مصطفى ابراهيم :

فشل الانقلاب العسكري  التركي وسقوطه بعد ست ساعات فقط وهو أقصر عمر  لانقلاب   عسكري في التاريخ ويأتي بعده الانقلاب على هوجو شافيز في فنزويلا الذي سقط بعد 72ساعة.. هذا السقوط السريع لانقلاب عسكر تركيا 2016 لم يأت من فراغ  أو مصادفة ولم يكن  ضربة حظ ..   بل توافرت عدة عوامل مهمة وحاسمة لإفشاله  للأسف افتقدناها عندنا في مصر.. أول هذه العوامل وأهمها : وعي الشعب  التركي الذي ذاق ويلات الحكم العسكري الغاشم  واكتوى بمذابح  العسكر وعانى كوارثه وطوامه وفظائعه  وفشله وإخفاقه في كل المجالات  السياسية والحقوقية والاقتصادية والمعيشية والبيئية …  وهوما خبره الشعب التركي عبر الانقلابات الأربعة السابقة  وأصر على رفض معاودة الاكتواء بنيرانه ونيره مرة أخرى   ..وذلك يفسر الإجماع الشعبي و السياسي والحزبي على رفض الانقلاب القاطع الواضح  ..ولولا هذا الموقف وهذا الوعي لنجح الانقلاب حتى لو توافرت باقي العوامل ..

ثانيا : سرعة تحرك الزعيم ” أردوغان” ولوجوئه للشعب  وتوضيح الأمور والإعراب عن ثقته في الجماهير العريضة  التي استجابت لهذا النداء  على الفور وتوحد على رفض الانقلاب والتمسك بالتجربة الديمقراطية  والحريات رغم تحفظ قطاعات من  هذه الأمة  على سياسة النظام الحاكم لأسباب مختلفة ..لكن الحفاظ على التجربة  هو الأساس لإمكانية تداول السلطة وهو ما سيفقده الشعب إذا نجح الانقلاب …ويفسر ذلك تمسك العشب بالنظام الديمقراطي والزعامة ولذلك علت اصواتهم بالتسمية والتكبير والتهليل .. رافعين أعلام تريكا .. وصور أردوغان وعلقوها على الدبابات كما نقلت الفضائيات رغم إنكار البعض لرفع صور أردوغان والهتاف له .

وهو ما افتقدناه في الانقلاب السيساوي لاختلاف الظروف وطول فترة إحكام القبضة العسكرية على مقاليد الأمور وتوغلها في أجهزة الدولة العميقة  وتحالف رأس المال الفاسد والخائن معها.. ومبادرة المؤسسة العسكرية المصرية  بإجهاض التجربة الديمقراطية قبل وعي الشعب أو جنى ثمرات محسوسة من نتائج ثورة يناير.. وساعد على ذلك التباطؤ في اتخاذ خطوات متسارعة لتحقيق إنجازات كبرى مثل الحد الادنى والأقصى للأجور وتحسين الأمور المعيشية لوضع الدولة العميقة بقيادة العسكر للعراقيل ..  وساعد على ذلك انعدام الإخلاص للوطن ممن يسمون بالنخبة  التي كثر فيها العملاء و الخونة   و الباحثين عن المكاسب والمطامع الخاصة والمنقلبة على أساسيات  وقواعد العملية الديمقراطية  إذا لم تفز بالأغلبية أو تحقق مصالحها  الخاصة والحزبية …وأبرز الأمثلة قادة  جبهة الإنقاذ بمختلف  أطيافهم … سواء منهم من يعاني من الوحم الرئاسي  ” حمدين صباحي “.. أو الشبق السلطوي ..أو إدعياء الشرف الوطني والإنساني …أو متلازمة هلسنكي ويشتاق للخضوع تحت بيادة العسكر وجنازير دباباتهم .    

ولعل كل ما سبق يوضح لنا الفارق بين من رقص على أنغام تسلم الأيادي .. وبشرة خير .. ومن يقدسون قادة العسكر ويرفعونهم فوق الشعب والوطن والأمة .. وبين من وقفوا وناموا تحت جنازير الدبابات وهو حال الثوار في يناير و أبطال مجهضي الانقلاب التركي .  

ثالثاً: توافر وسائل إعلام جماهيرية  عديدة معبرة عن الشعب وليست تحت سيطرة العسكر   و الأجهزة الأمنية مثلما  هو الحال في مصر   … وهو ما افتقدناه في مصرنا السليبة  لانعدام أو ضعف وسائل إعلامنا الثوري الإسلامي  وتحالف وسائل الإعلام التابعة لرجال الأعمال الفسدة والخونة بالاتفاق والمعاونة  والدعم من  النخبة النكباء  ونجحوا  في إفساد وعي قطاعات كبيرة من الشعب  وتزيين الحكم العسكري  الفاشي للبسطاء من الجماهير التي رحبت بالانقلاب وساعدته وصدقت أكاذيبه..  بعدما اقنعها الخونة بأن كل صعوبات المعيشة  والانفلات الأمني سببه الثورة وليس الأجهزة الأمنية بقيادة المؤسسة العسكرية   .

