قد يصطدم الراجل بآخر وهما يسيران في رصيف باتجاهين معاكسين، لازدحام أو عائق أو غفلة، فالأمر على غاية من البساطة وهو قابل للتكرار مع أي إنسان، ولا يتطلب في مثل هذه المواقف سوى الإبتسامة والإعتذار ممن يرى أنه احتك بالآخر سهوًا، وما على المصدوم بدوره إلا تقبل الإعتذار لأن الحادث الطارئ قابل للوقوع معه هو الآخر أيضا، فالمسألة طبيعية والإبتسامة حاضرة والإعتذار وتقبله عملان محمودان، وأكثر من هذا يدلان على سعة الصدر وثقافة التسامح التي يتمتع بها هذا المجتمع، لأن الإعتذار بحد ذاته هو مؤشر على المدنية والتحضّر.
وإذا كان الإحتكاك البدني العفوي بين شخصين في طريق السابلة والراجلة حادثًا طبيعيًا، فإن الإصطدام بين العجلات في الشارع العام أمر مفروغ منه، لا يمكن تلافيه أو تجاوزه، ولا يعنيني أسبابه فهي كثيرة، ولكن حدوثه أمر طبيعي، ولأنه كذلك فإن سلطة المرور في كل بلد وضعت القوانين للحد من الحوادث، كما وضعت القوانين لإصلاح ما خربته الحوادث، فلا يحتاج المرء إلى رفع وتيرة عصبيته أو يده او سلاحه لأخذ حقه من الطرف الآخر، لأنَّ القوانين ضمنت له حقوقه وتعويضه كما ضمنت للآخر الأمر نفسه وفق حسابات تم التسالم عليها، وهو ما يُعبّر عنه بنظام التأمين، فلا فتل عضلات ولا دماء نازفات ولا أزرار مقطوعات ولا نخوة خلان وصيحة جيران ولا فصل عشاير وأتاوات بالمجان، كل شيء يجري بهدوء وما يكلف الأمر سوى تسجيل رقم السيارة لكل منهما والإتصال بشركة التأمين لكليهما، فإن كانت السيارتان قد انتهى أمرهما أخذ كلٌّ منهما ثمنها من شركة التأمين، وإن كانت مازالت تنبض بالحياة أحدهما أو كلاهما وبحاجة إلى تصليح أعطوه سيارة جديدة يقضي بها حاجته ريثما يتم الإنتهاء من تصليح سيارته، حصل معي مثلها واستلمت تعويضًا كاملا بقيمة السيارة، وحصل مع غيري، فلا ارتفعت الألسن بالسباب والشتائم والكفريات ولا تشابكت الأيادي ولا تلاقت المُديات ولا تسارع أصحاب الجيوب النهمة إلى أخذ الخاوات تحت شفرة الديات كجزء من عملية الإرتزاق الذي وجدت سوقًا رائجا في بعض المجتمعات.
فالأمم المتحضِّرة أوجدت لنفسها قانون التأمين لتتلافى الكثير من مشاكل الحياة اليومية الطبيعية القابلة للحدوث في أي زمان ومكان، وعبر هذه الشركات يستطيع الإنسان ضمان حقه في إطار تعاملات إنسانية بعيدة عن العنف الذي نشهده هنا وهناك كل يوم، فهو يضمن حقه مقابل ضمانة مالية تؤخذ منه لمرة واحدة أو عبر الأقساط السريع أو وفق جدول زمني بالأقساط المريح يتوافق عليه المؤمِّن والمؤمَّن.
