلى مايدفعهم لخط الوصول، لمعرفة الحقائق المتعلقة بالتاريخ الجزائري، ومهما كانت نوعية ودرجة تلك الحقائق. والمطلوب من المجاهدين وممن شهد الثورة الجزائرية أن يحتضنوا أبناءهم، ويفتحوا لهم صدورهم، ويصبرون على حماسهم ، ويضعون تحت أيديهم الغالي الذي يكسبونهم، ويفرغون أمامهم ماقدرت الذاكرة على حفظه، مستغلين زيارات الفتية فيمررون وهم يستعيدون الماضي حب الجزائر، والدفاع عن ساداتها ورموزها، وأن ما يتنعم بها الشاب الآن هو ثمرة من ثمار عرق الأباء، وشقاء الأمهات، وسهر الأجداد، وأن شمس اليوم مردها لليلة الأمس، حين كان الجزائري لاينام من شدة الخوف، ويستيقظ جوئعا، ويظل أميا عريانا.

وألتفت الآن للأساتذة الجامعيين المهتمين بالتاريخ الجزائري، وأهمس في آذانهم وأقول.. تعامل مع المجاهد على أنه الأب وهو فعلا الأب، وتحمّل رفضه بأدب، وتغاضى إن أساء إليك بكلمة أو حركة، وابحث له عن أعذار، فهو كبير، ومريض،  ومصاب، وجريح، وربما فقير محتاج. وقد سمعت أكثر من مرة ومن مجاهدين يشكون عدم الاتصال بهم، ويطلبون بإلحاح شديد أن يتصل بهم الباحثين الجزائريين وغيرهم، ليمدوهم بما قدروا عليهم، وبما بقي لهم من صحة، وذاكرة، وأيام.

حين سمعت لأول مرة شكاوى الأساتذة الجامعيين الشباب عن صدّ الأبواب في وجوههم، ظننتهم لأول مرة أنهم بلغوا من الكبر عتيا، ولهم عقود في البحث والتنقيب، وشاب شعرهم في الجري وراء الشهادات والوثائق، إذ بهم شباب كلهم أمل ونشاط، يطير ويقفز، لذلك المطلوب منهم أن لا يكترثوا لما سمعوه من رد ورفض مقابل ما قدمت لهم الجزائر من خيرات، وعلّمتهم بالمجان، وساعدتهم على الطيران إلى بلدان ، ومكنتهم من الوقوف على مكتبات وطنية وعالمية، وهو مالم يكونوا يحلمون به ولا ينتظرونه. فليجهدوا لتقديم حق ما قدّم لهم من معروف، وليصبروا على ما أصابهم، وليذكروا الأسماء والجهات التي منعتهم من الوصول إلى المصدر أو رفضت التحدث إليه، وحينها سننقل عنهم معاناتهم ، ونشيد بمجهوداتهم، ونلوم كل شخص أو جهة لم تمنح الفتية حق البحث والسؤال.

إن التاريخ بشكل عام والتاريخ الجزائري بشكل خاص، يحتاج لبذل جهد الليل والنهار، وعمل الأجيال، وصرف الأموال. وحين يحدث للشاب المهتم بالتاريخ بعض ما تعرّض له ممن كان من قبله ومن بعده، فإنها ضريبة تدفع لكل من يسعى للحقيقة، في انتظار أن يسعى إليه الجميع، ويمسي منارة تضىء لكل من سلك درب البحث عن حقيقة التاريخ.