رابعاً :وطنية وإخلاص ووعي قطاعات  في الأجهزة الأمنية سواء الجيش الذي لم ينضم  أغلبه  للانقلاب  ولم يطلق  معظم جنود الانقلاب  في الرصاص على الشعب .. وكذلك المخابرات و  الشرطة  والأخيران كان لهما الدور الأكبر إلى جانب الشعب في إفشال الانقلاب وإحباطه ..  وهو ما افتقدناه عندنا أو هو ما يبدو لنا حتى الآن .. باستثناء قيادات عسكرية وسطى في ثورة يناير .. وفيما عدا ذلك فإن مصر تعاني من انعدام الوعي و التجرد والإخلاص   عند  الأغلبية العظمى  إن لم يكن كل  قادة  الأجهزة الأمنية بمختلف تخصصاتها .. بل على النقيض من ذلك الأجهزة الأمنية هي عصا الطاغية وسيفه ودرعه للسيطرة على الشعب وتطويع الأمة لمصلحة الأعداء .

 ـ خامساً: المؤسسة الدينية التركية  الرسمية كان موقفها رائعاً في تركيا  التي فتحت المساجد للمصلين لأداء صلاة الحاجة وترديد التكبير وتلاوة آية “سيهزم الجمع ويولون الدبر” .. وأعلنت منذ البداية موقفها واضحاً  صريحاً برفض الانقلاب الإجرامي .. وذلك بعكس المؤسسة الدينية الرسمية المصرية ” الأزهر والإفتاء وقواعد وزارة الأوقاف”. .والكنائس المصرية الثلاث وحزب  الزورالسفلي ” ليس خطأ مطبعياً” .. ودعاة جهنم الذين يزينون الباطل وينصرونه  حتى اليوم … ويتخذون المواقف المتغيرة والمتلونة لنصرة الطغاة وترسيخ التبعية والفساد  لأعداء الخرج وعملاء الداخل  واتضح ذلك في رفضهم الخروج على الحاكم ايام مبارك وأحلوها في 30 يونيه .

ـ الموقف الدولي : لم يكن رافضاَ صراحة للانقلاب التركي في  أوله .. لكنه أيضاً كان أقل ترحيباً به عنه في مصر .. وهذا الموقف الدولي كان يمكن أن يقبل بالانقلاب ثم يتم تدويره وعودة الحكم المدني الصوري تحت سيطرة المؤسسة العسكرية مثلما قبل بالوضع الجزائري مع  إدخال تعديلات لتتوافق مع قرب تركيا من المعسكر الأوروبي .

وأختم بالإجابة على سؤال  الوقت  على غرار واجب الوقت .. هل كان بالإمكان تلافي الانقلاب في مصر أو إفشاله .. أؤكد ان السبيل الوحيد لإفشاله كان بالإسراع بتصدير المعركة والمشكلات لتكون بين الشعب ومنتفعي ومنافع قادة  الجيش الاقتصادية عبر ضم مصانع الجيش للمواد الغذائية مثل  منتجات مصانع المكرونة والصلصلة والحلل والمزارع  للبطاقات التموينية لعموم الشعب وتخصيص جزء منها للجنود والضباط مثلهم مثل باقي الشعب .. وعبر فضح سيطرة القوات المسلحة على الأراضي ومنع إقامة المشروعات القومية العملاقة الحقيقية مثل استصلاح الصحراء او تحقيق نهضة صناعية .. وفضح سيطرة جمهورية الضباط على مفاصل الدولة ومناصبها وضمان ولائها للمؤسسة العسكرية ..ولم يكن هناك سبيل غير ذلك  سواء استرضاء النخبة السياسية النكبوية الخائنة والعميلة والنفعية .. أو الوقوع فريسة لمزايدات حزب الزور السفلي ..ولاعبر استرضاء القوى الدولية  .. ولو حدث هذا الطرح لظل التأييد الجارف للثورة بل زاد بانضمام القطاعات الشعبية الفقيرة والمعدمة والمتوسطة بل ومعظم الطبقة المترفة التي تتعارض مصالحها مع المؤسسة العسكرية .. ولكانت  الملايين بل عشرات الملايين تحت رهن إشارة من الرئيس والحكومة  للنزول للميادين ومواجهة الدبابات إذا حاول العسكر الانقلاب .. ولكن للأسف عطل تلك الخطوات أخطاء في ترتيب الأولويات أو رغبة تأخير الصدام مع قادة العسكر   أو التركيز في إرضاء النخب السياسية النفعية أو غير ذلك من المقاييس المغلوطة ..  وأكرر  التأكيد أن ذلك كان السبيل الوحيد و أجزم به رغم تأكيدات العديد من الخبراء والرموز والنخب السياسية المخلصة باستحالة ذلك وحتمية نجاح الانقلاب  .

والجزئية الأخيرة ستكون موضوع مقال تال لي بمشيئة الله ….