في عالم آخر اكثر واقعية..كان يمكن ان يحسب للسيد رئيس الوزراء العراقي الدكتور حيدر العبادي هدوءه في التعامل مع ازمة قرارات الرئيس الامريكي دونالد ترامب الذي يقيد مواطني عدة دول ذات أغلبية مسلمة من الدخول إلى أميركا، وخياره في عدم جدوى أن ” نجعل الشعب الأمريكي عدواً لنا بسبب قرار صادر من ترامب”.

فبالفعل.. لم يكن من المفيد الانجرار وراء اغراءات المعارك الكلامية الضاجة في مواجهة قرارات تفتقد الى الارضية القانونية والدستورية – بل وحتى الاخلاقية- وكان من الحكمة الرهان على قيم الشعب الامريكي وقواه الشعبية ورسوخ مؤسساته الدستورية والقانونية ونضوج ممارسته الديمقراطية.. والاهم هو الوعي الصائب بان اي موقف آخر لم يكن سيتمخض الا عن بعض المبارزات الاعلامية و السجالات الرعناء وحفلات السخرية وجلد الذات العنكبوتي المتطاول على ساحات التواصل الاجتماعي ..

نعم..يجب ان يحسب للسيد العبادي تصرفه الهاديء والعقلاني وهو يرى اسم العراق محشورا ضمن قائمة من الدول وتحت عنوان عريض ومؤذي وهو ” الحماية من الإرهاب”.. ولكن هذه الأناة يجب ان لا تمتد حد تجاهل الاشارات الخطيرة التي يمثلها هذا القرار على على طبيعة ومفهوم – وحتى فلسفة – العلاقة ما بين العراق والولايات المتحدة من جهة , ومن جهة اخرى مع بعض دول الجوار – الخليجي بالذات – التي هللت للقرار بشكل  تعفف عنه  الكثير من الامريكيين انفسهم.

وان كانت هناك فسحة من الحكمة تدعو العراقيين – من باب اليأس من الآخر – لتجاهل تلك الزغاريد الاعلامية والرسمية – الخليجية بالذات- التي استقبلت القرار بترحاب اقرب  الى دق الدفوف منه  الى التغطية المهنية لحدث يؤثر بشكل مباشر على مواطني دول من المفترض انها ترتبط معهم بالكثير من الوشائج والقربى , والذي لم يكن اسوأ منه الا ذلك الوجوم الحزين الذي سيطر على رؤوس الاعلام الخليجي ومغرديه- خاصة تلك السحنة التي تذكرنا فورا ببلاد البخور والتوابل الحارة – في تغطية قرار القاضي الفيدرالي جيمس روبارت في ولاية واشنطن بابطال قرار الرئيس الامريكي ترامب لعنصريته وعدم دستوريته..

ولكن من الصعب التغافل عن ان هذا القرار صدر والعراق مرتبط بالولايات المتحدة باتفاقية امنية استراتيجية من المفترض انها تنظم التعاون ” الوثيق ” بين البلدين في تعزيز وإدامة المؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات السياسية والديمقراطية في العراق” وفي ” مكافحة الارهاب المحلي والدولي والجماعات الخارجة عن القانون”.. مما يثير الكثير من علامات الاستفهام حول النوايا المبيتة وراء زج اسم العراق في هذه القائمة في ظل الحرب المشتعلة على ارضه تجاه قوى الارهاب الدولي التكفيري والتي من المفترض ان القوات الامريكية تخوضها كتفا بكتف الى جانب القوات الامنية العراقية..

نقر -مع الكثير من التحفظ – بسيادية القرارات التي تتعلق بالامن القومي لكل بلد, ولا نفتأت على حق الرئيس – الذي هو اولا واخيرا خيار الامريكيين ومشكلتهم – في اتخاذ ما يلزم لحماية امن مواطنيه وسلامتهم..ولكن كل هذا يجب ان يكون في حدود القوانين المرعية والتعهدات والاتفاقيات الدولية, وتحويل العراق من دولة حليفة الى دولة مصدرة للارهاب بجرة مصالح اقتصادية غامضة  مع هذا الطرف او ذاك قد لا يكون الوضع الذي من الممكن للعراق ان يمضي من خلاله قدما في تعزيز تعاونه “الوثيق”مع الولايات المتحدة..

وان كان – وللانصاف – هناك شبح من المسؤولية من الممكن ان نحمله للحكومة العراقية من خلال بعض الضبابية في تحديد خطوط او محددات التعاون مع القوة الاعظم..الا ان مثل هذه التفلتات الطائشة قد تكون ذخيرة اكثر من ملائمة للمعسكر المنادي بتحجيم العلاقات -في جانبها الامني على الاقل – تحت طائلة عدم الموثوقية بالنوايا الامريكية تجاه العراق ووحدته ومستقبل شعبه مما يحتم على حكومة السيد العبادي مصارحة الحليف الاكبر بتلك الهواجس التي نرى ان لها الكثير من الوجاهة – مضافا اليها السياسة الطائشة العجول للرئيس ترامب – مما لا يستدعي تأجيلها الى وقت قد لا يكون فيه مكان للأناة والتمهل وطول النفس..

وهذا الامر هو ما يجب ان يكون في اولوية اهتمامات القيادة العراقية وذلك من خلال فتح قنوات التواصل المباشر مع الادارة الجديدة وعدم التناوم على عبارات الحرص على العلاقات الثنائية وبيانات الدعم الفضفاضة..والاهم هو في توحيد الخطاب الداخلي العراقي وفق المصالح الوطنية العليا وتفعيل القوانين تجاه مروجي الطروحات المكوناتية الضيقة التي اضرت كثيرا بالعراق والعراقيين واخلت بسمعته ومكانته بين دول العالم..