القديم الجديد
ربما يظن البعض أن قانون التأمين هو من مستحدثات النظام الغربي أوجدها للتامين على الإنسان والحيوان والنباتات والممتلكات والمصانع والمعامل والورش وكل ما يتعلق بحياة المرء الشخصية، لكن الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في كراس “شريعة التأمين” الصادر حديثا (2016م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 48 صفحة، يرى عكس ذلك تماما، فيؤكد في التمهيد: (والتأمين من العقود القديمة الجديدة، قديمة في الفكرة وفي الأمثال، جديدة في التطوير والتعميم، فإن نظام العاقلة في الدية هو نوع من أنواع التامين الذي أقرّته الشريعة الإسلامية وكان ساريا قبل الإسلام ولكنه محدد في مسألة دية قتل شبه العمد، حيث كان الأقارب الذكور للجاني يتحملون عنه دية المقتول، وإلى جانب ذلك نظام ضامن الجريرة والذي هو شكل آخر من أشكال التأمين الذي أقرّه الإسلام، وهو أن الشخص كان يركن إلى شخص آخر ويتعاهدان على أن يضمن كل منهما جناية الآخر شرط أن يكون إرث كل منهما للآخر، وكان هذا الأمر ساريا في الجاهلية، وجاء الإسلام فقيده بقيود) وبشكل عام: (وبالإضافة إلى ما سبق فإن مسألة الكفالة والضمان والعهد بين الشخصين الواقع في عقد لازم وما إلى ذلك كلها تُعدُّ صورًا من صور التامين، مما يظهر أن الفكرة كانت حاضرة لدى المسلمين الأوائل وأقرّها الشرع الحنيف).
ويخلص الفقيه الكرباسي في “شريعة التأمين الذي ضمَّت 75 مسألة فقهية علّق على ثلثها الفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري مع مقدمة، إلى أن: (التأمين نوع من أنواع الضمان الذي هو عقد مشروع في الإسلام، ولكن مع إجراء بعض التعديلات لتشمل كل شيء قابل للملكية ولو الإعتبارية منها أو المنافع او الأمور التي لها طابع السلطة والتصرف حيث لا هي قابلة لملكية أعيانها ولا منافعها كما في الإنسان الذي يؤمِّن على حياته، فإن الإنسان لا يملك نفسه حقيقة ولا يملك منافعها، بل هو مسؤول عن نفسه وعن تصرفاته دون وجه الملكية)، وبتعبير المعلق الشيخ الغديري: (التأمين تفعيل من الأمن وزنًا ومعنًى، لغة واصطلاحا، وذلك من العقود الجائزة في الشريعة الإسلامية، والعقل يحكم بصحته واعتباره يعد اعتبارًا مستقلًا بملاحظة ما فيه من جانب التعاون بين أبناء البشرية، والإحترام العملي بما تقضيه الفطرة السلمية من وجوه البر والتعاون الحسن والإحسان، هذا من جانب، ومن جانب آخر أصبح التأمين من أهم ما يرتكز عليه في الحياة العامة من الإفادة والإستفادة معنًى أو مادة أو كليهما معًا، فعُدَّ من المعاملات ذات المنافع والفوائد المحضة).
عقد عقلائي
هناك لغط لدى بعض فقهاء المسلمين تجاه عقد التأمين، فبعضهم يرى بحرمته تحت مدَّعى الربا أو المقامرة وشبهة المال السحت (الحرام)، لكن الفقيه الكرباسي يرى أن: (التأمين بعيد كل البعد عن الربا، فلا مجال للربا فيه من حيث كونه تأمينا، نعم قد ينفذ اليه كما ينفذ إلى كل المعاملات الأخرى، كما ليس هو من المقامرة، كما أشار إلى ذلك البعض من أرباب المذاهب الأخرى، لأنه لا يعد من أكل المال بالباطل، بل بات اليوم عقدًا عقلانيًا بدونه يعد عمل الشخص وبالأخص الشركات والمصانع عملا غير عقلاني، لما تتعرض له من المخاطر التي تواجهها وينتهي معها كل شيء)، وعلى أي حال كما ينوّه الفقيه الكرباسي: (فإن عقد التأمين عقد عقلائي لا ينافي الثوابت الشرعية وهو جارٍ في كل شيء له اعتبار لدى العقلاء ولا يُعد أكلًا للمال بالباطل، وأصبح اليوم عقدًا محوريًا له ارتباط بمعظم العقود والمعاملات والتفاهمات وبات لصيقًا بها لا يمكن الفصل بينه وبينها بحيث أصبحت جلّها متوقفة عليه).
