لاشك إننا نعيش في أروع مدينة في العالم.قال القاضي.

لكن المدن كالبشر تولد ثم تشيخ فتموت، وبغداد بلغت أواخر شبابها. قال الدرويش.

كان ذلك حوارا بين القاضي والمتصوف المتجول، في نيسان من العام 1242 للميلاد في بغداد سيدة العالم. ورغم ذلك بقيت بغداد تشيخ، لكنها لم تمت موتا نهائيا، فكلما نظرنا إليها وجدناها تنبض بالحياة، لكنها ليست شابة، وهي تتقدم في العمر، وتؤجل موتها بإرادتها، بالطبع هي لاتختلف عن بقية المدن التي شبت فشاخت فماتت أو تكاد، ولكن وصف فتكاد هو الأدق من وصف الموت، فهي تكاد تموت ولكنها لاتموت على أية حال، وتبقى تعيش بعذابات أبنائها وجنونهم وحبهم للحياة وملذاتها، وربما خربوها ومارسوا فيها أسوأ الأفعال وأشنعها.

بغداد التي تأسست في بدايات النهضة الإسلامية على يد العباسيين وفخروا بها أنها جوهرة الدنيا وقلب العالم، ماتزال محط الإهتمام، ومايزال الناس ينظرون لها بأهمية فائقة، وماتزال ضمن أولويات إهتمام المستعمرين والدول الكبرى والإقليمية حتى التي كانت تحت سلطتها أيام هارون الرشيد، لكنها لاتملك قرارها وتعاني من سوء فعال حكامها وساكنيها، وربما تعاقب عليها المحتلون عبر أزمنة طويلة وتباهى حكامها بحماقاتهم وجنونهم المستمر ورغباتهم في خوض الحروب ومشاكسة الخصوم، حتى وصلت الى مرحلة متقدمة من المرض، فهي تشبه القرية الكبيرة، ومداخلها من جميع جهاتها مثل مداخل الأسواق الشعبية العاجة بالباعة المتنقلين والمتسكعين والثابتين، والموبوءة بالأوساخ والخراب، دون أن يلتفت أحد إليها ليعاين خرابها، ويتحرك لينهي معاناتها.

وقضية بغداد ليست متصلة بمسؤول حكومي، أو بطريقة أداء سيئة لاتلبي طموحات سكانها، بل هي حتمية تاريخية، أن تشب وتشيخ وتموت، أو تكاد، وقد إتفقنا إنها لم تمت لكنها تكاد، غير أنها وصلت الى مرحلة اللاتأثير في الأحداث ومن حولها عواصم وبعيد عنها عواصم أخرى تحكم مسيرتها ومسارها وقرارها، وهي تعيش على وقع ذلك وتتحمل أثمان ذلك دون أن تعترض، وحتى لو إعترض بعض من فيها لكن الإذعان أمر لابد منه نتيجة ظروف تاريخية تتحكم بمسار المدينة لتكون ضحية لصراعات الإقليم والعالم.

بغداد اليوم سيئة الطباع، متقلبة المزاج، يبدو شعرها متسخا، ورائحتها ليست زكية، هي أشبه بالمجنونة تتنقل من شارع الى آخر، وتبحث عن لاشئ. فهي لاتعرف ماتريد، وتجهل مصيرها وتريد أن تحصل على قوت يومها، ولايهمها كثيرا نوع الطعام الذي يتوفر لها، إن كان نيئا، أم ناضجا، أو كان فاخرا، والمهم أن تستمر في الحياة، يحيطها العقوق، فأبنائها طامعون جاحدون باحثون عن الملذات، ونسوا إنها مدينتهم، وليس لديهم سوى الرغبة في الحصول على المال والمتعة والمنصب والمكاسب التافهة يتقاتلون عليها، ليحصلوا على النصيب الأوفر من ذلك، ولم يعد معنى الوطنية مهما عندهم فالوطنية تعني أنفسهم التي تستحق منهم بذل الجهد، وهم غير مستعدين  ليضحوا لوطنهم وأن يعمروه ويمنعوا عنه الخراب.