وفي الواقع أن عقد التأمين فيه جنبة اجتماعية كبيرة، معها تقل المشاكل والمعارك الجانبية ويحفظ المرء كرامته وماله، كما في حال الإصطدام بين مركبتين على سبيل المثال، أو تعرض المحل او المنزل أو السيارة أو المصنع وما شابه ذلك للسرقة أو للأضرار الجانبية لأسباب مختلفة، وكما يشير الفقيه الكرباسي أن: (التأمين هو علاج اجتماعي للنفوس يبعث في الإنسان روح الطمأنينة ليأخذ دوره في العطاء اللامتناهي وهو ضمانة لحركته نحو المستقبل المجهول) بخاصة وأن: (انبعاث الأمل في النفوس هو أحد أهداف الإسلام وشريعته الغراء)، مضيفا: (إن التطمين وبعث الأمل في النفوس من مزايا الإسلام حيث هو دين حياة، وما يقال عكس ذلك فإنما هو تخرص محض، ومن هنا نجد أن فقهاء المسلمين كانوا ومازالوا على أتم استعداد لدراسة كل جديد لإعطاء الحكم الشرعي بعد استنباطه من العموميات المتوفرة لديهم من خلال الأدلة التي تركها القرآن الكريم والحديث الشريف).
شرط الوفاء
يتألف عقد التأمين كما يوجزه الفقيه الكرباسي في باب “أحكام التامين” من أركان ستة هي: المؤَمَّن (المستأمن)، المؤَمِّن، المؤَمَّن عليه، التأمين، العوض (المال الذي يدفعه المؤَمِّن)، والبديل (المال الذي يعوِّضه المؤَمِّن للمؤَمَّن)، ويُشترط في المؤمَّن عليه أن يكون تحت سيطرته وتصرفه وأن يكون قابلًا للتأمين، ومن لوازم عقد التأمين أربع: تحديد المؤمَّن عليه، تحديد العوض، تحديد المدة، وعقد التأمين.
ولعلّ صفة “الوفاء” أهم السجايا التي ينبغي أن يتوفر عليها الذي توافق مع شركة التأمين، لأن التأمين عقد، والعقد قابل للتلاعب بخاصة من الذين يتخذون من التأمين مربحًا ومصرفًا للمال الحرام كأن يقدم على حرق سيارته أو بيته عمدًا، أو تعريض سيارته لحادث مختلق أو تهريبها إلى خارج البلد ثم الإدعاء بسرقتها، أو تفكيكها وبيع قطعها والزعم بسرقتها، أو تعريض بدنه لحادث مختلق وإعاقة مقصودة، وما إلى ذلك من الحيل التي يستخدما البعض ويتفنن بها وربما أخرس لسان إبليس وشلّ يده عن الإتيان بمثلها، فهذا المال المأخوذ من شركة التأمين هو: (حرام ولا يستحق مال التعويض)، وربما يلعب الشيطان في عبِّ الواحد من المسلمن ويرى حلية سرقة شركات التأمين لمن يعيش في الغرب، فيحلل على نفسه ما حرّمه الإسلام، خلافًا لواجب الوفاء بالعقود وأهمية الإلتزام بها تحت قاعدة الناس عند شروطهم، بغض النظر عن إسلامية البلد من عدمه، بل ويرى الفقيه الغديري في تعليقه على مسألة الوفاء والإلتزام بالشروط الممضاة: (ويمكن القول بالتشديد في الحرمة إذا كانت الشركة لغير المسلمين وذلك بلحاظ وجوب حفظ سمعة الإسلام والمسلمين خاصّة في هذا العصر لتوجه التُّهم إلى الأمّة الإسلامية من قبل أعداء الدين إثر أعمال بعض الطوائف المنتسبة إليها)، وعليه كما يفيد الفقيه الكرباسي في مسألة الوفاء بالعقود والعهود: (لا يجوز التلاعب بالأوراق أو غيرها للحصول على التأمين أو أي شكل من أشكال التلاعب وما يحصله إن كان خارجًا من الاتفاق فهو حرام وسُحت).
لاشك أن التأمين أصبح ضرورة لازمة لا محيد منها، وهو داخل في كل جزئية من جزئيات الحياة اليومية، وبخاصة في المدنيات الحديثة التي يشتري بها المرء راحته النفسية والجسدية عبر تأمين ما يمكن تأمينه، وإذا كان التأمين في النمط الغربي من المسائل المستحدثة، فإن مهمة الفقيه إراءة الطريق، وهذا ما فعله الفقيه الكرباسي في هذه المسألة وفي غيرها من المسائل الملاصقة لحياة الإنسان، حيث يمثل “شريعة التأمين” الكراس رقم 57 من الكراريس المطبوعة من مجموع ألف كرّاس في موضوعات مختلفة ومتنوعة.